يوم 20 يناير، حلت ذكرى رحيل محمد مزيان الذي كان قد رحل بشكل فاجع، معلنا بذلك أن لا انفلات من قدر الفجيعة في وجود فاجع أصلا، ويتضخم وضعه بهذه الصيغة عبر علاقات اجتماعية وأنماط تفكير ووحيش من الكائنات استدمج الفجيعة في أعماقه السحيقة، فتوحد معها، لذا تبدو له أحكامه وسلوكاته حاملة لمعنى لكنها في الأصل ليست كذلك، لهذا احتمى بالمقدس بكل صيغه. والجميل في تجربة الحياة والإبداع للراحل محمد مزيان هو إدراكه لهذه الحقيقة من جهة، وعدم الخضوع لها والسعي إلى نفيها من جهة أخرى، لهذا بالضبط كان مصرا على الإبداع، خاصة الإخراج الذي راكم فيه ثلاثة أعمال قصيرة، منها: «نوح» و«حورية» أساسا كفيلمين سعى من خلالهما إلى تجريب الاحتماء بقدسية الإبداع من رعي العدم. لقد انشغل محمد مزيان بأسئلة عميقة لم تسعفه اللغة لتوصيفها ليس لعدم تمكنه منها، ولكنها بدت عاجزة عن توصيف ما هو عميق، وهذا ما ترجمه عبر كل الصمت الذي اختاره لغة مركزية في فيلمين، فالشخصيات، خاصة الرئيسية منها، لا تتحدث أو تفعل ذلك قليلا (المعلمة، ونوح)، وللصمت هنا قيمة ذات طابع قدسي، تدعمت بعناصر أخرى عديدة لتبنى العوالم الإبداعية لمحمد مزيان، والتي سعى من خلالها إلى ترجمة إحساس مأساوي ما بالوجود –الخاص والعام- المتضخم لاعتبارات اجتماعية، وهكذا كان الإبداع بالنسبة إليه صيغة لمداواة عنف ما مزلزل، وعاه أولا وسعى إلى مواجهته عبر مستويين مركزيين هما: أولا: مضاعفة فوضاه عبر السباحة ضد التيار اجتماعيا وثقافيا ووجوديا كذلك، لهذا بالضبط كان يصف الغالبية من معارفه ببني قردة في الحياة، وهذا ما ترجمه عبر شخصيات ولقطات دالة في فيلميه ومن أمثلة ذلك: - كون البطل في «نوح» مخالف لكل الشخصيات الأخرى، أبكم حسب الناس، أو مجنون، وما جعله كذلك هو ثقافته ودراسته للفلسفة، لهذا يسبه اليهودي بعد أن يعرف ذلك قائلا: «يطيّح لو اللجام». وحتى أصحاب الحكمة بين أهل البلدة لا يتواصلون معه مثل «الفقيه» و«المعلم»، ورغم ادعاء هذا الأخير أنه الوحيد من يفهمه، ف«نوح» يغادره كتعبير منه عن أن لا أحد يفهم صرخة أعماقه. - كون البطل في «نوح» ينشغل وحيدا من أجل بناء سفينة النجاة، والدعم الوحيد الذي يقبله هو دعم أطفال في إحالتهم على البراءة وعدم التأثر بالواقع. - كون البطلة في «حورية» مخالفة للجميع، فهي تعيش وحيدة كما «نوح»، وتنضبط في الوقت، وكلما حضرت الجماعة كانت لوحدها. - لقطة محمد مزيان في دور ثانوي في فيلم حورية، وهو يسير رفقة طفلة في اتجاه فيما كل الناس يسيرون في الاتجاه المعاكس. وما يدعم كل هذا هو عدم انضباط مزيان للنموذج في حياته كلها، وحيث كان اللانظام صيغة منظمة لوجوده الخاص، وقد دعمه القدر حين اختار له موتا مشابها لحياته، وهذا ما حصل تقريبا لبطلته في «حورية» الراحلة فاطمة شبشوب، وربما حصل ذلك استجابة لمنطق أصيل في الوجود يقول حسب غاستون باشلار: «إن كل محاولة تنقيب عن أسرار المصير تبتدئ بمسيرة تراجعية»، وهكذا يكون الموت أبهى صيغة ليس للبحث عن المصير بل لتحقيقه، هذا إذا اعتبرنا أن التوحد مع المطلق هو غاية الوجود. والتوحد مع المطلق هو رغبة عبر منها مزيان في «نوح» أساسا الذي يمكن اعتباره حاملا للإجابة عن كيفية تحويل الإبداع حضنا للاحتماء من رعب العدم، وهو ما نعنيه في النقطة الموالية. ثانيا: تمييز الإبداع الخاص بالانفتاح على المقدس لأن «الإنسان يوجد بلا عالم خاص.. وعليه أن يصنع عالمه، فهو كائن التكوين، ومن ثم عليه صنع العالم كضرورة أنتروبولوجية»، فإن ما كان يهم محمد مزيان في تجربته الفنية هو بصمها بطابع خاص مميز لها يبرز هويته الخاصة كمبدع له رؤيته في الفن والحياة، والصيغة التي بدت له أكثر أهمية لطبع ممارسته الإبداعية هي الانفتاح الواسع على المقدس الذي يمكن تحديده باعتباره «قوة ذات صفات سرية وهائلة خارج الإنسان، لكنها تتعلق به، والتي يعتقد أنها تقطن في موضوعات محددة... وتعزى هذه الخاصة إلى مكونات عديدة تضخم الطابع الرمزي للكون وتجعله حاملا لمعنى. وما يتأكد في كل انفتاح على المقدس هو الالتحام بمصادر لإنعاش المعنى المصادَر من طرف الفوضى والعدم. فيلم «نوح» لا يحكي قصة اجتماعية أو سياسية يمكن تلخيصها، كما فعل دوما مع الأفلام، بل يطرح إشكالا وجوديا يمكن تلخيصه ببعض التساؤلات من قبيل: ما معنى الوجود؟ كيف يمكن للوجود أن يكون حاملا لمعنى؟ هل معنى ولامعنى الوجود يبدآن بالموت أو بالولادة في الحركة الأولى للكاميرا التي تمسح الفضاء؟ ومباشرة بعد لقطة الشاب المهاجر الذي يحمل حقيبته ويتوجه رفقة أمه إلى محطة القطار، نتوقف عند لقطة المقبرة والقبور ثم الجنازة ورش قبر الميت بالماء، وكل هذا يدخل في نسق الموت، بما في ذلك السفر والحقيبة والمحطة، لأنها علامات دالة على الرحيل. وما يعنيه هذا أن بداية الفيلم تحيل على قضية وجودية مركزية هي الموت، أما النهاية فهي لقطة لطفل ولد لتوه وهو يصرخ، مما يعني أن ما يحكيه الفيلم هو قصة الوجود لكن مع قلب بين لها، حيث البداية بالموت والانتهاء بالولادة، وكل ما تبقى بين البداية والنهاية له علاقة بسؤال الوجود من قبيل: المعرفة: (تخصص الفلسفة بالنسبة إلى البطل - والتعليم الديني بالنسبة إلى المحاضرية في الكتاب القرآني - والمعرفة الحديثة بالنسبة إلى التلاميذ في القسم). والصيغة التي يطرح بها هذا البعد في علاقته بالوجود غير محسومة، لأن هناك أكثر من مصدر معرفي، فأي منها الأصلح؟ وأي منها القادر على تعجيم جاهلية المنطق العام المواجه لسلطة المعرفة، وما نفهمه من هذا هو أن محمد مزيان يضع الإبداع السينمائي في لقاء مع جوهر السؤال الفلسفي وهو إرباك اليقينيات، وخلخلة الجاهز و«إثارة إشكاليات تهم الواقع والحقيقة والوهم»، كما يرى عز الدين الخطابي. الحميمية: تبرز الحميمية كمكون أساسي في الفيلم تتم مساءلته وليس التسليم به، وتتجلى من خلال العلاقات الاجتماعية، والأرض، والإنجاب، والعلاقات بين الشخصيات... إلا أنه يبدو أنها غير متحققة في ما هو سطحي وعابر مهما كان عدد الناس، لهذا يبدو اللاتواصل هو المهيمن بين الناس في الفيلم، لهذا تسير الناس كآلات نحو عملها وتنجزه بنفس الصيغة، وحين يتحدثون لا يتواصلون، هكذا لا يتواصل «نوح» مع كل الشخصيات، ولا يتواصل الحكواتي مع اليهودي، كما لا يتواصل مع الناس الذين يتحدث إليهم بشكل مصطنع.. وما يعنيه هذا هو أن الحميمية غائبة بامتياز في مستواها المألوف، لهذا يقترح مزيان مستويات أعمق لتحقيقها، من قبيل التراب والجغرافيا (القبر، العمل في الحقول، آلات الحفر كالفأس... الخ). والمعروف أن الأرض من رموز الحميمية، وما يدعم ذلك أكثر هو الحفر فيها بغاية الهبوط إليها. والسكن في أعماقها، فالهبوط حسب جيلبير دوران «طريق نحو المطلق، فبصورة مفارقة نهبط لكي نصعد في الزمن ونصل إلى سكينة ما قبل الولادة»، والبحث عن هبوط بهذا المعنى الحميمي هو الذي يبدأ في فيلم «نوح» بالموت والدفن، ثم ينتهي بالولادة في آخر لقطة منه. الإنسان: الناس أنواع في «نوح»، منهم الكبار والصغار، الرجال والنساء، المتعلمون وغير المتعلمين، إلا أن ما يميزهم عدم الارتياح ربما بسبب عدم حميمية وجودهم، لهذا يبدو الجميع على عجل، بل خائف أيضا (حالة المهاجر وأمه، حالة الأطفال في التعليم، حالة الناس الذين يسيرون ليلا... الخ)، وحده نوح يبدو عارفا بمصدر الخوف، لهذا بدأ منذ مدة في بناء سفينة، ولهذا أيضا لا يبالي بالناس وأقوالهم وأحكامهم. ويطرح الإنسان في الفيلم باعتباره مرتبطا بجوهر سؤال الوجود الذي سعى مزيان إلى طرحه في الفيلم، إلا أن ما يستنتج من مشاهدة الفيلم وتأمل مجموع رموزه هو الملاحظات التالية: هيمنة رموز الظلمة على أغلبية الفيلم، خاصة الليل، سواد الملابس، سواد الأحاسيس، والظلمة... التي توضح ليس أحوال الشخصيات فقط بل خطابها، وهذا ما يحيلنا على مخرج الفيلم نفسه، حيث يمكن الحديث عن نوع من الصدمة السوداء التي «يتولد عنها انطباع إحباطي عام، يجعل الإنسان يشعر بأنه غارق في السواد، كما يجعله يردد: «الظلمة هي الانطباع المسيطر علي مع نوع من الحزن»، والخوف من الظلام يصير مقلقا كما عند الطفل، لهذا بالضبط يجعل مزيان عناصر عديدة مواجهة له، منها نور الشموع، ونور المصباح الغازي، وصفرة المساء، إلا أن النور الأهم هو نور المعرفة وذلك بغية التخلص من التقييم السلبي للسواد، لأن هذا ما يبرز في الفيلم، وما يعنيه التقييم السلبي لسواد الفيلم هو «الإحساس بالخطيئة والقلق والتمرد والتمييز في نفس الوقت». وبتأمل بسيط في دلالات علامات الفيلم، يتبين أن مزيان لا يبرئ نفسه، لهذا يكون التمرد صيغة للمواجهة، ويكون بناء السفينة في دلالته الإيجابية مساهمة لتجاوز الظلمة.. ظلمة الوجود والمجتمع.