إذا كان المشرق أرض الأنبياء والرسل، فإن المغرب أرض الأولياء الصالحين، إنهم الأولياء الذين لم تشيد لهم الأضرحة فقط في مراكش وفاس والرباط، بل أيضا في إسبانيا التي عاش بها المسلمون والعرب، الذين يشكلون اليوم جزءا من سكان المغرب، طيلة ثمانية قرون. وعندما غادر المسلمون فردوسهم المفقود صوب الرباط وفاس وتطوان قبل خمسة قرون أخذوا معهم كل ما استطاعوا إليه سبيلا، لكنهم تركوا إلى جانب قصر الحمراء في غرناطة ومسجد قرطبة عدة أضرحة لأولياء صالحين من عهد المرابطين والموحدين منتشرة في عدة قرى ومدن إسبانية لا يتحدث عنها أحد، لأنها باتت مجهولة تماما اليوم، فقد دمر حقد الكنيسة الأسود عددا كبيرا منها، بينما بقيت أضرحة أخرى تقاوم مدة قرون قبل أن تدثرها السنون بغبار النسيان. في قلب مدينة فلنسية يرقد ولي مرابطي مجهول، لا أحد يعرف اسمه الذي نسي بعد مئات السنين، لم يعد ضريحه أكثر من نافورة على شكل تابوت تتبول عليها الكلاب الإسبانية المدللة يوميا وهي تعبر رفقة أصحابها «كايي هوسبيطال» في قلب فلنسية. إنه ولي تشبه قصته أساطير الجنود المجهولين الذين عانقوا الموت في حمأة الحرب العالمية الثانية أو قصة جنود آخرين ماتوا في مضيق جبل طارق من أجل كسرة الخبز، وتحولوا بعد موتهم إلى مجرد أرقام باردة في مقابر مجهولة. وتقول الكاتبة الإسبانية المستعربة لولا باينون، وهي تقف على بعد مترين من نافورة التابوت: «انظر على يسارك، تحت هذه النافورة يرقد مرابطي (هكذا سمته بلغة إسبانية تغلب عليها لكنة أهل فلنسية)، إنه أحد أسرار المدينة التي يتكتم عليها حتى القلة ممن يعرفون بالأمر، لم تزله سلطات المدينة لكنها عوضت النافورة القديمة، التي كانت تدل عليه نسبيا، بأخرى أشبه بتابوت لا تدل على أي شيء»، وتضيف الكاتبة بصوت خافت يبعث على الرهبة، وكأنها تحكي سرا لا يجب أن يطلع عليه غريب، خصوصا عندما يكون هذا الغريب مغربيا: «كانت الأجيال السابقة تعرف بأمر الضريح، بيد أن الأجيال الجديدة، التي تمثل غالبية سكان المدينة، يجهلون الأمر تماما، ولا أحد يعرف اسمه، كل ما نعرفه أنه ولي صالح مرابطي مدفون بجوار كنيسة كانت في الأصل مسجدا». يرقد الولي المجهول على بعد أمتار من كنيسة متآكلة، وضعت في سطحها مجسمات ملائكة وكتب على لوحة تذكارية قرب الباب أنها شيدت في بداية القرن الرابع عشر، دون الإشارة إلى أنها في الأصل كانت مسجدا هدمت مئذنته، ومازال محراب المسجد القديم يتوجه صوب مكة، مثله مثل باقي الكنائس القديمة في المدينة. وربما كان آخر ما توقعه الولي المرابطي المجهول، أن المسلمين سيطردون من فردوسهم، وسيتحول بعدها بقرون إلى مجرد قبر معزول فوقه نافورة باردة في قلب مدينة شقراء، اسمها فلنسية.