«جمال الدبوز.. الحقيقة». كتاب يرصد حياة الكوميدي الذي انتصب منذ الرابعة والعشرين من عمره كواحد من أكبر مشاهير الكوميديا في فرنسا. ويعمد الكتاب إلى مقارنة ظروف نشأته وظروف نشأة الكثيرين من المغتربين الذين يعتمل السخط في نفوسهم لما يعانونه من تهميش متزايد داخل أحياء ومساكن شبه معزولة. ومن خلال شهادات وروايات أصدقاء جمال وأقاربه يقدم الكتاب فوتوغرافيا تحليلية لطفولة الكوميدي ومراهقته، ويتجاوز هذه الأرض إلى ما يتماهي مع التحليل النفسي الدقيق لشخصيته التي تلقت في إرهاصاتها الأولى صدمة مأساوية بعد أن اقتلع القطار سنة 1990 ذراعه الأيمن في ظروف أقل ما يقال عنها إنها عبثية. ويذهب إلى أن هذا الحدث قد يكون على بشاعته من العوامل الأساسية التي أيقظت فيه شعلة الإبداع، وحولت تلك الذات المكتوية برواسب الإعاقة الجسدية إلى ذوات متشابكة ومتصارعة فجرت تعقيداتها سيلا متدفقا من المشاهد العبثية. انتقلت أسرة جمال إلى الشقة التي اشترتها بضاحية طراب الباريسية بمبلغ 450.000 فرنك (700 ألف درهم) مؤدى على عشرين سنة بنسبة فائدة تقل عن اثنين في المائة، باعتبار الدعم الذي تتحمله الدولة لفائدة الأسر ذات الدخل المحدود. وتضم الشقة في طابقها السفلي صالونا مفتوحا على الحديقة الخلفية ومطبخا مندمجا وغرفة للضيوف، بينما يحتوي الطابق العلوي على ثلاث غرف وحمام بمستلزماته الصحية، ورشاش ومرحاضين. اكتملت سعادة الأسرة التي تعززت في منزلها الجديد بمولودين جديدين، رشيد (1985) ونوال (1988)، فيما التحق بها الخال حامد، لاستكمال دراسته بفرنسا. رحابة الصالون التقليدي المغربي لم تكن تضيق بالوافدين من أقارب وأصدقاء جمال، الذين يجدون في سعة صدر والدته مناسبة للاستلذاذ بما طاب من فطائر وعجائن وحلويات انهمكت طوال الليل في إعدادها إرضاء لأطفالها وتباهيا أمام أقرانهم بظروف الحياة الرغيدة التي يعيشونها. اهتدى جمال، بعد سنوات قليلة من إقامته بالمنزل الجديد، إلى جعل جناح الحديقة الخلفية مقرا لتربية الكلاب، حتى وإن أبدى جيرانه بعض القلق من النباح المسترسل طوال الليل. وكان لهذه التجارة التي لقيت بعض الرواج في الأحياء المجاورة، أن ساعدت الأسرة على تغطية نفقات أواخر الشهر، ووفرت لجمال مصاريف الجيب الضرورية لبعض رغبات المراهقة ونزواتها. في ضاحية طراب تبدو الحياة عقيمة بالنسبة إلى جمال الذي تعود في حي باربيص، مسقط رأسه، على حركة الرواج والصخب السائد في دروبه الضيقة التي تقربه بطقوسها وتوابلها وألوانها من بيئته المغربية. كل شيء في الضاحية يوحى بالرتابة والملل، والفضاء على شكل غيتوهات معزولة ومتناثرة يزيده إحساسا بالوحدة والفراغ. بدأ البؤس يتسرب إلى الضاحية بعد تزايد نسبة البطالة بشكل موجع في صفوف السكان النشطين وخاصة الشباب، فتحولت في سنوات قليلة إلى وكر للإجرام والمخدرات والانحراف. في هذا الفضاء المشحون بالتناقضات الاجتماعية المختلفة، بدأت ترتسم معالم شخصية جمال الذي بات مسكونا بهوس المستقبل المجهول، تتقاذفه خيارات عديدة بين متابعة الدراسة في السلك التقني وضمان وظيفة في إحدى الشعب المهنية، أو البحث عن آفاق أخرى تفتح له مجال الشهرة والمال. وهكذا فكر في التفرغ لكرة القدم كما فعل صديقه وجاره نيكولا أنيلكا (اللاعب الدولي ولاعب فريق شيلسي الإنجليزي حاليا)، قبل أن تسكنه فكرة اقتحام الفضاء التجاري كبائع أولا ثم مسؤول عن جناح بأحد المتاجر الكبرى بباريس. خيارات عديدة تتحول إلى أحلام واهنة في غياب امتلاك وسائل تحقيقها، ومع ذلك يبقى الإصرار بنفس القوة على اكتساب مكانة مريحة تقيه قهر الظروف الاجتماعية التي نشأ وترعرع فيها، حتى وإن خفت مع امتلاك الأسرة منزلها الجديد. «أنظر إلى أبوي، فأجدهما مثقلين منهكين، وأرفض أن ألاقي نفس المصير»، يقول جمال بكثير من الحسرة الممزوجة بالرغبة في تجاوز ذاته إلى ما يبتغيه وينشده من عيش كريم له ولأفراد أسرته. لم يكن جمال تلميذا نجيبا ولا بليدا في دراسته، كان فقط متميزا بروح الدعابة والهزل، يحلو له في حصة القراءة ابتكار مفردات غير موجودة في النص، وحذف أخرى لأنها لا تتناغم مع مزاجه، وتغيير نبرات صوته بما يتماشى مع أعمار الشخوص الواردة في القصة، وغير ذلك من الابتكارات التي، وإن كانت تغضب أحيانا المدرسين، فهي تلقى تجاوبا واستحسانا من لدن أقرانه. «كنت في القسم المتوسط كثير الدعابة، حتى لا أقول التهريج، أحول الفصل إلى قهقهات عالية كلما جاء دوري لقراءة النص، مما يكلفني بطبيعة الحال بعض الأصفار وعقوبات مختلفة»، يقول جمال قبل أن يجد لنفسه المبررات التي يراها معقولة: «لا ضرر إذا كانت العقوبات توفر لزملائي فسحة من التسلية والاسترخاء». كانت حاجته إلى التميز قوية جدا، وكان يرى فيها الوسيلة الوحيدة لإثبات ذاته: «شغلي الوحيد هو أن أثير الانتباه حولي، كنت نحيفا صغير القامة، وليس لك من وسيلة في المدرسة أو الحي للتميز سوى القوة، التي كانت تنقصني، أو الشغب والدعابة، وكنت ماهرا فيهما. في البيت يخلع جمال معطف الشغب ويتوخى الانضباط الكامل أمام والده الذي يرفض، تحت وطأة التعب، أدنى ضجيج من لدن أطفاله، ولا يتردد في ممارسة العنف الجسدي بكل أشكاله من ضرب وصفع ولكم كوسيلة لإثبات سلطته التأديبية الواسعة. في البيت أيضا، يعرف جمال أنه في قلب المغرب بطقوسه التأديبية والأخلاقية، ولا حيلة له سوى مسايرة الوضع كما يرضاه والده. «أتذكر أن والدي حرص على ابتياع صحن هوائي لإلزامنا بمتابعة برامج التلفزة المغربية. ولا أخفي أنه بفضله تقوى لدينا الشعور بالانتماء والهوية». يستحضر جمال بكثير من الأسى والاشمئزاز ظروف عيش والده داخل الأنفاق الباريسية، ينظف أركانها تحت طائلة الإهانة التي تلحق به من طرف رئيسه. «لم يكن والدي يقوى على الانتفاضة في وجه ذلك المسؤول اللعين الذي كان يثقله بكل الأعباء ويختار له من الأنفاق أوسخها وأصعبها تنظيفا. كان يردد دائما أن عليه أن يلجم فمه لأنه اختار ديار الغربة، وكنت أرى في ذلك ظلما لا يطاق». وهكذا انتهت الإهانات المتتالية والأعمال الشاقة التي أجبر عليها لتربية أبنائه، أن سقط والد جمال طريح الفراش واضطر إلى لزوم البيت إلى الأبد... يتبع