كان للرياضيين الإغريق مقام الآلهة في ملاعب السباق. بقوة الجسم وصلابة المعنويات وحدهما كانوا يتنازلون بلا هوادة في قلب حلبات المعترك. ورثت البشرية منذ ذلك التاريخ عن الإغريق ثقافة المنافسة والتباري في مختلف الفروع الرياضية. فيما بعد، انبثق أبطال من لحم ودم حطموا الأرقام وطووا منافسة تلو منافسة. و لكل فترة تاريخية قواعدها، أبطالها وأرقامها القياسية. لكن يبقى القرن العشرون، بحكم تطور الصناعة الرياضية، قرن الأداء الرياضي الخارق، وفي كل الفروع الرياضية، من رياضة حمل الأثقال إلى سباق الدراجات، مرورا بالعدو الريفي. ويبقى أحد مخلفات استقواء الصناعة الرياضية، بالتحالف مع المنجزات الطبية، هو التعاطي للمنشطات. وكان أول من تعاطى المنشطات الحديثة سباحون هولنديون عام 1865. كما كان يقترح على الرياضيين الفرنسيين استهلاك نبيذ مارياني المنعش. وكان له مذاق أوراق الكوكا (وهي نبتة يستخلص منها الكوكايين، وهي من الفصيلة الكتانية). كما توفي أول مستهلك للمنشطات عام 1896. بطرح منتوجات لها فعل هورموني مثل هورمون النمو أو الهرمونات الكظرية، نكون قد دخلنا في طور الاحترافية في تعاطي المنشطات. و قد شكلت الثمانينيات نقطة التحول في تاريخ استهلاك المنشطات، إذ طرحت منتوجات جديدة مثل EPO وكذا هرمونات يستعصي الكشف عنها أثناء التحاليل المخبرية. وتوالت الفضائح بعد وفاة كنود إنمارك جانسن في الألعاب الأولمبية، لتنفجر فضيحة لافيستينا، التي تورط فيها متسابقون في طواف فرنسا للدراجات الهوائية عام 1998، كما ألقي القبض على الطبيب ويلي فيت، وبحوزته 500 جرعة من المواد المنشطة. عام 2001 اهتزت إيطاليا بسبب فضيحة دوري إيطاليا لسباق الدراجات. عام 2005 كشفت التحاليل المختبرية تعاطي المتسابق الأمريكي لانس أرمسترونغ للمنشطات. وعلى الرغم من القوانين الزجرية المتخذة في حق المتعاطين للمنشطات، فإن «قانون الصمت» بقي جاريا به العمل. واهتزت رياضات أخرى غير سباق الدراجات على فضائح مدوية لعدائين حطموا أرقاما قياسية أمثال الكندي بن جونسون، العداء البريطاني لينفورد كريستي، الألماني ديتر بومان، البريطاني شامبارس، العداءين الإغريقيين كوستاس كينتيريس وإيكاتيريني طانو، الأمريكية ماريون جونز.. وقس على ذلك في أمريكا الجنوبية، آسيا وإفريقيا. وعليه أصبحت المنشطات بلا حدود. لم يسلم المغرب هو الآخر من اللائحة السوداء للتنشيط الهرموني، ومن بين الحالات الشهيرة: جمال شطبي، مريم العلوي السلسولي، عادل الكوش، سعيدة مهدي، حميد الزين، عيسى الدغوغي، رشيد غنموني، عبد الهادي عبسة الخ...في المهجر عرف بعض الفرنسيين من أصل مغاربي نفس الوضع، وخاصة في ألعاب القوى. لكن هؤلاء الرياضيين على اختلاف جنسياتهم و«منجزاتهم»، الذين حلموا بالمجد، بالثروة والشهرة، قبل أن يسقطوا، لم تكن لهم، إلا فيما ندر، الشجاعة للبوح بحقيقة تعاطيهم المنشطات. بعد أن جرب قسوة التداريب وغازل النصر، سقط العداء فؤاد شوقي، مغربي الأصل، في براثن المنشطات، وبعد اكتشاف الحقيقة نزل إلى الحضيض. في كتابه الصادر الأسبوع الماضي، بعنوان: «سباقي في الجحيم»(187 صفحة- منشورات هاشيت)، يحدثنا فؤاد شوقي، المولود عام 1978 بمدينة ستراسبورغ، بلا مواربة وبشكل مكشوف عن مساره المحفوف برغبة التفوق قبل الخسارة. ولم يفته إفراغ ما في جعبته، كشخص يريد أن يطهر ذنوبه، حين صرح بأن تعاطي المنشطات بإفران من الأشياء العادية. ويلمح إلى أنه حتى هشام الكروج كان يفرغ ملعب التدريب ليبقى وحيدا. ونقرأ في تصريحه هذا أن هشام كان يتعاطي بدوره للمنشطات بمنأى عن الأنظار. وهذا تلميح خطير. يفتتح الكاتب شهادته بجلسة النطق في الحكم الصادر ضده بمحكمة ألمانية قريبة من ستراسبورغ في قضية إطلاقه الرصاص على ألماني بسبب ترويج المخدرات. بعد مرافعة النيابة العامة ومطالبتها بسبع سنوات نافذة في حق فؤاد شوقي، طلب منه رئيس المحكمة إن كانت له من إضافة بعد هذه المرافعة، فوقف ليجيب: «لست ولن أكون مجرما سيدي الرئيس». بعد هذه الكلمة خيم صمت عميق وثقيل على القاعة قبل أن يرفع الرئيس الجلسة لمداولات هيئة المحلفين. في انتظار ذلك، اقتيد فؤاد إلى قبو حيث أقفل عليه في إحدى الزنزانات. وكان الانتظار شبيها بالأبدية. بعد الستة أشهر التي قضاها في السجن، هل سيخلى سراحه أم سيعود مرة ثانية إلى جوف الأقبية؟. في هذه الأثناء عاد الماضي وعادت معه صور الملاعب وصخب الجمهور، التداريب الصباحية الشاقة في الغابات، الضحك مع عدائين آخرين والطفولة في حي الجبل الأخضر. وحضرته صورة والده، بحكايته المؤثرة يوم أقل الحافلة من بلدته الجبلية إلى الدارالبيضاء قاصدا مكتب الهجرة للحصول على عقد للعمل في فرنسا. كان سن والده لا يتجاوز التاسعة عشرة لما غادر المغرب في اتجاه فرنسا بعد أن شعر بضيق الأفق في قريته الريفية. «ماذا سيكون مصيري لو لم تكن لوالدي الشجاعة الكافية لخوض المغامرة؟» يتساءل فؤاد. لما وصل والده إلى ستراسبورغ عام 1969 بعد رحلة مضنية دامت أياما عبر القطار، استقبله الصقيع والثلج. وقد التحق بمركز لإيواء الأجانب يتكدس فيه 24 شخصا في غرفة واحدة. في المعمل كان يشتغل تسع ساعات في اليوم مقابل راتب شهري بمبلغ 40 أورو في الشهر. كما عمل سائقا لنقل البضائع لمدة 27 سنة. بعد زواجه عام 1976 انتقل إلى حي الجبل الأخضر الذي ولد به فؤاد. ويعرب هذا الأخير عن تعلقه بالحي قائلا: «لما أسافر إلى المغرب لمدة شهر، أشعر بالحنين للحي ولفرنسا. أصولي مغربية، لكنني أشعر أنني فرنسي قبل كل شيء». كانت الدراسة بالنسبة لفؤاد ثانوية مقارنة بشغفه بالرياضة، وخاصة كرة القدم. كان زين الدين زيدان مثله الأعلى، لكن مشواره عرف انعراجا آخر: امتهانه السباق. وبفضل أستاذ الرياضة أخذ مشواره الصحيح، حيث حالفه الفوز في المسابقات المحلية والجهوية. وقد فاز عام 1993 بلقب بطل فرنسا وفي العديد من المسابقات نجح في هزم رفاقه من أمثال مهدي بعلة وبوب طاهري. وبموازاة السباق وكرة القدم، تابع دراسته للحصول على بروفيه للدراسات التطبيقية في المحاسبة. وفي الوقت الذي رأى الكثير من الأصدقاء أن له مؤهلات بدنية وتكتيكية لكي يصبح بطلا دوليا، كان حلمه هو أن يصبح لاعبا لكرة القدم. أما والده فلم يثق إلا نادرا في مستقبله الرياضي. ولما خاض أكثر من مسابقة، تأكد له أن سباق 1500 متر يبقى بلا منازع أم المسابقات مع أبطال تاريخيين مثل سعيد عويطة وهشام الكروج. ولهذا شعر بالفخر لما أحرز عام 1997 لقب بطل فرنسا أمام مهدي بعلة وبوب طاهري. وبفضل إنجازاته المتواصلة نجح فؤاد شوقي في الانضمام إلى المنتخب الفرنسي. ولما كان يصعد إلى المنصة الصغرى لسماع «لامارسييز»(النشيد الوطني الفرنسي)، تحضره دائما ذكرى والده الذي غادر قريته الريفية النائية للمغامرة في فرنسا. وبتأهله للمباريات الدولية اكتشف فؤاد بلدانا جديدة. وهو عائد من إحدى المسابقات التي احتل فيها المرتبة السادسة، أدرك فؤاد أن هذه الرياضة تقتضي استعدادا وتداريب دقيقة ومنظمة. في عام 1997 لم يقدر على مجاراة الإيقاع ولهذا تخلى عن السباق والتداريب، الشيء الذي أغاظ مدربه وأصدقاءه. وبقي على هذا الوضع إلى عام 2000 . وفي أحد الأيام تردد على مسمعه ما قاله المدير التقني الوطني المساعد من أن فؤاد شوقي «انتهى بالمرة». كما سمع نفس الكلام من والده الذي عبر له عن خيبته حتى وإن لم يكن يثق في مؤهلاته. ولرفع التحدي استأنف فؤاد تداريبه المبكرة في الغابة. وفي أولى مسابقة له بعد ثلاث سنوات من التوقف، دخل على رأس كوكبة المتسابقين. حسن الإدريسي والنزول إلى الهاوية في مسابقة الكبار، وفي بطولة نيس، تعرف فؤاد على المدرب حسن الإدريسي فطلب منه استقباله بالفريق الذي يشرف على تدريبه بمدينة روان. هناك شرع في تداريب صارمة تقوم على النظام والقوة المعنوية. «الخصال الأولى للعداء البطل هي قبل كل شيء خصال معنوية». كان سباق موناكو، الذي أجري في 20 من يوليوز 2001، العودة الكبرى لفؤاد شوقي إلى حلبة الكبار. يفضل العداؤون هذا الملعب لأن الاستقبال الذي يوفره شبيه باستقبال الملوك. خلال وجبة الإفطار، جلس فؤاد إلى طاولة ماريون جونز، موريس غرين، لينفورد كريستي. وقبل انطلاقة السباق، انتابه اضطراب حاد. كما شعر بثقل المسؤولية ورغبة عدم تخييب ظن الأصدقاء والعائلة. بعد انتهاء السباق احتل فؤاد المرتبة التاسعة فيما فاز الكروج بالمرتبة الأولى. لكن فؤاد لم يخسر نهائيا بما أنه أصبح ثالث عداء فرنسي. توالت المسابقات، وبالرغم من المستوى المتوسط الذي كان يسجله فؤاد، فقد بقي على ثقة بأن النصر قريب. لكنه لم يخمن ولو مرة أن الشياطين التي تسكنه له بالمرصاد. في شتاء 2002-2003 بدأ يتردد على العلب الليلية، يخالط الفتيات ...بمعنى بدأ يمارس حياة نقيضة لحياة الرياضي-البطل. انزلاقه في الطيش قاده إلى تزوير أوراق اللوطو الرياضي. وقد اعتقلته الشرطة لتتهمه بالعمل لصالح شبكة مافياوية. تدارك هذه الهفوة ليستأنف مجددا التداريب استعدادا لبطولة العالم. لإعداد هذا اللقاء الحاسم، انتقل فؤاد في دورة تدريبية إلى المركز الرياضي لفان-روموه بجبال البيرينيه. والمركز محطة لإعداد الرياضيين الفرنسيين. كما أنه أحد المراكز الكبرى لاستهلاك المنشطات. لكن يبقى أقل من إفران. هنا يأتي فؤاد شوقي على ذكر الممارسات الخفية الجاري بها العمل. ويقول في الصفحة 101 من كتابه: «في هذا المنتجع، حضرت حصة تدريب عداء مغربي، هو بطل للعالم، أنجز عشر مرات مسابقة 1000 متر في دقيقتين وثمان وثلاثين ثانية دون أن يتصبب ولو بنقطة عرق واحدة. لهذا يختبئ الكثيرون للقيام بتداريب هناك. في إفران، كان هشام الكروج يفرغ الملعب للقيام بتداريب فردية بمنأى عن الأنظار». هل معنى ذلك أن هشام الكروج كان يفرغ الملعب لتناول المنشطات ؟ على أي، هذا ما يوحي به كلام فؤاد شوقي. الجشع المادي يقف وراء استعمال المنشطات في أحد الأيام عرض عليه حسن الإدريسي عيادة طبيب قدّمه كأحد الأطباء البارزين في متابعة إنجازات الأبطال. وبعد تحليلات دموية نصحه الطبيب جورج موتون، وهو بلجيكي، بمتابعة «ريجيم» غذائي مشكل من الفيتامينات: الحديد ومستخلصات درقية، وهي فيتامينات يعتبرها الأطباء خطيرة. بعد ذلك جاء دور ضخ الحقن لفيتامين B9 و B12 وحقن المانيزيوم. كما استهلك مادة «الزينترامين» المشكلة من الكالسيوم والبوتاسيوم. تكررت الزيارات لعيادة الدكتور موتون، سواء في بروكسيل أو لييج، إلى أن أخبره هذا الأخير بأنه لكي يصبح بطلا على شاكلة الأبطال الآخرين الذين يترددون على عيادته فما عليه سوى تناول المنشطات. وبموافقة حسن الإدريسي، الذي كان يلعب دور الوسيط في اقتناء الأدوية، قبل فؤاد تناول المنشطات. ومن خلال شهادة شوقي نقف على الحقيقة التي مفادها أن الجشع المادي هو الذي يقف وراء تقرير الوصفات المنشطة للرياضي، و وراء رغبة المتسابق في تحطيم الأرقام. لكن مع الوقت لا تلبث عواقب المنشطات تعلن عن أثرها. في أحد اللقاءات تقدم فؤاد إلى السباق مشحونا بالمنشطات. لم يشعر بأي ذنب لأن له خصوما من أمثال هشام الكروج و بيرنار لوغا يستهلكون بدورهم المنشطات، حسب قوله. دخل في الرتبة الثالثة بعد لوغا والكروج. وحطم بذلك الرقم الذي كان في حوزة مهدي بعلة. في لقاء آخر، وعلى الرغم من تحذيرات الأطباء، خاض شوقي السباق الذي أدى إلى تمزق عضلي في رجله بسبب تناوله المنشطات. لم ينه فؤاد السباق ونقل إلى المستشفى، وبعد خروجه والتحاقه ببيته هاتفه حسن الإدريسي ليخبره بأن التحاليل الطبية أسفرت عن وجود آثار لمنشط EPO في الدم. بعد ذلك عرف فضائح المحاكم وملاحقات الإعلام. في الأخير قرر فؤاد التخلي عن ألعاب القوى نهائيا. الشيء الذي دفع به لما خسر كل شيء أن يدلي بالحقيقة. «أتحمل كامل المسؤولية. أنا غير آسف على تناول المنشطات لأنني لم أجد بديلا لذلك» يقول فؤاد شوقي. بعد ألعاب القوى، رجع عام 2004 إلى كرة القدم كلاعب هجوم في فريق لوهافر. لكن المجلس الأولمبي الوطني الفرنسي منعه من ممارسة كل أصناف الرياضات، الشيء الذي تسبب في انهياره العصبي. وللتخفيف من آثار الانهيار، سافر إلى المغرب حيث قضى شهرين. وبعد يومين من عودته إلى ستراسبورغ، تقدم أعضاء من الشرطة إلى منزله ليوجهوا له تهمة اغتصاب فتاة في الرابعة عشرة. وهو نزيل سجن المدينة تراجعت الفتاة عن اتهاماتها. فغادر السجن بعد أن قضى عشرين يوما في المعتقل. وهو في طريق العودة من تداريب في ألمانيا رفقة أحد إخوته، على متن سيارة في ملكية مسؤول لنادي كرة القدم بمدينة ستراسبورغ، أوقفت الشرطة فؤاد لتكتشف أن رخصة السياقة كانت قد سحبت منه سابقا بسبب عدة مخالفات وأنه محط مذكرة بالقبض على المستوى الأوروبي. في مكتب قاضي التحقيق وجه له هذا الأخير تهمة إطلاق النار بواسطة بندقية على شخص يطالبه بالنقود، فأودع السجن لمدة ستة أشهر وجرب العزلة والفراغ. وهو في قاع السجن تذكر أن ألعاب بيكين على وشك الانطلاق. في ختام شهادته، ولإنهاء «السيسبانس»، يصف فؤاد شوقي اللحظة التي دعي فيها مرة ثانية للاستماع إلى قرار لجنة المحلفين، التي نطقت ببراءته. في القاعة مد له أحد إخوته الهاتف النقال وكانت على الخط والدته التي لم تتوقف عن البكاء، فما كان رده سوى أن بكى بدوره. وبعد أن أصبح عاملا اليوم في أحد الأوراش لصالح من لا مأوى لهم، بدأ فؤاد يفكر في قراراته: «بصراحة تامة، لا أستحق أن أكون بطلا...لكن لا زالت الحياة أمامي لكي أصبح شخصا آخر».