«جمال الدبوز.. الحقيقة». كتاب يرصد حياة الكوميدي الذي انتصب منذ الرابعة والعشرين من عمره كواحد من أكبر مشاهير الكوميديا في فرنسا. ويعمد الكتاب إلى مقارنة ظروف نشأته وظروف نشأة الكثيرين من المغتربين الذين يعتمل السخط في نفوسهم لما يعانونه من تهميش متزايد داخل أحياء ومساكن شبه معزولة. ومن خلال شهادات وروايات أصدقاء جمال وأقاربه يقدم الكتاب فوتوغرافيا تحليلية لطفولة الكوميدي ومراهقته، ويتجاوز هذه الأرض إلى ما يتماهي مع التحليل النفسي الدقيق لشخصيته التي تلقت في إرهاصاتها الأولى صدمة مأساوية بعد أن اقتلع القطار سنة 1990 ذراعه الأيمن في ظروف أقل ما يقال عنها إنها عبثية. ويذهب إلى أن هذا الحدث قد يكون على بشاعته من العوامل الأساسية التي أيقظت فيه شعلة الإبداع، وحولت تلك الذات المكتوية برواسب الإعاقة الجسدية إلى ذوات متشابكة ومتصارعة فجرت تعقيداتها سيلا متدفقا من المشاهد العبثية. كان منزل نعيمة المشرقي قبلة لمحترفي السينما والمسرح، وكان جمال يقصده كلما حل بالمغرب لقضاء ساعات طويلة مع «والدته من حيث التبني الفني». ذات يوم من أيام شتاء 1995، صادف في المنزل الكوميدي سعيد الناصري الذي كان يحضّر لجولة فنية ورياضية دولية، الغاية منها تقوية جسور التواصل بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط. اقترحت نعيمة أن يكون جمال ضمن الفريق المكون من أربعين فنانا ورياضيا، من بينهم على الخصوص المطربة نجاة اعتابو والفكاهي عبد الرؤوف والرياضية نوال المتوكل، وقد خاطبه سعيد ممازحا: «سأخلق منك نجما»، مضيفا أن النجاح في مجال الفن «يتوقف على 75 في المائة من الحظ، و20 في المائة من الموهبة و5 في المائة من العلاقات، ويبدو أنك تستجمع كل هذه المؤهلات». تألق جمال كعادته في هذه الجولة التي استغرقت عشرين يوما (من 5 إلى 25 أبريل 1995)، معتمدا في عروضه على ما دونه من سكيتشات على الحاسوب بإلحاح من «بابي». قرر جمال بمجرد عودته من رحلته الفنية التي شملت عدة بلدان أوربية، اقتحام عالم الفرجة الاحترافية. وكان يلزمه بعد أن فقد ذراعه الأيمن، اقتناء الميكرو-المجهري المثبت تحت ربطة العنق، وهو جهاز باهظ الثمن تمكن من الحصول عليه بفضل دعم والدته التي اقترضت 40 ألف فرنك فرنسي (60 ألف درهم) وبفضل العلاقة التي كانت تجمع صديقه أحمد غياط بسفير المغرب بفرنسا، محمد برادة، الذي نظم حفلا خاصا بمنزله بضاحية نويي البورجوازية التي يقطنها الرئيس ساركوزي على شرف جمال. حضرت الحفل ثلة من الشخصيات السياسية والثقافية الوازنة من أمثال الوزير الاشتراكي ستروسكان (مدير البنك العالمي حاليا) وزوجته آن سان كلير معدة البرنامج السياسي الشهير «7/7» وفريدريك ميتران شقيق الرئيس ميتران وغيرهم. وصل جمال رفقة والده الذي قرر البقاء في انتظاره داخل سيارته «بوجو» المتهالكة، إلى حين انتهاء الحفل. لكن موقف السفير كان فيه الكثير من الإلحاح: «لا يليق أن تبقى داخل السيارة، ثم إن وجبة إضافية للسيد أحمد الدبوز لن تضر في شيء». مر الحفل في أجواء مطبوعة بشيء من الود والحميمية، حتى إن السفير المغربي اقترح أن يتحف جمال الحضور بأحد عروضه الهزلية التي أوقعت الجميع في هستريا من الضحك والقهقهات على إيقاع لغة جريئة بل فاحشة أحيانا تنطق بلسان الضواحي وما يعتمل في نفوس أبنائها من تمزق وضياع. لم تمر سوى بضعة أيام حتى توصل جمال من سعادته بشيك بمبلغ 20 ألف فرنك من ماله الخاص، يقول ويؤكد أحمد غياط. اقتحم جمال بإصرار وعزيمة قويين فضاء الفرجة الاحترافية، بعد أن اقتنى جهاز الميكرو-المجهري. وغدا ومعه «بابي» يبحث في كل يوم عن قاعات للعروض يستأجرها أو تعرض عليه لتقديم أعماله المختلفة التي أحدثت هزة قوية في الأوساط الإعلامية الفرنسية بدءا من «لوباريسان» التي رأت فيه نجما فريدا في الارتجال المسرحي، إلى «لوكانار أونشيني» التي اعتبرته لسان الضواحي المتمرد وقلبها المشحون بالمعاناة، ومرورا بمختلف الصحف والقنوات والمحطات الإذاعية التي أفردت له حيزا وافرا من نشراتها الرئيسية وبرامجها الفنية. وبينما هو ماض في التألق وفي تكريس أسلوبه الخاص المختلف عن أنماط الفرجة والتسلية المعهودة، اتصل به أحد المنتجين ليعرض عليه عقدا بمليون فرنك مع سيارة وشقة إضافيين، مقابل التزامه العمل معه لمدة سنوات. كان العرض مغريا لشاب في العشرين من عمره لم تلمس أصابعه أكثر من أوراق معدودة تنتهي صلاحيتها بعد أسبوع على الأكثر. كاد أن يوافق على الفور لو لم يسمع بداخله صوتا يقول «ما دام عرض المليون دفعة واحدة، فلأنني أستحق ضعفه بالعشرات». رفض العرض ببرودة جليدية أمام ذهول «بابي»، ووالده الذي كانت عيناه وجوارحه تلمح بالقبول دون أن يدرك أن مفاجآت أكثر إغراء تنتظر من كان سيمتهن البيع بإلحاح منه. ذات مساء، وبينما انتهى من عرض آخر أعماله الهزلية بإحدى القاعات الباريسية، لم يفطن حتى نبهه أحد المعجبين بتواجد جاك مساديان وفرانسوا بيزو، وهما من كبار المستثمرين في الإعلام الفرنسي، يملكان مجلة «أكتوييل» الأسبوعية وعدة محطات إذاعية وتلفزيونية محلية. كان الاثنان يتتبعان خفية عروضه إلى أن صمما على التعاقد مع جمال. «يكفيك أن تذهب إلى القاعات السينمائية لتشاهد الفيلم وتحكيه بعد ذلك بطريقتك على أمواج إذاعة نوفا، ولك منا بالمقابل تعويضا يليق بموهبتك الجميلة في تقمص الشخصيات». لم يتردد لحظة في التوقيع على العرض الذي سيكسبه، من جهة، المال الضروري لحياة معيشية مريحة، ومن جهة أخرى الشهرة التي هو في حاجة إليها لاقتحام فضاءات أكثر شموخا وتميزا.. يتبع