[email protected] في ديوانه «حالة حصار» يطلب محمود درويش من النقاد ألا يفسروا كلامه «بملعقَة الشاي أو بفخاخ الطيور!»، قبل أن يضيف: «يحاصرني في المنام كلامي، كلامي الذي لم أقُلْه، ويكتبني ثم يتركني باحثاً عن بقايَا منامي...». وبعد مجموعة من الكتابات والإصدارات الجميلة الموزعة بين الشعر والنثر، لعل آخرها «في حضرة الغياب»، حيث «النثر جار الشعر ونزهة الشاعر»، تأتي «حيرة العائد»، على شكل «مقالات مختارة» تتوزعها ثلاثة محاور، عبر جزء أول، يلخص لعنوان المؤلف، يدحرج فيه درويش سؤال «كيف نُحول موطئ القدم في الساحة الخلفية المليئة بالألغام والفقر إلى شروط حياة صالحة لتأسيس وجود إنساني حر قابل للتطور ولكسر قيود الفارق بين الدولة والوطن»، وفي مرحلة ثانية، يحتفي بتوفيق زياد وإميل حبيبي وفدوى طوقان وممدوح عدوان وياسر عرفات وسمير قصير ومحمد الماغوط واسماعيل شموط وجوزيف سماحة وبدر شاكر السياب ونزار قباني وسعدي يوسف، أما في المرحلة الثالثة فيتحول شاعرنا إلى الوجه الثاني من عملة الإبداع، عبر عنوان «ولادة الشعر العسيرة»، وخصوصاً من خلال سؤال «هل مازال الشعر ضرورياً؟»، و«الشعر بين المركز والهامش»، و»مهنة الشاعر»، و»الولادة على دفعات»، وهي المقدمة التي كتبها للمختارات الشعرية الصادرة عن دار غاليمار، تحت عنوان: «تضيق بنا الأرض».. وقصائد أخرى، والتي شكلت مناسبة جميلة للتعرف على وجهة نظر شاعرنا بصدد «خدعة» المختارات و«خيانة» الترجمة. يرى درويش أن «المختارات تنطوي دائماً على خدعة»، مشيراً إلى أن «في وسع من يختار أن يصنع بشاعره ما يشاء»، أي «أن يختار البؤرة المشعة في القصيدة تاركاً جانباً ما تحدق إليه من ظلام، مهملاً سياقها العام... سياق القصيدة وموقعها من شعر الشاعر»، كما يكون في وسعه أن يفعل العكس، أي «أن يختار منها طريقها النثري إلى الشعر»، أو أن يركز على صورة، أو استعارة، أو خلاصة، أو حكمة شعرية... منحازاً إلى طريقته في فهم الشعر. وطبقاً لهذا الفهم الخاص، يضيف درويش! «نجعل من شاعر عادي شاعراً استثنائياً ومن شاعر استثنائي شاعراً عادياً.. باستحضار البؤر المشعة أو باستبعادها». وتبعاً لكل ذلك، يبقى السؤال مثيراً للشكوك: «هل نستطيع التعرف إلى حقيقة الشاعر الشعرية من خلال المختارات؟». وإذا كان الجواب بصدد هذا السؤال «نسبياً وقابلاً للتضليل»، يكتب درويش، فإن السؤال التالي يبقى هو الأصعب: «هل نستطيع التعرف إلى لغة الشاعر الجمالية من خلال مختارات مترجمة من لغة إلى أخرى؟». يرى درويش أن «لكل لغة نظامها الدلالي وأسلوبيتها الخاصة وتركيبها النحوي»، وبما أن اللغة في الشعر ليست وسيلة أو أداة، فقط، لنَقْل المعنى، والمعنى في الشعر ليس سابقاً لبنية القصيدة، فإن «على الترجمة أن تنقل ما ليس وسيلة للنقل أصلاً.. إلى نظام لغة أخرى»، وهنا، «لا يكون المترجم ناقلاً للكلمات، بل مؤلفاً لعلاقاتها الجديدة»، كما «لا يكون مصوراً لضوء المعنى، بل راصداً للظل، ولما يومئ لا لما يقول». سيتقدم درويش في بسط وجهة نظره، مراهناً على أن «يتحول مترجم الشعر إلى شاعر مواز، متحرر من نظام اللغة الأصل يفعل في اللغة الثانية ما فعله الشاعر في اللغة الأولى». وفي هذه المرحلة من التتبع، وفي فسحة التحرر هذه، «تُرتكب الخيانة الجميلة التي لابد منها، الخيانة التي تحمي لغة الشعر المنقول من عناد وطنيتها، ومن اندماجها الكامل في مناخ لغة أخرى، في آن واحد». لأجل ذلك، يرى درويش أن «على الشعر أن يحافظ على نفَسه الإنساني العام، القادم من بعيد مشترك من ناحية، ومن ناحية أخرى، عليه أن يحافظ على ما يدلنا على أنه مترجم، أي قادم من خصوصية تجربة أخرى، عبرت عن نفسها بتركيب لغوي مختلف وفي سياق مرجعية ثقافية مختلفة». وهنا، فقط، يمتلك المترجم / المبدع سلطة البناء والهدم، يلاحظ درويش، «فكم من قصيدة كبرى قرأناها بأكثر من ترجمة، فلم تكن هي ذاتها، لا بسبب تعدد مستويات قراءتها، بل بسبب تحكم المترجم في مساراتها وطريقة تنفسها، فلم تعد قصيدة شاعرها فقط، بل قصيدة مترجمها / شاعرها المؤول، أيضاً». فكيف نصدق الشعر المترجم إذاً؟.. يرى درويش أنه سيكون علينا أن «نصدق منه ما يتخفى، وما يتحفز للظهور، ذلك الظل المطل من خلف الكلمات، وربما ذلك البعد الذي يشير إلى وجوده ويغيب».