عندما يسترجع أحد المقربين من الجنرال أحمد الدليمي حادثة وفاة أقوى جنرالات المملكة بعد الجنرال محمد أوفقير، تشخص عيناه، وتتجمد الكلمات على شفتيه وهو يقول: «لقد قتلوه ولم يمت». الشاهد الذي سمح لنفسه أن يروي ل«المساء» قصة أغرب حادثة سير في تاريخ المغرب أودت بحياة الجنرال الذي كان يتحكم في دواليب الحكم كان مقربا من الدليمي بحكم علاقة الدم التي كانت تربط بينهما وعلاقة الانتماء إلى نفس المدينة«سيدي قاسم»، وقد كان لهذه العلاقات المتداخلة أن جعلت من الشاهد الذي طلب التحفظ على اسمه وهويته رجل ثقة الجنرال الذي كان يعتبر الرجل الثاني في مملكة الحسن الثاني. وقد بلغت قوة الجنرال، كما يحكي ذلك ساعده الأيمن العقيد محجوب الطوبجي في كتابه « ضباط صاحب الجلالة»، بأنه كان الرجل الوحيد القادر على رفض أوامر الملك الراحل الحسن الثاني وليس فقط مناقشتها. دسائس القصر تعود ذاكرة صاحب هذه الشهادة إلى ذات مساء من عام 1981 عندما كان يجلس رفقة بعض ندمائه بحانة فندق المامونية بمراكش رفقة كل من عمر بنشمسي والي مدينة الرباط سابقا، وعبد العزيز العفورة، العامل السابق بعمالة عين السبع، وفي لحظة ما دلف عليهما شخص آخر ووشوش في أذنيهما ليبلغهما بأمر مهم، ويتذكر صاحب الشهادة أن سحنات وجوه ندمائه تغيرت بعد ما سمعاه، وغادرا المكان دون وداعه. وعندما وجد نفسه وحيدا داخل الحانة حاول استعادة ما استرقه سمعه من وشوشة الزائر المفاجئ، حيث سمع اسم الجنرال الدليمي وكلمة «الجيش في خطر». وقد فهم بأن مغادرة ندمائه للمكان، دون استئذانه، تعود لكونهما يعلمان علاقته بالجنرال الدليمي، لذلك فإن أول ما تبادر إلى ذهنه هو الاتصال بالجنرال لإخباره بالأمر، وقد حاول ذلك من خلال هاتف الفندق لكن هاتف بيت الجنرال كان يرن دون أن يوجد في البيت من يرفع السماعة، مما زاد من وساوس الرجل الذي حزم حقيبة سفره واستقل سيارته في اتجاه الرباط، ليصلها في وقت متأخر من الليل، فتوجه مباشرة إلى بيت الجنرال في حي «بير قاسم»، وعندما أوقف سيارته أمام باب البيت في الساعة الثالثة من الهزيع الأخير لليل، تقدم منه حارس البيت الذي كان يعرف نوع سيارته ليخبره بأنه لا يوجد أحد في البيت وبأن الجنرال وأسرته يوجدون في مزرعته بسيدي قاسم. كان صديق الجنرال يعرف أن الدليمي عندما يذهب إلى مزرعته فهو يذهب بحثا عن الراحة لذلك لم يفكر في إزعاج عطلته. ومما كان يعلمه أيضا أن زوجة الجنرال، التي لم تكن تحبذ زيارات أصدقائه وندمائه له في بيته، هي التي كانت تقترح عليه الخلوة في مزرعته للراحة والاستجمام. انتظر صاحبنا حتى الصباح، وبينما هو يفكر كيف يبلغ الجنرال صديقه بما نما إلى علمه من أخبار، إذا بهاتف بيته يرن ولم يكن على الطرف الآخر من خط الهاتف سوى الجنرال أحمد الدليمي الذي عاد في نفس اليوم إلى الرباط وعندما أبلغه حارس بيته بزيارة صديقه له في وقت متأخر من الليل حدس بأن الأمر يتعلق بشيء مهم لذلك اتصل به يدعوه إلى بيته لتناول الغداء وليعلم منه سبب بحثه عنه في وقت متأخر من الليل. كان ذلك آخر غداء يتناوله صاحب هذه الشهادة مع صديقه الحميم، ويتذكر أن الجنرال كان رفقة ابن أخيه، وفي ذلك الغداء أخبره بأن الملك استدعاه للحضور على عجل إلى مراكش، وعندما روى له صاحب الشهادة ما سمعه في حانة فندق المامونية، استصغر الأمر، وطمأن صديقه بالقول: «لا تهتم للأمر تلك مجرد دسيسة أخرى من دسائس بنسليمان والمديوري». صراع نفوذ فالكل كان يعرف أن علاقة الدليمي لم تكن على أحسن ما يرام مع الجنرال حسني بنسليمان، قائد الدرك الملكي، وكانت في حالة أسوأ مع محمد المديوري، رئيس الحرس الخاص للملك. فالرجلان كانا خصمين وفي نفس الوقت عدوين للجنرال الذي كان نفوذه يتنامى يوما بعد يوم، خاصة مع اندلاع حرب الصحراء التي برز فيها نجمه، وأصبح له نفوذ كبير داخل كبار ضباط الجيش، الشيء الذي كان يغذي الكثير من الأقاويل حول طموح الجنرال الذي أصبح بلا حدود. وللحد من نفوذ الجنرال المتنامي سيسعى منافسوه إلى الوشاية به للإطاحة برأسه. لكن الجنرال الذي ارتبط اسمه بالقمع الذي مورس على المدنيين في الصحراء وبقساوته التي طبعت مآسي حرب الصحراء، لم يكن يولي كبير اهتمام لما كان ينمو إلى علمه من وشايات، ويتذكر صاحب هذه الشهادة أنه عندما أبلغ الجنرال ذات يوم أن إدريس البصري كاتب الدولة في الداخلية يتجسس عليه استخف بذلك وقال ساخرا لندمائه: «وماذا تريدون منه أن يفعل إنه مجرد شرطي، وهذا كل ما يتقنه». وبالفعل كان ادريس البصري يتتبع خطى الجنرال ويحسب أنفاسه، لكن الجنرال حسب ما يحكي عنه صاحب هذه الشهادة لم يكن يولي أي اهتمام لتحرشات أعدائه وحساده به، فهو في آخر أيامه قبل وفاته الغامضة كان يفرط في الشرب والذهاب إلى الملاهي الليلية، ويتذكر صاحب هذه الشهادة أنه ذات مرة كان يسهر مع أصدقائه بملهى ليلي بأحد فنادق أكادير، فجاءه مساعده ليبلغه بأن الملك الراحل الحسن الثاني ينتظره على الهاتف، فما كان منه إلا أن نهره أمام ندمائه، وسأله غاضبا عن سبب تأخر نساء تلك السهرة! الذهاب إلى الحتف الأخير ذهب الجنرال إلى مراكش، وقبل الذهاب إلى القصر الملكي لملاقاة الملك عرج على بيته بحي النخيل بمراكش حيث كان ينتظره بعض ندمائه فتركهم صحبة صاحب هذه الشهادة، بعد أن وعدهم بأن الأمر لن يستغرق منه الكثير من الوقت. فقد تعود الجنرال على ملاقاة الملك في مرات عديدة، وبالنسبة إليه فإن الأمر لا يعدو أن يكون مثل السابق، وربما يكون قد خمن من قبل موضوع ذلك اللقاء، الذي ربما يكون قد اعتقد أنه سيكون حول آخر التطورات في الصحراء أو حول آخر الاستعدادات لاستقبال الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران. ويلاحظ صاحب هذه الشهادة في مابعد أنه عكس ما كان يحدث في السابق فإن الطريق إلى القصر، كانت تكون محروسة من قبل الدرك الملكي، لكن في ذلك اليوم كان رجال الأمن في لباس مدني وأغلبهم من رجال المديوري هم من يقومون بالحراسة. ومازال صاحب الشهادة يتساءل كيف فات الجنرال الذي عرف بحدسه الكبير أن ينتبه إلى ذلك التغير. وحسب ما استنتجه صاحب الشهادة فيما بعد فقد كان قرار اغتيال الدليمي قد صدر في وقت سابق وأسندت تلك المهمة إلى أحد عناصر الدرك الملكي الذي كان ضمن فرقة الدراجات النارية التي ترافق موكب الملك. لكن العنصر الذي اختير لتنفيذ القرار، احتج عليه بقوة وقال لرؤسائه بأنه سيوجه مسدسه إلى الدليمي في حالة واحدة إذا أشهر هذا الأخير مسدسه في وجه الملك، وما عدا ذلك فهو لن ينفذ هذا الأمر. وقد كلفت جرأة صاحب هذا الموقف اعتقاله بمكان سري بأزيلال ولا يعرف لحد اليوم مصيره. تطورت الأمور بسرعة وفي لحظة انبساط جاء النعي لندماء الجنرال الدليمي يخبرهم بحادثة سير لقي إثرها حتفه فهرولوا إلى مكان الحادث. ويتذكر صاحب هذه الشهادة أنهم منعوا من الوصول إلى المكان الذي كان محاطا برجال الدرك، وعندما سمح لهم بالاقتراب منه كانت جثة الدليمي قد نقلت إلى مستودع الأموات بمستشفى المدينة، وما بقي في مكان الحادث هو سيارة الجنرال التي كانت محروقة وغير بعيد منها الشاحنة التي قيل إنها اصطدمت بها دون أن تلحق بها الكثير من الأضرار. ولفت انتباههم أن أرض الحادث كانت محروقة مما يعني أن هناك من صب البنزين لإشعال النار لإخفاء شي ما كان على الأرض. قصة ما حدث ما سيرويه صاحب هذه الشهادة في ما يلي هو مجرد استنتاجات بناها على شهادات جمعها من أكثر من مصدر، يعتقد أنها أقرب إلى حقيقة ما حدث. وحسب هذه الشهادة يقول صاحبنا إن الجنرال عندما ذهب إلى القصر وجد الملك الراحل الحسن الثاني في حالة غضب بسبب تأخر الجنرال عن موعد الاستقبال، لكن مع ذلك عقد معه جلسة العمل التي كانت مبرمجة، وعندما كان الجنرال يريد مغادرة القصر سأله الملك عن وجهته، فأخبره الجنرال بأنه سيعود فورا إلى الرباط لكن بعد أن يعرج على بيته بحي النخيل بمراكش، فطلب منه الملك أن يرافقه أحد مؤنسيه. ولم يكن ذلك المؤنس سوى صاحب وكالة أسفار في الرباط وشقيق أحد الضباط الكبار الذي رقي فيما بعد حتى بلغ رتبة جنرال، وبحكم تردده على القصر كان الدليمي يعرف مؤنس الملك حق المعرفة، لذلك رحب بطلب الملك ودعا المؤنس إلى الركوب في المقعد الخلفي فيما جلس هو كعادته في المقعد الأمامي إلى جانب السائق، فقد تعود الجنرال أن يضع تحت مقعده تحسبا لكل طارئ مدفعا رشاشا صغيرا كان يعتقد أنه من صناعة إسرائيلية. وحسب رواية صاحبنا فقد توجهت السيارة نحو بيت الجنرال بحي النخيل بمراكش، وعندما همت بأن تعرج على الطريق الثانوي في اتجاه بيت الجنرال إذا بشاحنة تخرج من العتمة وتعترض طريق السيارة، وعندها أحس الجنرال بشيء قوي يهوي على رأسه، ففتح باب سيارته قبل أن تتوقف وأخرج مدفعه الرشاش وهم بالاختفاء وسط النخيل حتى يتضح له أمر ما يحدث، لكن من صنعوا له ذلك الكمين كانوا ينتظرون فقط نزوله من السيارة ليمطروا جسده بالرصاص، وبعد ذلك سحبوا الجثة ووضعوها أرضا لتمر من فوقها الشاحنة، لإخفاء أثار الرصاص عليها، وقد تركت اليد التي تحمل ساعة الجنرال المميزة لتدل على هوية الجثة التي اختفت فيما بعد وحرم أهل الجنرال من رؤيتها. ويمضي صاحب الشهادة قائلا إن الشخص الذي كان يجلس في المقعد الخلفي للسيارة كان مكلفا بضرب الجنرال بقوة حتى يفقد وعيه، وربما كان الهدف بعد ذلك نقله إلى مكان ما لاستنطاقه بعد أن يستعيد وعيه قبل الإجهاز عليه، لكن بسبب الارتباك لم تؤد تلك الضربة إلى أن يفقد الجنرال وعيه وتطورت الأمور لدرجة لم يسهل التحكم فيها، خاصة عندما رأى الذين كانوا يشاركون في الكمين أن الجنرال يهم بالهروب وهو يحمل مدفعه الرشاش. أما المؤنس الذي يفترض أنه كان شريكا في الكمين فمازال يعيش في الرباط يدير وكالة للأسفار لكنه يرفض الحديث في الموضوع، وأما السائق الذي قيل إنه فقد وعيه جراء الاصطدام فقد اختفى ولم يظهر له أي أثر. ومما يتذكره صاحب الشهادة أن زوجة الجنرال التي كانت توجد بمدينة برشيد حرمت من رؤية جثة زوجها بمستودع الأموات بمستشفى المدينة، وكذلك حصل مع والده وأشقائه، الذين حضروا جنازته الرسمية التي شارك فيها كبار مسؤولي الدولة دون أن يعرف أي منهم ما الذي كان يوجد بالصندوق الذي ووري الثرى بمقبرة الشهداء بالرباط. لكن صاحب الشهادة يعترف لزوجة الجنرال بحكمتها، عندما زارها الملك الراحل الحسن الثاني في بيتها لتعزيتها، فقد ارتمت على الأرض تقبل رجليه وتطلب منه أن يحفظ لها أولادها وأسرتها الصغيرة. فهي كما يقول صاحب الشهادة كانت على علم بمآل أسرة الجنرال أوفقير التي كان أفرادها أصدقاء لأفراد أسرة الدليمي، وخشيت أن يتكرر نفس السيناريو مع أسرتها، لذلك قالت للحسن الثاني مستعطفة إياه ما مفاده: «الجنرال كان بمثابة ابنك وأنا راضية بما كتب علي، وكل رجائي هو أن تحفظ لي أبنائي وأسرتي». وكان لها ما شاءت أو ما شاءته الظروف. يبقى سبب الاختفاء الغامض للجنرال سواء كان مبرمجا أو مجرد حادثة سير سرا غامضا، وعندما أسأل صاحب الشهادة يجزم بأن كل ما قيل عن أن الجنرال كان يفكر في الانقلاب على الملك مجرد هراء، ويقسم صاحب الشهادة أن الجنرال أسر له ذات مرة أن أحسن نظام يمكن أن يسوس المغاربة هو النظام الملكي، لأن الملكية هي وحدها القادرة على توحيد المغاربة، لكنه لا يخفي وجود خلافات في وجهات النظر بين الملك وجنراله في ما يخص إدارة حرب الصحراء، ويتذكر صاحب الشهادة أنه ذات مرة زار الجنرال في بيته فجاءت إحدى بناته وقالت له بالفرنسية: «متى ستهجمون على الجزائر وتنهون الحرب؟»، فالتفت الجنرال إلى صديقه وقال له: «أرأيت هذا ليس رأيي أنا وإنما رأي طفلة صغيرة لا تفقه في الحرب، لكن من يستطيع إقناع الملك بسدادة هذا الرأي؟». وعندما أسأل صاحب الشهادة عن رأيه هو في السبب الحقيقي وراء رغبة الملك في التخلص من جنراله، إن صحت روايته، يردد مقولة: «وراء كل جريمة غامضة فتش عن دور المرأة».