[email protected] مع بداية السنة الجديدة هناك ضريبة سنوية ندفعها لوزارة المالية من مجموع الأرباح الصافية التي حققتها الشركة المصدرة لجريدة «المساء»، ويبدو أن هناك ضريبة أخرى ندفعها هذه الأيام إلى جانب الضريبة على الأرباح وهي الضريبة على النجاح. أقساطها السنوية ندفعها هذه الأيام الصعبة من رصيد الشهرة والنجاح الذي حققته هذه التجربة الإعلامية الفتية. لسنا من الذين يخشون دفع مستحقات الضريبة على الأرباح، فحساباتنا الإدارية مضبوطة، ولسنا ممن يخشون دفع الضريبة على النجاح، فمواقفنا المبدئية مضبوطة أيضا. فقد آمنا منذ البدء أن مهمتنا الأساسية كصحافيين هي أن نقول الأشياء كما هي، بوضوحها وقسوتها وبشاعتها أحيانا. لإيماننا العميق بهول المسؤولية الملقاة على عاتقنا، خصوصا في هذه الظروف السياسية والاجتماعية الصعبة التي يجتازها المغرب. فلا محاضر الاستماع ولا المحاكمات ولا الغرامات الثقيلة ولا حتى السكاكين الغادرة يمكن أن تجعلنا نشك للحظة واحدة في نبل العمل الصحفي الجاد والملتزم بقضايا المواطنين وانشغالاتهم اليومية. أغلب الأصدقاء والقراء وأفراد عائلتي الصغيرة والكبيرة طلبوا مني أن أتوقف لبضعة أيام حتى ألتقط أنفاسي قليلا، وأتأمل فيما يقع حولي. أن آخذ لنفسي عطلة وأذهب خارج المغرب لأغير الجو، وأتنفس هواء آخر وأرى وجوها أخرى وأنسى قليلا أسنان ذلك السكين الجبان. فكرت جديا في الأمر ووجدت أن أحسن جواب يمكن أن أعطيه لحامل السكين في ليل الرباط هو أن أضمد الجرح وأمر بكشك صديقي الروبيو وآخذ جرائد اليوم وأجلس في المقهى الصباحي لكي أتناول قهوتي المعتادة، ثم أجمع جرائدي وأمر من المكان الذي داستني فيه الأقدام ليلة الاعتداء وآخذ القطار الصباحي كما أصنع يوميا. وكأن لا شيء وقع تماما. أرقام أصدقائي التي ضاعت مني سأستردها، بل بسبب ما وقع ربحت أرقام أصدقاء آخرين لا أعرفهم اتصلوا يواسون ويسألون عني. أصدقاء أحسوا معي بوخز السكين في أيديهم. وبطاقة هويتي الضائعة سأعوضها بأخرى جديدة، مع أنني غير محتاج لها، لأنني أحمل هويتي في شراييني وعلى قسمات وجهي. وستستمر الحياة رغم كل شيء، لأن الكلمات أقوى من الخناجر وابتسامة المهزوم تضيع على المنتصر لذة النصر. لذلك قررت أن أؤجل عطلتي إلى ما بعد. وسأستمر في الكتابة كما تعودت على ذلك يوميا، بنفس الأسلوب وحول نفس المواضيع. فالكتابة هي رئتي الثالثة التي أتنفس عبرها في هذا الوطن المخنوق لكي أظل على قيد الأمل. وصراحة أنا غارق في الخجل بسبب كل هذا الحب العارم الذي غمرني به الأصدقاء والزملاء والقراء والناس البسطاء الذين التقيهم في الشارع والمقهى والمصعد، برسائلهم وأدعيتهم وكلماتهم المواسية الرقيقة. حتى بعض الذين كنت أعتقد أنهم لا يطيقون سماع اسمي أخجلوني بمكالماتهم المستفسرة عن حالي. فعرفت أن ما يجمع بيننا في هذه المهنة أكثر مما يفرق بيننا. وعرفت أيضا ما معنى أن تتعرض لاعتداء وأن تهدد حياتك بالسلاح الأبيض. فقد قضينا في هذه المهنة سنوات ننصت للمواطنين يحكون لنا عن الاعتداءات التي تعرضوا لها في المنعطفات المظلمة على يد اللصوص وقطاع الطرق، لكي نضع صورهم وحكاياتهم في الصفحة الأولى للجريدة. فأحيانا الله حتى أصبحنا نضع صورنا وحكاياتنا نحن أيضا مع اللصوص وقطاع الطرق والمجرمين في الصفحة الأولى للجريدة. فقلت مع نفسي أنه إذا كان خبر تعرضي للاعتداء قد استدعى حضور والي الأمن بالرباط وكل رجاله تقريبا لمتابعة تفاصيل الاعتداء، واستدعى إرسال مديرة الأخبار بالقناة الثانية الزميلة سميرة سيطايل لفريق تصوير لتسجيل روبورتاج معي حول الحادث، واستدعى اتصال كل وكالات الأنباء الوطنية والدولية ومنظمات حماية حقوق الإنسان من أجل كتابة قصاصة حول الاعتداء، واستدعى اتصال الكثير من المسؤولين الحكوميين على رأسهم وزير الاتصال خالد الناصري للاطمئنان على حالتي. إذا كنت قد تلقيت كل هذا الاهتمام وكل هذا الدعم النفسي والإعلامي، فإنني على اقتناع بأن المئات من المواطنين المغاربة يتعرضون يوميا لاعتداءات مشابهة، وربما أكثر بشاعة مما تعرضت له، دون أن يتلقوا حتى شبه صدى صغير لاستغاثاتهم من مكتب استقبال مكالمات النجدة. أنا على اقتناع بأنني لست مواطنا عاديا مثل الكثير من المواطنين، فأنا أتحمل مسؤولية على رأس مجموعة صحافية تزعج أكثر من جهة، لكنني أدافع عن حق جميع المواطنين المغاربة في الأمن، بغض النظر عن مراكزهم الاجتماعية أو السياسية. وضمان الأمن وظيفة أساسية من وظائف الدولة، بل هو إحدى أهم علامات السيادة في دولة ما. إن وزير الداخلية ووزراء الحكومة والموظفين السامين وكبار الأمنيين وجنرالات الجيش لا يشعرون بهذه الحرب الضروس التي تحدث يوميا في شوارع المملكة ويذهب ضحيتها العديد من الأبرياء. لأنهم يتحركون داخل سيارات محكمة الإغلاق محاطين بحراس شخصيين. ويسكنون في إقامات محروسة بالعسس والكلاب المدربة. لذلك يحلو لهم أن يقولوا بأن المغرب أجمل بلد في العالم. نعم إنه أجمل بلد في العالم، وإذا بقي الوضع الأمني على ما هو عليه، فسيتحول المغرب إلى أخطر بلد في العالم. إلا إذا كانت الحكومة تريد أن تدخل صناعة السيوف التقليدية ضمن المشاريع المدرة للدخل والمخصصة لجلب عشرة ملايين سائح في أفق 2010. إن التعبير عن الأسف والشجب والاستنكار بصدد الاعتداء على أمن الأشخاص شيء جيد ومطلوب. لكنه للأسف الشديد لا يكفي. يجب على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في ضمان وحماية أمن مواطنيها. وعليها أن تفهم أن الأمن ليس ترفا ولكنه مسألة ضرورية، لأنه أحد شروط السيادة. لذلك سنستمر في الكتابة والمقاومة كما تعودنا على ذلك يوميا. وما على اليد الجريحة سوى أن تلتئم بسرعة، لأن جرح الوطن أعمق. وما على الخد الذي لم يتلق ركلة في حياته حتى عندما كان معطلا يحتج أمام البرلمان، إلا أن يخفي أثر الحذاء، لأن الركلات التي يتلقاها خد الوطن أهم من الركلات التي تتلقاها خدودنا نحن. على القلم أن يتحدى الخنجر، وعلى الابتسامة أن تتغلب على الدمعة. ببساطة، على القافلة أن تسير، أما الكلاب فعهدنا بها تنبح. فالكلاب التي تنبح لا تعض...