وزان مدينة مليئة بالمقاهي ولاشيء آخر. بين مقهى وآخر هناك قاعة شاي. إنها الفضاءات الوحيدة التي يرفه فيها أبناء المنطقة عن أنفسهم. يتحدث فيها الوزانيون عن المدينة الجبلية الصغيرة المهملة وآلاف المعطلين المحبطين، ويتذكرون قصص «الشرفة» الوزانيين والزيارتين اللتين قام بهما ملك البلاد، كما أنهم لم ينسوا بعد كل تلك «الوجوه المجهولة»، التي تحدثت باسمهم على القناتين الأولى والثانية، ويحلمون بغد أفضل. «وزان هي المدينة الوحيدة في المغرب التي يبدأ فيها الناس لعب البارشي والكارطا في المقاهي على الساعة الثامنة صباحا»، هكذا علق أحد الصحافيين الذي زار وزان مؤخرا، وفوجئ بالعلاقة الكبيرة التي تربط سكانها بالمقاهي. وزان ليست فيها حدائق كثيرة مثلها مثل أغلب مدن المملكة. سكانها يتفاخرون بأنهم أبناء «دار الضمانة» وأن مدينتهم تضم أكثر من أربعين وليا صالحا. وبعض سكانها لازال يصفها ب«المدينة الحصينة» لأنها لازالت خالية من الحانات. ويبقى من أهم أحاديث أهل المقاهي في المدينة العتيقة، هذه الأيام، هو «الزيارتان اللتان قام بهما محمد السادس للمدينة في السنة الماضية» بحيث يعلق أحد الظرفاء الوزانيين: «سننتظر مرور الملك مرة أخرى ليتغير وجه المدينة البشع». وزان، المدينة الجبلية الصغيرة المهملة التي توجد على نفس الطريق من مكناس إلى الشاون، في الشريط الجنوبي لجبال الريف، كانت في أواسط وأواخر القرن الرابع عشر «ملجأ ليهود الأندلس والمجرمين»، أما اليوم فلا حديث لأبناء هذه المدينة إلا عن الزيارتين اللتين قام بهما ملك البلاد لمدينتهم والمشاريع التي دشنها، كما أنهم لم ينسوا بعد تلك «الوجوه المجهولة»، التي تحدثت باسمهم على القناتين الأولى والثانية. غير أن الظريف الوزاني اعتبر أن «أهم ما حققه الملك للوزانيين عندما قرر زيارة المدينة هو أنه فضح شرفة الزاوية». قد يبدو كلام «الظريف» الوزاني في البداية حاقدا، لكنه يستطرد مفسرا: «إلى حدود اليوم، لازال الوزانيون لم يفهموا لماذا لم يحدث شيء للملك بعد دخوله لمدينة الأولياء الصالحين مرتين؟» قد يبدو هذا السؤال غريبا.. فما الذي كان يمكن أن يحدث لملك البلاد إثر زيارته لمدينة «الزيتون والصوف» مرتين؟ الجواب.. لا شيء. لكن العديد من الوزانيين لم يقتنعوا بعد بنهاية الأسطورة التي صدقوها-لزمن طويل- بعد أن روج لها «الشرفة» الوزانيون والتي تزعم أن «الملك محمد الخامس توفي مباشرة بعد زيارته لدار الضمانة، لأن الشرفة غضبوا منه.. كما أن الملك الحسن الثاني لم يتجرأ على زيارة أرض الشرفة خوفا من لعنتهم». وبما أن الأساطير تلد الأساطير، فإن آخر ما يتداوله الوزانيون حين يحاولون الإجابة عن السؤال السابق هو أن «الملك لم يحدث له شيء لأنه استبدل «بلغته» –الحذاء المغربي التقليدي- ب«بلغة» الشريف الوزاني، وهو ما يدل، في نظرهم، على أن الشريف «منح الأمان لملك البلاد». لكن الظريف الوزاني يسخر من هذا الكلام بنفس اللكنة الجبلية التي تحدث بها في البداية، ويعلق مستهزئا: «الشرفة طاح عليهم البق وصافي».. ويضيف: «في الأسبوع الذي أمضاه الملك في شفشاون حملوا حصانا وذهبوا به إلى هناك وقدموه كهدية من الشريف إلى الملك.. وقالوا له إنهم لا يعارضون إقامة العمالة في وزان.. لأنهم ببساطة أحسوا بالبساط يسحب من تحت أقدامهم». بركة الشرفاء الحاج احمد (65 سنة) لا يتردد في وصف الوزانيين ب«الناس الذين عاشوا دائما في الوهم، وظل كل كلامهم حبيس المقاهي، التي تتكاثر يوما بعد يوم في المدينة»، دون أن يغير شيئا من جلسته على طاولة المقهى الشعبي الذي تعود الجلوس فيه كل يوم مباشرة بعد صلاة العصر، وشم «النفحة البلدية» رفقة أصدقائه الشيوخ، قبل أن يضيف بحنق واضح: «الوزانيون صاروا يعرفون أكثر من أي وقت مضى أن الشرفة، المتبجحين بأنهم أدارسة وأنهم أحفاد فاطمة بنت الرسول، نهبوا خيرات المنطقة باسم آل البيت، وحولوا أبناءها إلى عبيد لديهم»، ويستطرد «لقد كانوا في الماضي يذهبون عند الفلاحين البسطاء لأخذ أراضيهم بالقوة بدعوى أن الشريف الوزاني يريد هذه الأرض، والناس خوفا من غضبة الشريف كانوا لا يترددون في تسليمها.. ويرفضون حتى أخذ ثمن البيع طمعا في بركة الشريف ورضاه عليهم». بين أزقة وشوارع المدينة الجبلية الصغيرة، التي تختلف الروايات حول تاريخ ظهورها ومؤسسها، وبعيدا عن الأساطير، تتكشف للزائر معالم علاقة متوترة جمعت، ولعقود طويلة، الزاوية الوزانية بالسلاطين العلويين، وبالقرب من ضريح مولاي عبد الله الشريف يتذكر أبناء المدينة ما كتبه محمد بركاش من كون «مولاي عبد السلام الوزاني طمع في عرش الملك الحسن الأول لأن تأصل الوزانيين من فاطمة بنت الرسول يمكنهم معه أن يطمعوا في العرش»، كما أنهم لم ينسوا بعد جواب «الشريف» مولاي التهامي الوزاني عندما سئل عن سياسة السلطان مولاي اسماعيل فقال قولته المشهورة: «فين تبان دجاجة مولاي اسماعيل في بحر التهامي». لم يهتم الحاج أحمد كثيرا بهذا الكلام، وبنشوة كبيرة استنشق «سطرا آخر من نفحته البلدية القوية»، دون أن تدمع عيناه، ودون أن تباغته العطسة.. بعد ذلك ابتسم ابتسامة كبيرة أبرزت فمه الخالي من الأسنان، وعلق بحكمة شيخ في عامه الخامس والستين «زمان كانت هذه المدينة الأجمل، أما اليوم فالأوضاع كلها متردية ولا تجمعها إلا المقاهي». زمان آخر في مقهى «النسيم» القريب من وسط المدينة، ينطلق حديث سياسي بين العديد من شبان المدينة حول زيارة الملك المقبلة للمنطقة، والمتوقعة في الشهور القليلة المقبلة، ولا يتردد أحدهم في القول: «يبدو أن «إم سيس» عكس والده ما كايخافش من التقواس ولا اللعنة ديال شرفة دار الضمانة»، حيث إن الحسن الثاني، حسب تصريحات متطابقة لمجموعة من الفاعلين بالمدينة، كان دائما يختار المرور بطريق غير معبدة ومليئة بالرمل والحصى لدوار «عين بيضة» القريب جدا من مدينة وزان، بدل المرور بموكبه الملكي وسط الشوارع المعبدة لمدينة الشرفة والزاوية، وهو ما اعتبره واحد من فقهاء أحد المساجد الوزانية «نهاية زمن الخوف من الشرفة»، كما صرح مسؤول سابق بالمنطقة بأن علاقة الحسن الثاني بوزان «كانت أكبر من مجرد خوف من الزاوية، لأنه كان يكره المدينة لذلك فالوزانيون لم يسبق لهم أن رأوا وجه الحسن الثاني خارج شاشة التلفزيون، كما أنه لم يتجرأ يوما على القيام بزيارة رسمية إلى المدينة». في المقاهي الكثيرة ل«دار الضمانة» يعيد الوزانيون رسم معالم التاريخ السياسي لمدينتهم. ويعرفون أكثر من غيرهم أن زاويتهم هي من أقدم قلاع المعارضة للعلويين. كما يعرفون أيضا أن مدينتهم كانت تضم أقوى تيارات اليسار الجذري المغربي في السبعينيات، وهنا يعلق هشام.ك، أحد الناشطين الجمعويين بالمدينة: «السياسة كانت دائما السبب الرئيسي في تهميش المدينة»، ويستطرد: «كل المجالس البلدية التي سيرت المدينة في السنوات الماضية كانت مليئة بلصوص المال العام». كتب المؤرخ «والتير هاريس» أن «العائلة العلوية والعائلة الوزانية تعيشان التنافس والحسد الأبدي». ومنذ التاريخ القديم، تنازل السلطان للوزانيين، عن الخضوع لنفوذ السلطة المحلية، ورغم ذلك بقيت الزاوية الوزانية تتمتع في كثير من المناطق بنفوذ أقوى من نفوذ السلطة». لكن وزان في 2008 لم يعد يهمها ما كتبه «والتير هاريس» أو ما كتبه الآخرون، لأنها اليوم تعيد كتابة واقع حالها في المقاهي وتحاول نسيان «جرائم التاريخ». قليل من التاريخ في الزقاق الضيق المؤدي إلى «المسجد الأعظم» بمدينة الأربعين وليا تعود إلى أذهان سكان «دار الضمانة» قصة الشريف مولاي عبد السلام الوزاني، الذي حصل على الجنسية الفرنسية، واختار بعد ذلك زوجة إنجليزية من عائلة «كانطربوري» اسمها «إيميلي» وسماها أميرة وزان، كان ذلك في أوخر سنة 1880، وفي عز ملك الحسن الأول. وكانت «إيميلي» فتاة مسيحية جميلة جدا كما تصفها نساء وزان، قبل أن يعلقن بسخرية: «كانت زوينة بزاف، على داكشي الشريف لم يتردد للحظة واحدة في تطليق زوجاته الثلاث السابقات عليها»، وقد أثار الزواج آنذاك ضجة كبيرة في أوساط عائلات الشرفة، ولم يعد سكان المدينة ينظرون إلى مولاهم الشريف عبد السلام كزعيم روحي كما كان من قبل. وفي مقهى «الفلاح» كما في مقهى «الزيتونة»، يتذكر العديد من الشبان أنه كان هناك أيضا شريف آخر يدعى مولاي عبد الله بن ابراهيم، وهو الذي حاول أن يصير سلطانا في المغرب سنة 1700، حيث أنشأ مجموعة دينية/سياسية عرفت ب«الطيبية» وأصبحت القوة الحاكمة في المدينة، وترأسها مولاي ابراهيم نفسه، وكان هذا الشريف يعتبر من أقدس الرجال في البلاد، وكان ينظر إليه باحترام شديد، كما كان يعيش في مكان للتعبد خارج المدينة محاطا بالحدائق، التي فقدت بعض مجدها الماضي، ولم يكن يتردد الشريف في جلب الحواشي والعبيد.. وكان العديدون ينادونه ب«السلطان». إن تاريخ مدينة وزان غير مدقق، كما أن أصل تسميتها بهذا الإسم يبقى غامضا إلى اليوم، وكأنها مدينة لقيطة قذفت هكذا في قلب هذا البلد، فمنهم من يقول إن من أسسوها هم الرومان، ودليلهم على هذا هو أن كلمة «وزان» هي اسم ولي عهد أحد أباطرة الرومان، كما يشير إلى ذلك مقال بالموسوعة الإلكترونية ويكيبيديا، والرواية الثانية تقول إن اسم المدينة ورد في كتاب «الروض المنيف»، حيث أشار المؤلف إلى أن مئذنة المسجد الأعظم هي في الأصل من وضع «الفاتح» موسى بن نصير، وهذا في عهد بني أمية، أما الرواية الثالثة فتقول إن تاريخ المدينة يعود إلى القرن السادس الهجري، وهو ما جاء في كتاب «دعامة اليقين لمؤلفه أبي القاسم العزفي».