وأنت تقترب من «سوق الجلد» بالمدينة القديمة بفاس تواجهك رائحة جد كريهة توحي بأن شيئا ما في هذا المكان ليس على ما يرام، هذا بالرغم من أن السوق حديث النشأة، وبالرغم كذلك من أن المجلس الجماعي هو الذي يدبر شأنه اليومي. السوق، كما يقول العاملون فيه، يدخل الكثير من المال لصالح المجلس الجماعي، لكن أدنى التجهيزات فيه غائبة. جعيفر أحمد، البالغ من العمر 56 سنة والذي يعمل في سوق الجلد منذ سنة 1956، يشير إلى أن مداخيل السوق تفوق مليوني سنتيم لليوم الواحد، لكن المسؤولين لا يبالون بوضعه ولا بالوضع الصحي الكارثي الذي يعمل في ظله «الدلالة»، وبجانبهم التجار الذين يقصدون المكان إما لبيع الجلود أو شرائها. سوق الجلد يوجد ب«باب الكيجزة» بالمدينة القديمة بفاس. وقد أحدث في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وقبل ذلك كانت الجلود تباع وتشترى في منطقة تدعى «النواعرين». ومن المعروف أن السوق يقصده التجار من كل أرجاء المغرب، منهم من يأتي للبيع ومنهم من يأتي للشراء، و«الدلال» هو الذي يتوسط بين البائع والمشتري. أما المجلس الجماعي، والبلدية فيما سبق، فيكتفي باستخلاص الرسوم عن كل جلد أدخل إلى السوق: درهمان لجلد البقر ودرهم للجلود الأخرى. ومن هذه الجلود تصنع، بعد استكمال إعدادها وتهيئتها في محلات الدباغة بالمدينة القديمة، الملابس والأحذية وغيرها من السلع الجلدية التي تباع سواء في المغرب أو تصدر إلى الخارج. وتعد فاس قلعة شراء وتهيئة الجلود، بالرغم من المشاكل التي تعانيها هذه الصناعة التقليدية. «المساء» التقت مسؤول هذا السوق، أو ما يعرف بأمين السوق عبد الكريم الوزاني، وطلبت منه تقديم بعض التوضيحات حول السوق ومشاكله، لكنه رفض بدعوى أن الأمور تتحسن وأن الحوار مستمر ومتواصل مع مسؤولي المجلس الجماعي. لكن أغلب العاملين يشيرون إلى أن المجلس الجماعي هو الذي عين مسؤولهم في وقت رغبوا هم في انتخاب من يدافع عن مصالحهم ويدفع في اتجاه إجراء إصلاحات في السوق. في سوق الجلد بفاس يوجد ما يقرب من 150 دلالا، أغلبهم يتوفر على رخصة من السلطات لمزاولة هذا العمل، لكن البعض منهم لا يتوفر على هذه الرخصة، وهذا جزء كذلك من المشاكل التي يعانيها هؤلاء. «سكان» السوق يشتكون من غياب أدنى التجهيزات: لا مياه صالحة للشرب ولا وجود لمرحاض، والأزبال متراكمة في كل مكان، ورؤوس الأغنام والماعز مشتتة هنا وهناك على شكل كومات تنبعث منها رائحة تزكم الأنوف، وبرك مائية تزيد من «عطر» المكان! الدلال جعيفر أحمد قال إن عددا من الخواص تقدموا بمشاريع للحصول على السوق، إما عن طريق الكراء أو الرهن أو الشراء، مقابل إجراء الإصلاحات الضرورية له وإدخال التجهيزات الأساسية إليه، لكن مسؤولي البلدية لا يبالون بمثل هذه الاقتراحات. غير بعيد عن «سوق الجلد» وداخل أزقة ودروب المدينة القديمة، يوجد حي اسمه «دار الدبغ». هذا الحي هو الذي يستقبل جزءا كبيرا من الجلود التي تشترى في هذا السوق. وفي هذا الحي دكاكين صغيرة تطل على حفر مائية توضع فيها الجلود لتهيأ ولتكون صالحة لإنتاج مختلف السلع الجلدية. ويوضح عبد الرحمان الشبايلي، وهو أحد الحرفيين الذي قضى ما يقارب 35 سنة في هذه المهنة، أن الجلد يوضع في البداية في حفرة الماء وبعدها يشطف ثم يوضع في «الجير» القديم ثم في «الجير» الحديث ثم في حفرة من «زق الحمام» ثم يصبن ويوضع في النخالة لمدة 16 يوما ويصفى ثم يدخل إلى حفرة «تكاوت»، وهي عشبة تأتي من الصحراء، لمدة تقارب 20 يوما، ويؤخذ بعد ذلك ليزال عنه ما علق به من أوساخ، ويعطي اللون الأصفر، وهو من الأنواع الجيدة، وهناك أنواع أخرى مثل اللون الأحمر. مهنيو الجلود يعملون بدون تغطية صحية ولا ضمان اجتماعي. ورئيس الجمعية، التي تقول إنها تمثلهم وقد تأسست سنة 1993، يشير إلى أنهم بصدد حل كل هذه المشاكل. الغالي الرحالي، وهو اسم رئيس الجمعية، قال إنه بصدد دراسة كل هذه المشاريع مع السلطات والوزارات المعنية. وأورد أنه اقترح بناء معمل خاص بهؤلاء المهنيين، وقد نال مقترحه القبول، موضحا أن المعمل سيكون جاهزا في حدود ستة أشهر. لكن الأشغال لم تبدأ إلى حد الآن في المشروع والميزانية لم ترصد له بعد! الرئيس يوضح كذلك أنه اتفق مع مسؤولي المجلس الجماعي على أن يأتي طبيب ليعاين الحالة الصحية للمهنيين كل ثلاثة أيام في الأسبوع، لكنه لم يقدم أي تاريخ لبدء تفعيل هذا الاتفاق. كما ذهب إلى أن هناك نية لتأسيس ناد لهؤلاء، سيكون فضاء للالتقاء والاستراحة وتبادل الخبرات والتجارب، لكن تنفيذه يحتاج إلى دعم المهنيين أنفسهم. ويتشكل أغلب هؤلاء من حرفيين لم يسبق لهم أن ولجوا حجرات الدراسة والمستوى التعليمي لما تبقى منهم لا يتجاوز الابتدائي. ويقول المهني الشبايلي إن ظروف الحياة هي التي فرضت عليهم هذا الاختيار، ويحكي أنه دخل المهنة وهو لم يتجاوز ال12 سنة من عمره. وبالرغم من أن هؤلاء المهنيين يفوق عددهم 2000 حرفي، فإن منخرطي جمعية معلمي الدباغة التقليديين لا يتجاوز عددهم 140 منخرطا. ويشير الرئيس إلى أن الانخراطات ستزداد بعد المؤتمر الأخير الذي عقدته جمعيته في بداية شهر يناير الجاري، وهو المؤتمر الذي ترتبت عنه إعادة انتخابه لولاية ثالثة.