عبدالسلام بنعيسي تُشن خلال هذه الأيام حملة ضارية على الفنانة الكبيرة فيروز. سبب الحملة حُدد في كونها قررت أن تُحيي سهرة فنية في دمشق وتعرض خلالها مسرحية (صح النوم). الذين يشنون الحملة على فيروز هم بعض السياسيين اللبنانيين الذين يؤاخذونها على كونها قبلت إحياء سهرة فنية في بلد يحكمه نظام غير ديمقراطي.. نحن إذن أمام حدث غير مألوف، ففي البلدان العريقة في الديمقراطية لا يمكن تصور أن سياسيا سيتدخل في تصرفات فنان ليحدد له ما يفعله وما لا يفعله. لا يمكن تخيل أن وزيرا، أو زعيما لحزب سياسي، أو نائبا برلمانيا، سيتصل عبر الهاتف، أو سيلجأ إلى الصحافة للضغط على فنان لكي يجبره على السفر من عدمه إلى هذه الجهة أو تلك، أو لكي يلزمه بالغناء من عدمه أينما أراد. في البلدان الديمقراطية، السياسي يمارس عمله ضمن الاختصاصات التي تندرج في مجال نشاطه، والفنان أيضا يتحرك تبعا لقناعاته، وتمشيا مع ما تستوجبه التزاماته الفنية، انطلاقا من رؤيته الخاصة كفنان له استقلاليته التي لا تجوز لأي كان مصادرتها منه. نحن في عالمنا العربي، ومع هذه النازلة بالتحديد، نجد أنفسنا أمام بعض السياسيين، الذين هم للأسف الشديد فاشلون في مسيرتهم السياسية، بدليل تقلباتهم وفقا لأهوائهم وأمزجتهم، وإيصال بلدهم في الوقت الراهن إلى حافة الحرب الأهلية، بعد أن كانوا في الماضي القريب أباطرة هذه الحرب، وتلطخت أياديهم بدماء إخوتهم في الوطن.. هؤلاء السياسيون الفاشلون لا يقبلون الاكتفاء بحصر نشاطهم في مجالهم السياسي وترك بقية الناس تقوم بمهامها وفقا لاختصاصات كل فرد في المجتمع.. إنهم يتطاولون على الفنانة الكبيرة فيروز، ويريدون إجبارها على عدم الغناء في سوريا التي لديهم معها خلافات سياسية. بتصرفهم هذا، يريد هؤلاء السياسيون أن يجعلوا من سلوك فيروز إزاء سوريا نسخة طبق الأصل لسلوكهم السياسي. إنهم يسعون إلى دفعها لتنظر إلى الأشياء من المنظار الذي ينظرون من خلاله إليها، ويمارسون عليها دكتاتورية فجة قصد مصادرة حريتها واستقلاليتها منها، بغرض دفعها بالقوة إلى أن تصبح واحدة من حشدهم السياسي. فتحت شعار رفض الاستبداد في سوريا، يمارس بعض السياسيين اللبنانيين الاستبداد على فيروز. إنها لمفارقة غريبة: فيروز الفنانة الكبيرة الناجحة المتألقة دائما وأبدا في مسيرتها الفنية، يريد سياسيون فاشلون ومفلسون ممارسة الوصاية عليها في مجالها الذي كانت ومازالت سيدة ورائدة فيه. إنهم يبحثون عن إلحاقها بهم في نادي الفاشلين. فيروز التي غنت وتغني للمحبة وللجمال وللإخاء والتسامح، والتي تحقق الإجماع العربي على الافتتان بجمال صوتها، وصارت أيقونة فنية وبمثابة التحفة النادرة في زمن الرداءة والابتذال والسطحية الفنية، فيروز هذه لا يهم بعض السياسيين اللبنانيين سوى جرها إلى ملعبهم الذي لا يصدر عنه إلا ما يفرق بين المواطنين، وما يزيدهم تباغضا واستعدادا للتقاتل والتناحر. الذين يشنون الحملة على فيروز لأنها ستغني في سوريا، دون أن يترتب عن غنائها أي موقف سياسي قد يضر بلبنان، هؤلاء كانت دمشق إلى عهد قريب قبلتهم المفضلة، لقد كانوا يحجون إليها كل يوم ليحصلوا منها على المال والدعم والتوجيه والإرشاد، وكانوا يتصرفون، في ضوء ما يحصلون عليه منها، كالتلاميذ النجباء، لرستم غزالة وغازي كنعان ولأصغر ضابط في الجيش السوري. إذا كان مجرد إحياء سهرة فنية لفيروز يولد كل هذه الضجة منهم، وإذا كانت سوريا في نظرهم قبيحة إلى هذا المستوى، فمن الذي يحاسبهم على ما ألحقوه من أذى بلبنان في علاقتهم، حين كانت متميزة وخاصة جدا، مع سوريا التي يصفونها بكل هذا السوء؟ فيروز يريدونها خاتما في أصبعهم، فعندما تكون علاقتهم بدمشق على أحسن ما يرام، ويكونون مستفيدين من ريع هذه العلاقة، وقتها ليس لديهم مانع في أن تزور فيروز دمشق، وأن تغني هناك وتحيي السهرات، أما إذا ساءت تلك العلاقة، فإنه يتوجب على فيروز أن تسايرهم في هواهم، وأن تلحق بركبهم، وتبادر هي كذلك إلى وقف كل نشاط فني لها في سوريا، في انتظار أن يتصالحوا مع دمشق لكي يُسمح لها من جانبهم بالغناء للسوريين. أين هو الاحترام الواجب التقيد به تجاه حرية فيروز في اتخاذ القرارات التي تناسبها، انطلاقا من الاعتبارات الفنية التي تمليها عليها قناعتها الخاصة بها؟ ألا يتحول الإشعاع الجماهيري الكبير والرائع، الذي تحظى به فيروز وسط عشاق فنها العرب، إلى هراوة يلوح بها بعض السياسيين اللبنانيين الانتهازيين تجاه سوريا؟ وما دخل فيروز في كل هذا؟ ولماذا إقحامها من جانبهم في خضم نزاع سياسي عاصف جعلوا بواسطته بلدهم لبنان، دون استشارة اللبنانيين، مسرحا لصراع بين أطراف إقليمية ودولية؟ لماذا لا تكون فيروز فوق الصراعات الطائفية والمذهبية، والخلافات القائمة بين سوريا ولبنان لكي تحافظ على الحد الأدنى من الروابط التي ينبغي أن تظل مستمرة ومتواصلة بين الشعبين الشقيقين؟ إذا كان وجود معتقلين سياسيين لبنانيين في السجون السورية يبرر للبعض الضغط على فيروز حتى لا تغني في سوريا، فإننا نطالب أولا بالإفراج الفوري عن هؤلاء اللبنانيين رفقة باقي معتقلي الرأي السوريين. غير أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن هؤلاء المعتقلين لم يدخلوا السجن في اللحظة التي قررت فيها فيروز الغناء في سوريا، لقد كانوا في داخله، في وقت كانت فيه علاقة السياسيين اللبنانيين بسوريا سمنا على عسل، فلماذا لم يعالجوا هذا الملف في حينه، ولماذا سكتوا عليه ولم يثيروه إلا في يومنا هذا في وجه الفنانة فيروز؟ وإذا جاز لنا منع فيروز من الغناء في سوريا لأن فيها معتقلين سياسيين، فإنه يتعين علينا أن نطلب منها ومن كل الفنانين والفنانات العرب عدم الغناء في أي دولة من دول العالم العربي، بل يتوجب علينا إزاحة كلمات من صنف الغناء والرقص والفرح من قاموسنا اللغوي، وأن نكتفي بالبكاء واللطم والنواح، لأن كل دولة من دولنا العربية لا تحكمها إلا أقلية مستأثرة بالسلطة والمال، وتحرم منهما الأغلبية المطلقة من الشعب الذي يعاني من الحرمان ومن القمع ومن الفساد. وكل من يعارض هذه الأقلية في أي دولة عربية يجد نفسه في الغالب مرميا في الأقبية والزنازين، فلماذا إذن سوريا ومعها فيروز لوحدهما في مرمى القصف؟ الغريب هو أن الذين يقصفون فيروز ويريدون منعها من الغناء في دمشق، ليسوا سوى أولئك الذين كرموا جون بولتون حين كان ممثلا لبلده أمريكا في مجلس الأمن، والذي رفض في تصريح عنصري صادر عنه، أن يساوي في حرب تموز بين «ضحايا إرهاب حزب الله» من الإسرائيليين، وبين اللبنانيين الذين اعتبر أنهم يسقطون عن طريق الخطأ جراء القصف الإسرائيلي. فهل حلال عليهم تكريم جون بولتون، وحرام على فيروز الغناء في دمشق؟ لقد ظلت الثقافة، وعلى رأسها الفن، في عالمنا العربي، المجال الوحيد الذي يحافظ للعرب على هويتهم القومية ويرعى المشاعر الوحدوية التي تجمعهم رغم كل ما فعله فيهم السياسيون من تقسيم وتجزئة في مختلف المجالات، وكل محاولة لضرب الفن والثقافة والسعي إلى استثمار ذلك ضدا على مشاعر الإنسان العربي، وضرب تطلعاته لمحيطه القومي الشاسع.. كل محاولة من هذا القبيل، سيكون مصيرها، لا محالة، الفشل المحتوم، فالإنسان العربي أعقل وأذكى بكثير من العديد ممن يحتكرون حقله السياسي بالمال والدعاية والدعم الأمريكي.