أصعب أنواع الدكتاتورية هي التي يمارسها الناس ضد بعضهم البعض. سائق الحافلة، الذي يقف في منطقة خلاء ويهدد بإنزال الركاب الذين يحتجون على سرعته المفرطة، ليس أقل سوءا من مسؤول يمسك في يده كل الصلاحيات. وبائع الخبز الذي يبيع الخبز البايت للزبناء لأنهم في حاجة إليه ليس سوى دكتاتور صغير يمارس سلطته الحمقاء ضد أناس لا يملكون قوة الردع. والممرض الذي يطلب 20 أو 50 درهما من مريض لا حول له ولا قوة لكي يؤدي له خدمة هي من واجباته، ليس سوى مريض بالسلطة لأنه الأقوى أمام مريض لا يستطيع أن ينهض ويصفعه. التاجر الذي يحتكر مواده الغذائية ويبيعها بالسعر الذي يريد متسلط، وحارس السجن، الذي يأكل نصف مؤونة السجين قبل أن يسلمها له، دكتاتور جبار. القاضي، الذي يجلس على كرسي العدالة ويرسل أبرياء إلى السجن ويطلق سراح المجرمين لأنه قبض رشوة بالملايين، فرعون بلا حدود. الرجل المتسلط في بيته دكتاتور، والأخ الأكبر الذي يسرق حلوى أخيه الأصغر دكتاتور آخر. مقدم الحومة دكتاتور على السكان والقايد دكتاتور على المقدم، وكل من يرتفع درجة يصبح دكتاتورا على من هو تحته. الجميع يمارس لعبة السلطة. يجب أن تحتقر من هو أدنى منك مرتبة حتى تشعر بأنك الأقوى، ويجب أن تنسى شيئا اسمه الرحمة حتى يحترمك الآخرون. المغاربة لديهم مقولة عجيبة تترجم هذا الواقع تقول إن «الناس يخافو ما يحشمو». هذه القاعدة أصبحت منهاج الناس في تسيير شؤونهم اليومية، لذلك انتشرت عدوانية غير مفهومة في مجتمع لايزال يكافح من أجل الخروج من الأمية والفقر والبطالة والتخلف. الناس قرروا الدخول في حروب صغيرة ضد بعضهم البعض عوض مواجهة المسؤولين عن تخلفهم. إنهم يشتمون بعضهم ويرون في ذلك وسيلة مناسبة جدا من أجل التخفيف من الاحتقان. أما ذلك المفكر الغبي الذي قال إن الضغط يولّد الانفجار فلم يكن يعرف أن الانفجار يوجد فعلا، لكنه انفجار الناس على بعضهم البعض. في كل المدن المغربية وفي كل القرى، هناك الآلاف من الحوادث التي تقع يوميا بين أناس بسطاء، كل واحد منهم يحكي انتفاخا صولة الأسد. كل إنسان يريد أن يكون حجمه أكثر من حجمه الحقيقي لأنها الوسيلة الوحيدة لكي «يخلع» الآخرين. كان المغاربة في الماضي يستعملون كثيرا عبارة «اعرف راسك مع من كتهضر»، وهي عبارة كانت تولد الخوف في نفس الخصوم. بل إن شخصين عاطلين يجلسان فراس الدرب يتعاركان من أجل نصف سيجارة، وفي النهاية يهدد كل واحد منهما خصمه بأنه سيدخله السجن ويقول له: «اعرف مع من كتهضر»، لكن مع مرور الوقت أصبح الجميع يستخدمون هذه العبارة، لذلك فقدت مفعولها، ثم أصبحت عبارة «راني نغرّقك» أكثر رواجا، ثم فقدت مفعولها، وبعد ذلك جرب المغاربة عبارات كثيرة فيها جرعة مهمة من الإبداع من بينها: «سير بحالك حسن ليك راه عظامك ما تتحمّلش البرودة»، أو «راني نعيّط دابا على من يربّيك»، لكن كلها عبارات بلا معنى نفد مفعولها مع مرور الوقت لأنها أصبحت «معيّقة»، لذلك أصبح الناس اليوم يدخلون مباشرة في حفلة الشتائم والكلمات النابية بمجرد أن تهتز أعصابهم، واللّي ليها ليها. لم يعد المغاربة اليوم يثقون في شخص يقول إنه مهم، بل ينقضون عليه بمجرد أن يهددهم بأنه سيدخلهم الحبس، لذلك أصبح الكثير من الناس «المهمين» يلملمون أعصابهم الفائرة وينسحبون من العراك في هدوء وهم يقولون لا حول ولا قوة إلا بالله. جرعة العدوانية في المجتمع ترتفع مع مرور الأيام والسنوات، ويزيدها ارتفاعا هذه الضغوط اليومية الرهيبة التي يتعرض لها الناس في أعمالهم ومنازلهم وفي الأزقة والإدارات ووسائل النقل. أكثر العبارات التي استعملها الناس في تطاحناتهم اليومية هي «اللّي ما عندو سيدو عندو لالّاه».. لكن تبين مع مرور الوقت أن لا سيد في هذه البلاد غير المال، وأن الجيوب المنتفخة وحدها التي تفتح الطريق في البحر، وتجعل من الفأر قطا ومن القط نمرا.. إنها تحول الضبع إلى فيل والحمار إلى أسد.