كان محمد الصحفي الكبير، الراحل عن عالمنا مؤخرا، يقدم نفسه لضيوفه، الذين يتوافدون على زيارته بمكتبه المطل على النيل، بصفته محمد حسنين هيكل الجورنالجي وكفى، أي صحفي بالتعبير المصري القديم، أيام الملكية، لأن هيكل من المخضرمين الذين أدركوا العهد الملكي زمني الملك فاروق وقبله الملك فؤاد. والحال أن هيكل عاش كاتبا صحفيا ومات كذلك، بل إنه وأيام صديقه وتوأم روحه جمال عبد الناصر لطالما عرض عليه منصب الوزارة، وألح عليه إلحاحا لتوليتها، لكن صاحبنا الجورنالجي رفضها رفضا باتا، لأنها قد تبعده عن ممارسة أفضل هواياته ألا وهي الكتابة، ربما لأنه أدرك أيضا أن الكاتب والصحفي هو من يصنع السياسي ويوجهه وليس العكس! وهذا ما يجعلنا نميل إلى القول بأن هيكل الكاتب الصحفي كان هو صانع جمال عبد الناصر وخطبه العصماء، وحتى سياساته الخرقاء، وليس كما يدعي البعض في كون هيكل مجرد صناعة ناصرية، والدليل هو استمراره في التألق والكتابة والمشاكسة والمناكفة46 عاما كاملا بعد وفاة صديقه جمال عبد الناصر. بل ولأنه كان يرى نفسه فوق السلطة، فإنه كان يحسن تدبير علاقات المد والجزر بينه وبين البلاطات الأميرية والقصور الملكية والجمهورية. بحيث انتقل من الكاتب الصحفي الذي هو بمثابة العلبة السوداء لحاكم القبة والاتحادية والعروبة( القصور الرئاسية بمصر) بالقاهرة إلى المؤرخ، الذي يعيد صياغة الأحداث ويعيد تفسيرها، بل زاد عليها يعيد كشف أسرارها، وهنا تظهر النسخة الأخرى من محمد حسنين الهيكل المؤرخ القريب من دواليب السلطة، ومعها تظهر عوراته أيضا في تضارب مصداقيته وسؤال موضوعية التناول والسرد؟ لا سيما عندما يخوض في أحاديثه حول ما يدور خلف الغرف المغلقة! ما جعله عرضة لانتقادات لاذعة. وتبقى علاقته الغريبة بمؤسسة الجيش والتي يظهر أنها نقطة ضعفه، فهيكل الذي صال وجال الفكر السياسي وراكم تجارب الأمم ومغامرات الشعوب، لم يتعاطف في يوم من الأيام مع «الديمقراطية»، فهي لم تكن أولية ضمن الأجندة الهيكيلية، بل كان تعاطفه وميله للمؤسسة الحاكمة في مصر العسكرية، يفوق وبكثير ميله وتعاطفه مع أصحاب مشاريع الدولة المدنية الديمقراطية! فقد دعم ثورة 23 يوليوز وأصبح كاتب وحيها، ثم تعاطف مع «انقلاب» 3 يوليوز 2013، ربما لأنه كان يرى أنه في المؤسسة العسكرية يكون مقربا ومدللا أكثر من الجمهورية المدنية، لأن الحكم العسكري يحتاج إلى واجهات وقامات مثل هيكل للاستشارة والمشورة، فالجيش قوة وليس فكرة، وهيكل فكرة أضحت قوة، أو ربما لأن مؤسسة العسكر بمصر ترى في هيكل الصديق الوفي للزعيم الراحل ابن مؤسسة العسكر البكباشي جمال عبد الناصر. من الحارة إلى عرش جمهورية الأهرام ولد محمد حسنين هيكل بالقاهرة في حي باب الشعرية بتاريخ 23 سبتمبر 1923 أي أنه أمضى قرابة الثلاثين عاما من حياته تحت ظل العهد الملكي، والذي تم إسقاطه في انقلاب 23 يوليوز 1952، ثم باقي حياته 63 عاما في ظل العهد الجمهوري، من محمد نجيب وجمال عبد الناصر، محمد أنور السادات ومحمد حسني مبارك، والدكتور المدني محمد مرسي، وصولا إلى الفريق عبد الفتاح السيسي. يرى من أرخ لهيكل بأن طفولته كانت عادية ووديعة في حواري باب الشعرية التي تعد قلب القاهرة النابض، والذي عرف أيضا بأنه حي مطرب مصر الفنان محمد عبد الوهاب. وينحدر هيكل من عائلة متوسطة أصولها صعيدية من بلدة ديروط الشريف. وفي هذا يقول هيكل :» أتينا قبيلة من بلاد العرب عبرت، وتركت فروعها في كل مكان حتى استقرت في صعيد مصر، ثم هاجر جدي لأبي إلى الشمال وجاء والدي بتجارته إلى القاهرة». حيث ولد له الطفل محمد، والذي كان له إخوة غير أشقاء يكبرونه سنا. ويبدو أن أصول الزوجة الثانية الحضرية قد أثر على مستقبل الطفل محمد والذي يقول بأن « أمي عملت انقلابا جذريا في حياتي» بإصرارها على إدخاله المدرسة الأميرية، مدرسة خليل أغا، حيث التقى فيها هيكل بعملاق آخر هو إحسان عبد القدوس والذي كان يسبقه بثلاث سنوات. ثم جاءت مرحلة الثلاثينيات الزاخرة بالنضال والحركية الثورية والوطنية في المقاهي والحارات، ولما يكمل متطلبات السنة التوجيهية حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية، والتي أصابت نيرانها مصر. وهنا تبدأ المرحلة الأولى من مسيرة الشاب محمد هيكل الصحفي، والتي بدأها في صحيفة «الإيجيبشيان جازيت» ما بين 1942 و1944، حيث كتب له أن يعيش أحداث معركة العلمين في 1942 بين قوات الحلفاء والمحور. والأهم من ذلك اكتسابه لطلاقة لسان وقلم في اللغة الإنجليزية، علاوة تأثره بقامات صحفية انجليزية كبيرة من أبرع الأقلام الإنجليزية بمصر، المستر سكوت واطسون، محرر صحفي ب «الإيجيبشيان جازيت» وأستاذ بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة، والمستر هارولد إيرل رئيس تحرير الصحيفة. علاوة على مسؤول الشؤون المحلية فيليب حنين، والذي قام بدور محور في مسيرة هيكل إذ قدمه ذات يوم للسيدة روز اليوسف صاحبة أكبر مجلة تحمل اسمها، حيث نشر فيها هيكل عددا من المقالات. ليشد الرحال ما بين 1944_ 1946 إلى مجلة آخر ساعة، اللسان المعبر عن حزب الوفد المصري، برئاسة قيدوم الصحافة المصرية محمد التابعي، والذي احتضن الصحفي الشاب الحركي هيكل، حيث وضع أولى خطواته الأولى في الصحافة السياسية المباشرة منتقلا من صحافة الخبر إلى صحافة الرأي، ليقفز بعدها إلى سفينة «أخبار اليوم» المقربة والمدعومة من طرف السلطة والقصر تحديدا، والتي قامت بشراء مجلة «آخر ساعة»، بعد أن اضطر التابعي لبيعها، والتي استمر فيها من 1946 إلى ما بعد قيام الثورة بل إلى حدود عام 1957، وهنا ستبدأ مرحلة جديدة بقيادة الأخوين مصطفى وعلي أمين، حيث كلف بسكرتارية تحرير الصحيفة القديمة علاوة مساعدة رئيس تحرير صحيفة «أخبار اليوم». كما كانت المرحلة أيضا مرحلة التتويج بجائزة الملك فاروق الصحفية لثلاث مرات. والتي لم تكن تمنح لكل من هب ودب أو كل من عاكس رياح السلطة. قربه من الأخوين أمين جعله يحظى برعاية خاصة، إذ عملا على إرساله للخارج لوصف الأحداث الخارجية ما بين المرحلة 1946 و1951 ما أكسبه قوة في نسجه لعلاقات دولية تتجاوز مصر، وهنا ستظهر موهبته في التأليف حيث ألف أول كتاب له في 1951 بعنوان إيران فوق براكين يصف فيها إيران في عهد رئيس الوزراء الثائر محمد مصدق المطاح به في انقلاب 1953. وبعد مرور خمسة أعوام على انقلاب الضباط الأحرار 23 يوليوز 1952 ، انتقل هيكل إلى جريدة الأهرام حيث عين رئيسا لتحريرها في 31 يوليوز 1957 ليبدأ أول مقالة له في 10 غشت تحت عنوان «بصراحة» حيث أضحى عنوانا قارا في الصحيفة لعموده اليومي، والذي ذاع صيته داخل مصر وخارجها. ومعها بدأت علاقاته مع الزعيم عبد الناصر تتوطد رويدا رويدا، عقب إقصاء عبد الناصر لكل العناصر التي حاولت منافسته أو خالفته الرأي. وهكذا بدأت مسيرة القرب والتتويج من الزعيم الناصري، ففي 15 دجنبر 1960 منح عبد الناصر شخصيا محمد حسنين هيكل وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى بمناسبة ذكرى عيد العلم، ليعين بعدها في 8 غشت 1961 رئيسا لمجلس إدارة الأهرام علاوة على منصبه على رأس التحرير، ثم عين في 17 أكتوبر 1965 رئيسا لمجلس إدارة مؤسستي الأهرام وأخبار اليوم، بعدما تم الدمج بينهما في مؤسسة حملت اسم مؤسسة الصحافة العربية. وإلى هنا لم يكن في جعبة هيكل أي منصب سياسي، وهو ما سيبدأ بعد نكسة 1967، حيث عين في 24 يوليوز 1968 ضمن لجنة المائة التي أعدت أعمال المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي العربي الحزب الحاكم والوحيد، لينتخب في 21 سبتمبر من العام نفسه عضوا بالجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي. وفي 26 أبريل من 1970 عين وزيرا للإرشاد القومي مع احتفاظه بمنصبه على رأس تحرير الأهرام. حيث ما فتئ أن قدم استقالته مباشرة بعد وفاة صديقه عبد الناصر في 18 أكتوبر 1970. لتبدأ مرحلة جديدة مع السلطة بعد وصول محمد أنور السادات للسلطة بوصفه نائب الرئيس عبد الناصر. ففي الأول ساند هيكل الرئيس الجديد لا سيما في معركته ضد ما عرف بمراكز القوى، بيد أن العلاقة بدأت تدخل مرحلة التوتر عقب حرب رمضان/ أكتوبر 1973 عقب نشره (أي هيكل) لسلسلة مقالات ضد الخطة الأمريكية لإعادة ترتيب أوراق المنطقة. حيث صدر قرار جمهوري في الفاتح من فبراير 1974 بإزاحة هيكل من على رئاسة الأهرام وتعويضه بعبد القادر حاتم في مقابل تعيين هيكل مستشارا صحفيا بالرئاسة…ثم ازدادت الشقة والفرقة بين الرجلين، حيث منع في ماي 1978 من السفر إلى الخارج، وتم استدعاؤه أمام المدعي الاشتراكي بتهمة التشهير بسمعة مصر، وتهديد سلامة الجبهة الداخلية! وبلغ الجفاء أشده في 5 سبتمبر 1981 حيث صدر قرار بإدراج اسمه ضمن باقي المئات من الشخصيات السياسية والعلمية والدينية المتحفظ عليهم، حيث تم نقله إلى سجن ملحق مزرعة طرة إلى غاية حادثة اغتيال الرئيس محمد أنور السادات واستلام نائبه محمد حسني مبارك، والذي قام بإطلاق سراح المتحفظ عليهم في 25 نوفمبر 1981، بل واستقبلهم الرئيس الجديد عقب الإفراج عنهم. لتبدأ رحلة جديدة مع السلطة الجديدة، وهي ما عبر عنها أكثر من متابع لمسار هيكل بمرحلة الاغتراب. وهي المرحلة التي خدمت أكثر هيكل بحيث تفرغ للتأليف وللزيارات والاتصالات الدولية مع عدد من القادة والرؤساء والملوك. ما نتج عنه عشرات من الكتب والمؤلفات التي لقيت رواجا منقطع النظير، أعادت بريق الصحفي الكبير المبعد عن منبر «الأهرام» إلى الواجهة من جديد. هيكل..اللورد المصري الأسمر اختار أن يقوم بالعمل الإداري بدل أن يصبح فرعونا في متحف كل من سمحت له الفرصة بالتعرف عن قرب على محمد حسنين هيكل، ومهما يكن موقفه منه سواء عداوة أو انبهار، فإنه لن تفوته ملامسة حالة الدقة الرهيبة التي كان يتمتع بها الراحل هيكل، وأناقته في الملبس والتعامل والتخطيط، ما جعل الكثيرين يصفونه بأنه كان يتعامل معاملة اللوردات البريطانيين الأرستقراطيين، والحال أن هيكل كان صارما إلى درجة لا تتصور في تعامله واحترامه لبرنامجه اليومي، من استيقاظ جد مبكر في حدود الفجر، ومداومته على ممارسة الرياضة، سواء رياضة الكولف والتي كان يعشقها كثيرا وهي رياضة اللوردات، أو غيرها من الرياضات والحركات التي تناسب تقدمه في السن، وفي مقابل ذلك كان حريصا على النوم المبكر مباشرة مع العشاء والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يؤخر نومه. مع برنامج غذائي جد صارم… فيبدأ برنامجه مع الفجر، ثم بعد الفطور الصباحي وقبلها حصة الرياضة … يتوجه إلى مكتبه المطل على واد النيل، حيث يغلق على نفسه الأبواب ومعه سماعات الهاتف معتكفا على أوراقه مطالعة وقراءة وتقليبا وتأليفا، علاوة على مطالعته للجرائد اليومية والمجلات والكتب قصد المتابعة الحثيثة لما يحدث من حوله، وبعد ورد العزلة، ينتقل إلى ورده اليومي من استقبالات ومقابلات يومية، في أجندة منظمة يسهر عليها سكرتيره الخاص ومعاونوه، وعادة ما يبقى في مكتبه إلى حدود العصر. وننقل من كتاب الدكتور سيار الجميل في كتابه الماتع تفكيك هيكل والذي من أهم وأعمق ما كتب عن ظاهرة محمد حسنين هيكل بعض الفقرات عن الذين التقوا بهيكل وانطباعاتهم، قول ج لاكتور في وصف محمد حسنين هيكل:» ضخم ورشيق، حاد الطبع وقوي، له سمات وجه فلاح، اختار أن يقوم بالعمل الإداري بدل أن يصبح فرعونا في متحف، أسمر اللون كأي صعيدي مثل صديقه جمال، سريع الجملة وحادها، ذو فطرة تتقد غالبا، وذو ابتسامة ماكرة. ناطق رسيم متحمس وصديق وفي، بطريقة ذاتية أكثر منها موضوعية للرئيس ناصر». وصف أحدهم إصراره على العمل المتصل يوميا بدأب الأديب نجيب محفوظ، الذي لم يزل يصر على الإبداع المنظم إلى آخر حياته. ولهيكل مكتبة ضخمة جدا يصل ما فيها من الكتب إلى 25 ألف كتاب! فضلا عما يمتاز به من سرعة الكتابة وقلمه السيال وسرعة القراءة والقدرة على الاستيعاب. أما عن أناقته فهي من قبيل المسألة التي سار بذكرها الركبان، يقول أحد معجبيه:» إن هيكل الآن يبدو مثل لورد بريطاني…فهولا يستقبل زواره إلا بملابس كاملة…ويدخن أجود السيجار الكوبي، ويلعب الغولف في الصباح الباكر، لكنه في أعماقه لا ينسى سيدنا الحسين ويهوى الشعر العربي والاستماع لأم كلثوم، سيد درويش ومحمد عبد الوهاب والتواشيح الموسيقية التي تملأ مكتبته ويتذكر أقرب الأصدقاء إليه مثل كامل الشناوي وتوفيق الحكيم … هيكل و عبد الناصر.. من صنع من ؟ لا تزال علامات استفهام كبيرة تحوم حول طبيعة العلاقة التي جمعت ما بين الزعيم الخالد بتعبير الناصريين، وبين الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل؟ وبالضبط من صنع من؟ فهل الزعيم الخالد جمال عبد الناصر هو من صنع الأيقونة الصحفية هيكل؟ أم أن هيكل هو من كان يوجه الزعيم الصورة عن بعد ومن خلف الستار، فيكتب له خطاباته بما فيها خطاب التنحي عشية الهزيمة المرة ل 5 يونيو1967، وكتابه الذي ينسب لجمال عبد الناصر « فلسفة الثورة»، والذي ثبت أنه تدبيج هيكل. وما زاد الوضع غموضا هو الوفاة المبكرة والمفاجئة لجمال عبد الناصر سبتمبر 1970، في مقابل طول العمر الذي رزقه صديقه هيكل، والذي عمر بعده زهاء الخمسة عقود من الزمان! وبذلك أضحت الرواية الوحيدة لطبيعة العلاقة مروية من طرف واحد. فهل كان محمد حسنين هيكل مجرد جندي في الثكنة الناصرية مقدم على غيره نسبيا نتيجة إفراده بالاستشارة؟ بل كثيرا ما كان جمال عبد الناصر يُنتقد من طرف زملائه أعضاء القيادة في مجلس الثورة بسبب الشلة المحيطة به، والتي كان يعتمد عليها في حصوله على المعلومات والأخبار. نتيجة هوس الزعيم الخالد بسماع النميمة السياسية وما يدور من أحاديث جانبية هنا وهناك. أم العكس هو الحاصل، بحيث إن جمال عبد الناصر كان مجرد عسكري بكباشي بسيط، وليس رجل دولة ولا رجل فكر وثقافة لكي يسير دولة بحجم مصر، ويدخل في صراعات إقليمية تفوقه. والدليل هو استبعاد كل أولئك الطاقات الفكرية والسياسية التي من شأنها أن تشعره بالدونية، في مقابل تقريبه لطبقة من الضباط العاديين والطفيليين بتعبير البعض، والذين أسبغ عليهم بترقيات تفوق الخيال، فهذا صديقه حكيم عامر يرقيه من ضابط إلى رتبة مشير حتى يتمكن من التحكم في رقاب قامات كبيرة في الجيش المصري، وما يقال عنه يقال عن الأخوين جمال سالم وصالح سالم ومن بعدهم صلاح نصر، والذين عربدوا في مصر وجعلوا أعزة أهلها أذلة. وربما قد نصل إلى حل ثالث توافقي، فلا عبد الناصر صنع هيكل، ولا العكس كان، بل كل استفاد من الآخر قدر المستطاع في علاقة منفعية خالصة. مثل فيها عبد الناصر في الظاهر دور الزعامة المفوهة وأبو الجماهير ومعشوقهم، بينما عمل هيكل خلف الستار وبواسطة مشرط القلم، مستغلا سلاحي المعلومة والأرشيف كما يصف فؤاد زكرياء، حيث كان هذا السلاح منذ البداية، نتاجا لظاهرة الحكم الفردي التي ازدهر في ظلها هيكل، فمن خلال صلته الوثيقة بعبد الناصر كانت الأسرار والوثائق الخطيرة تأتيه وحده دون غيره، وكان هو ذاته يحرص على تسجيل كل صغيرة وكبيرة تدور حوله، مدركا بذكاء أن كل كلمة تسجل يمكن أن تكون مصدر قوة له في يوم من الأيام. ولم تكن البراعة الصحفية وحدها، ولا الذكاء الشخصي وحده، هما اللذان أتاحا له هذه الفرص، بل إن انعدام الديمقراطية وسيادة جو التكتم والقرار الفردي المفاجئ، جعل من الضروري أن يضيق نطاق المطلعين على الأسرار إلى أبعد حد. وهكذا اطلع هيكل على ما لم يكن متاحا للآخرين. أو مطروحا على الناس، وهداه ذكاؤه إلى أن يسجل أولا بأول كل ما هو»خفي» و»ممنوع». ومنذ أن تبين له أن الناس يتلهفون على قراءة الأسرار التي لا يعرفها أحد صباح يوم الجمعة في عموده، فقد أدرك هيكل أهمية»سلاح الأرشيف» من حيث هو مصدر قوة وحماية له في نفس الوقت.بل إن أحد الكتاب الساداتيين، ممن كانوا على صلة وثيقة بهيكل، يذهب إلى أن سلاح المعلومات كان يستخدم عند هيكل في العطاء أيضا. فهو يرى أن أهم أسباب المكانة الخاصة التي اكتسبها هيكل لدى عبد الناصر، منذ أول سنوات الثورة، أنه كان يزود زعيم الثورة بقدر هائل من المعلومات التي تتجمع لديه من قراءاته الواسعة، والتي كان عبد الناصر، وهولا يزال ضابطا حديث العهد بالحكم، في أشد الحاجة إليها، وهكذا بدأ هيكل بالعطاء، وفيما بعد سددت له هذه الديون أضعافا مضاعفة، عن طريق فتح خزائن الأسرار كلها له، وهكذا كان سلاح الأرشيف ذا حدين: يعطي أولا، ثم يأخذ بعد ذلك بلا حدود. هيكل في عيون خصومه.. مثالب و ثقوب بقدر ما علا نجم محمد حسنين هيكل ككاتب صحفي ومؤرخ سياسي، وبقدر انتشار كتبه طولا وعرضا، ومعها صولاته وجولاته في أرشيف الزعماء وكواليس القرار السياسي، بقدر السهام القاتلة التي وجهت له، ومن طرف عدد من الأقلام الوازنة الفكرية والسياسية، بل الداخلية والدولية، والتي اتفقت جميعها على نقطتين أساسيتين: النقطة سؤال المصداقية المفقودة. النقطة سؤال العلاقات الخارجية وعلامات الاستفهام الكبيرة؟ فبقدر ما كان الأرشيف لهيكل مصدر قوته وسطوة قلمه بقدر ما كان مصدرا لمتاعبه في انتقاده، فمثلا المفكر الراحل فؤاد زكرياء وفي رده اللاذع على محمد حسنين هيكل «خريف العمر» والذي انتقد فيه المرحلة الساداتية والسادات شخصيا، في نقد تعدى الشأن العام إلى الحياة الخاصة للسادات. في كتابه «كم عمر الغضب» لفؤاد زكرياء، نجد نقداً لما كتبه الكاتب محمد حسنين هيكل، ففؤاد زكريا لا ينتقد محمد حسنين هيكل باعتباره كاتباً أو مثقفاً أوسياسياً، بل باعتباره نموذجاً للنظام السياسى العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، فهو يضع هذا النظام بأكمله تحت مجهر المساءلة والتحليل مستعيناً بالخطاب السياسي لهذا النظام، فالكاتب والكتاب يحلل للقارئ الظاهرة السياسية العربية بعد أن يسقط القناع المعتاد لتلك الأنظمة السياسية. وتكمن قوة الضربة الموجعة التي وجهها فؤاد زكرياء لهيكل، بل وفي أقوى مفاصله الموجعة عندما اتهمه بأنه غير قادر لوحده أبدا على تجميع كل المعلومات الوثائقية، وترتيبها بمنتهى الدقة. لأن هذا يفوق عمل الأجهزة نفسها! ومجمل القول، يضيف فؤاد زكرياء، أن هيكل كان على حق عندما كشف العيوب الخطيرة للنظام الساداتي، ولكنه كان مقصرا تقصيرا مخلا حين عزل هذا النظام عن سياقه، ولم ينظر إليه على أنه جزء من ظاهرة أوسع منه بكثير…أما الخطأ الثاني الذي اتسم به موقف هيكل، والذي يعد بدون مبالغة عرضا من أعراض مرض أوسع نطاقا، فهو أنه استثنى نفسه تماما من اللوم وصب اتهامه على الغير! وكأنه كان طول الوقت مشاهدا محايدا، أو ناصحا أمينا لا يستمع إليه أحد. ولقد بحثت طوال الصفحات التي قاربت الستمائة صفحة في كتاب هيكل عن سطر واحد من النقد الذاتي، فلم أجده. وكان أقصى ما قاله عن نفسه هو أنه تصور أن السادات سيفعل كذا وكذا ولكن تصوراته لم تتحقق ! ادعاؤه، أي محمد حسنين هيكل، الاطلاع على وثائق وأرشيف لا وجود له بالمرة واختلاقه زيارات ولقاءات من المستحيل حدوثها، بل لا أساس لها من الصحة، مثل ما ادعاه من أنه اطلع على وثائق حلف بغداد السرية، والتي زعم أن عبد الكريم قاسم قد أرسلها إلى جمال عبد الناصر بعد انقلاب 14 يوليوز 1958 بالعراق والإطاحة بالملك فيصل(العراقي). وأنه اطلع عليها، وهناك من تحداه من المختصين العراقيين إذا كان كلامه صحيحا وأنه فعلا قد أطلع على تلك الوثائق السرية. نباش القبور ومهاجمة الزعماء بعد موتهم: كثيرون لاموا وانتقدوا على الجورنالجي الكبير، محمد حسنين هيكل، نبشه لقبور الأموات من القادة والزعماء العرب ملوكا وأمراء ورؤساء، بينما يستنكف عن فعل ذلك وهم على قيد الحياة! ولأن الرواية بعد موتهم تكون من طرف واحد وبذلك يفقدون حق الرد على ما يكتبه الجورنالجي هيكل الذي يتحول بفعل الكتابة إلى مؤرخ… ويرى الدكتور سيار الجميل في تفكيكه الرائع لهيكل الصادر سنة 2000 بأن هيكل قد نال من السادات لأسباب شخصية لا علاقة لها بالمبادئ القومية أو الأخلاقية أو حتى الدينية بل توقع الدكتور جميل في 2000 أنه الأمر نفسه سيحدث مع الرئيس حينها محمد حسني مبارك عقب وفاته أو مغادرته للسلطة، وهو ما حدث فعلا في كتابه عن مبارك وزمانه، والذي صدر بعد مغادرة مبارك للسلطة عقب «ثورة» 25 يناير 2011. ويضيف بأنه قد تعود الناس أن وراء وفاة أي زعيم عربي، كان له تأثيره ولمعانه وتوهجاته وسحره، تهجمات هيكيلية يقوم على صياغتها ببراعة، ويكتبها بتوليفة مصرية معروفة ويقدمها معتقدا أنه يقدم وجبة شهية لأبناء الأمة العربية، متصورا بأنه لا يزال يعيش هوس الخمسينيات وطنين عقد الستينيات وجعجعتها الدعائية، ومتخيلا أنه يسجل بمروياته تاريخية سيعتمد عليها مؤرخو المستقبل! بل ويبدو هيكل متوهما حين يكون قد كشف عن أسرار لم يكن يعرفها غيره! ومعتقدا، وهذا هو سر عقدته أنه بذلك قد شارك في صناعة التاريخ لا في كتابته فحسب! وأن الزعماء العرب لا دراية لهم من دون أن يوجههم محمد حسنين هيكل ! وأنه مستودع أسرارهم وحركاتهم وسكناتهم! وهو يعرف مخادع نومهم وتفصيلات برامجهم ومناهج برتوكولاتهم…ولذا، بدا لنا من نتاج هيكل أن ما كتبه من الأسرار والمعلومات والأفكار والأخبار والآراء التي قالها وحكاها له زعماء عديدون لم ينشرها في حياتهم، إنما أبقاها إن كانت صحيح كي ينشرها بعد وفاتهم واحدا تلو الآخر، كما حدث مع جمال عبد الناصر، ومحمد أنور السادات، وشاه إيران محمد رضا بهلوي، والملك الحسين، والملك الحسن الثاني…. العلاقة المريبة مع العم سام! من الانتقادات التي وجهت لهيكل ومعه صديقه جمال عبد الناصر طبيعة علاقتهم بالعم سام، قبل الانقلاب وأثناءه؟ ومدى اختراق الولاياتالمتحدةالأمريكية لانقلاب الضباط الأحرار في 23 يوليوز 1952 أو على الأقل معرفتها السابقة بالتحركات المريبة للضباط، لا سيما أن عقدي الخمسينيات والستينيات قد امتازا بعربدة جهاز المخابرات الأمريكية في العالم، شرقا وغربا وضلوعه الكبير في معظم الانقلابات التي حصلت. ولعل أبرز من فند طهرانية ثورة الضباط الأحرار، الكاتب والمفكر الكبير محمد جلال كشك رحمه الله، والذي خصص للقضية مؤلفا بديعا ودالا من اسمه هو كتاب: «ثورة يوليو الأمريكية»، حيث بين بالبرهان والدليل علم السفارة الأمريكيةبالقاهرة بتحركات جمال عبد الناصر وأصدقائه، والاتصالات بين الجانبين قبيل حدوث الانقلاب، بل ومناشدة الضباط الأحرار السفارة الأمريكية للضغط على بريطانيا من أجل عدم التدخل لإجهاض مسعى الضباط الأحرار، لأن القضية وكما ورد هي شأن مصري داخلي وعملية تغيير وتطهير داخل الجيش المصري. ويتعقب الدكتور جلال كشك هيكل في مؤلفاته مقارنا بين الطبعة العربية والانجليزية، من كتابه «من ملفات السويس»، حيث يكتب في مقدمته بالعربية، أن مجموعة من الناشرين الانجليز والفرنسيين والأمريكيين والألمان واليابانيين يطالبونه بكتاب عن السويس، وهو ما كرره أيضا في مقدمة كتاب قصة السويس النسخة العربية، وفي مقدمة كتاب حرب الخليج النسخة العربية، وهو ما يضفي على كتبه هالة دولية ومهابة عند القارئ العربي، بينما لا نجد في النسخ الإنجليزية هذا الكلام أي طلب دور النشر الأجنبية له بالتأليف! لأنه بكل بساطة لم يحدث وأن طالبته هذه الدور للنشر بتأليف هذه الكتب. أما عن علاقة هيكل بأجهزة الاستخبارات الأمريكية، فهو الأمر الذي أكدته مصادر أجنبية غير مصرية بل وأمريكية مثل مايلز كوبلاند في كتابه لعبة الأمم وغيره. ولعل حادثة رئيس الاتحاد السوفياتي حينها نيكيتا خروتشوف مع هيكل أبرز مثال، فقد كان اتهم خروتشوف حسنين هيكل أثناء عقد أحد الاجتماعات في موسكو عام 1957 وكان في وفد يرأسه جمال عبد الناصر بأنه عميل لأجهزة المخابرات الأمريكية، والتي كانت السفارة الأمريكية تزوده بمعلومات ينتقد من خلالها الاتحاد السوفياتي، وأنه تلقى مبالغ من الأموال بشيكات إبان زيارته للولايات المتحدةالأمريكية… وينقل سيار الجميل عن جمال الشلبي في أطروحته التي أعدها في جامعة باريس بفرنسا عام 1995، معتمدا على حوار شخصي مع هيكل أجراه معه بالإسكندرية عام 1995، غير أن هيكل نفى هذه المعلومات وقال إن المال الذي تلقاه كان لقاء المقالات التي نشرها في نيويورك تايمز وواشنطن بوست حول حرب كوريا. بيد أن خروتشوف لم يقتنع بهذه التوضيحات، لأن المبالغ كان ضخمة وحجمها يفوق التعويضات العادية على كتابة المقالات! مما اضطر هيكل إلى مغادرة الاتحاد السوفياتي في اليوم التالي من الزيارة. الحسن الثاني و مدافع هيكل لم تكن العلاقة بين الحسن الثاني والجورنالجي الناصري محمد حسنين هيكل على ما يرام، فلم يترك هيكل فرصة للانقضاض على نظام الحسن إلا وانقض. والوقائع في هذا الباب كثيرة، منها ما كان في حياة الحسن الثاني، ومنها ما حدث وعلى عادة هيكل بعدما توفي الحسن الثاني. ويسجل الحسن الثاني في مذكراته تألمه الشديد مما كتبته جريدة الأهرام سويعات قليلة بعد انقلاب الصخيرات 1971، بل ويفرق جيدا بين مصر الأهرام بقيادة ومصر محمد أنور السادات والتي كانت تجمعه علاقات طيبة يقول الحسن الثاني في مذكراته: «لقد انساق المذبوح وراء المصريين، ومعلوم أن الجرائد المصرية تصل إلى المغرب بعد ساعات من طبعها، ويوم 10 يوليو1971، وبعد سويعات فقط على المحاولة الانقلابية كتبت صحيفة الأهرام القاهرية واسعة الانتشار_التي كان يديرها هيكل _ على خمسة أعمدة، وتحت عنوان بارز:» مقتل الطاغية الحسن الثاني. انتهى الديكتاتور» وتطرق المقال إلى انتصار «القوى الحية والوطنية بالجيش». لقد أخطؤوا التوقيت فخانهم التقدير، وساهم هذا الموقف الغريب في إضفاء نوع من الفتور في علاقتنا مع القاهرة…. ويجيب الحسن الثاني عن سؤال كون جريدة الأهرام حكومية مما عقد الأمور أكثر وهل تم التباحث مع الرئيس محمد أنور السادات، قائلا:» إن أنور السادات كان صديقا وفيا مخلص الود. ولم يكن له أبدا مظهر قاتل أو متآمر. فهذا ليس من شيمه، وعندما تحدثنا في الموضوع قال لي: «تعلمون أن حسنين هيكل مدير جريدة الأهرام كان أحد رجالات جمال عبد الناصر، وكتب عني أنا أيضا الشيء الكثير، ولقد تخلصت منه لما سنحت لي الفرصة لذلك». والتقيت فيما بعد بحسنين هيكل، يردف الحسن الثاني، وتباحثنا طويلا في الموضوع، ولقد وعدته بأن لا أبوح أبدا بما دار بيننا»….مذكرات ملك صفحة 94. الحادثة نفسها يعود إليها المستشار الملكي الراحل عبد الهادي بوطالب في مذكراته: نصف قرن من السياسة ص 233 قائلا:» بعدما تبين أنه تم القضاء على المتآمرين لازمتُ البيت يومين أو ثلاثة إذ كنتُ ما أزال أعاني من آثار الجرح. وفي صباح اليوم الرابع زارني أحمد العراقي الوزير الأول مبعوثا من الملك الحسن الثاني وأعطاني لفافة أوراق وردت من القاهرة عبر «التلكس» إلى وزارة الخارجية تتضمن أخبارا عما تناقلته الصحف المصرية حول محاولة انقلاب الصخيرات. وكان من بينها مقال لمحمد حسنين هيكل عنوانه: «قِصَّتي مع الضباط الأحرار المغاربة»، أي مُدَبِّري انقلاب الصخيرات الفاشل. وقال لي العراقي إن الملك الحسن الثاني يرجوك أن تردَّ على مقال هيكل على أن يُقرأ هذا الرد هذه الليلة بالإذاعة والتلفزيون، مشيرا إلى أن هيكل قال في حق الملك كلاما سَيّئا، وأن لدى الصحافي المصري تصورا غريبا عن الملك الحسن الثاني وعن المؤامرة، مُدَّعيا أنه كان يعلم بها قبل وقوعها ويتوقع قرب حدوثها لأن ضباطا مغاربة شبابا زاروه خلال وجوده في الرباط وأخبروه بها قبل وقوعها. قلت للوزير الأول: «دعني أولا أقرأ هذا المقال». وقد وجدتُ أنه تضمن بعض الوقائع التي قال هيكل إنه شهدها بنفسه عندما كان بالرباط وكان صادقا في بعضها، لكنه أضاف إليها ما لا يثبت عند النقد والتحليل لأنه من صنع الخيال. تحدث حسنين هيكل عن حياة الملك الخاصة وعن شكل لباسه عندما يقضي وقته الثالث مرتاحا من أعباء المسؤولية، وقال عنه إنه أساء معاملته للرئيس عبد الناصر عندما جاء في زيارة إلى المغرب وتحدَّدَ موعدٌ للقائهما لكن الملك تركه ينتظر. وقصَّ في مقاله حكايته مع مجموعة ضباط من المغاربة لم يُسمِّهم ولم يَصِفْهم قائلا إنه أثناء انعقاد القمة العربية في الرباط في أواخر سنة 1965، وبينما هو نائم في غرفته بفندق هلتون، طرق بابه في الساعة الواحدة صباحا ضابط شاب مغربي وطلب منه أن يخرج معه خارج الفندق للتحدث إليه، وأن الضابط أضاف أن مجموعة من الضباط الأحرار يريدون أن يتحدثوا معه على انفراد حتى يُطلِعوه على أمرٍ مُهِمّ وخطير يجب أن يعرفه، وأنه قد يستفيد من معرفته لهذا الأمر الهام في الوقت المناسب. ووصف حسنين هيكل كيف ذهب مع الضابط من الرباط إلى مكان مجهول تحت جنح الظلام بتدقيقات وتفصيلات خيالية، وكيف قطع عددا من الكيلومترات متنقلا من جهة كذا إلى جهة كذا. وكان وصفه مليئا بالأخطاء والتناقضات التي تدل على أن القصة مُفتعَلَة صنعها خيال خصب. وفي قصه هذا بدت مدينة الرباط من خلال ما كَتب عنها وكأنها قرية صغيرة منعزلة خالية من السكان، وأنه يمكن أن يقطع فيها الماشي على قدميه مسافة كبرى دون أن يحسَّ به أحد أو يَلْقى على طريقه أحدا. وقال إنه عندما اجتمع بالضباط قالوا له: «نحن الضباط الأحرار في المغرب وستسمع عنا قريبا لأننا اعتزمنا أن نقوم بنفس ما قام به العقيد معمر القذافي في ليبيا وجمال عبد الناصر في مصر. وإننا أردنا أن نؤثرك بهذا النبأ العظيم حتى يمكنك أن تتحدث عنا عندما تدُقُّ ساعة الحسم ونعلن ثورتنا. وتبيَّن لي وأنا أتابع قراءة المقال أن أغلب ما كتبه هيكل مجرد حلم من أحلام الساعة الواحدة ليلا رآه وهو على سريره في غرفته. فقلت لأحمد العراقي : «هل اطَّلع جلالة الملك على مقال هيكل؟». فكان جوابه «لا». وأضاف قائلا: «إن جلالة الملك عَلِم أن هذا المقال فيه إساءة له وهو لا يريد أن يطَّلِع على مثل هذه المقالات لأنه لا يستفيد من قراءتها وإنما تُسبِّب له إزعاجا لا يرغب فيه. وجلالته يطلب منك أن تَرُدَّ عليه. فقلت له: «أنا غير متفق على الرد على هذه السفاسف ولا فائدة لنا في الدخول في مهاترات كلامية عقيمة الجدوى مع صاحب المقال، وتلفزيون المغرب لا يُسمَع إلا في المغرب بينما إعلام مصر أقوى وأكثر انتشارا. وكل رد على هيكل سيستغِلُّه لتلميع صورته ولن يفيد المغرب شيئا». فقال: «لِمَ لا تقول رأيك هذا بصراحة؟». وأسرعت إلى التلفون وطلبت الملك وقلت له: «إنني تلقيت من الوزير الأول مقال هيكل وأخبرني أن جلالتكم لم تَطَّلِع للأسف على ما جاء في المقال. وأرى أنه لا فائدة من أن نفتح هذه المعركة الكلامية مع إذاعة «صوت العرب» التي تُسمَع في كل جهة، وأن يُنشر الردّ من جانبنا في المغرب عبر التلفزيون والإذاعة وهما لا يُسمعان في الخارج. وفي هذه الحالة ستكون النتيجة أننا أَطْلَعْنا المغاربة فقط على أكاذيب هيكل. فكان جواب جلالته: «إذا كنت ترى ذلك فلا بأس»…. وعلى عادة هيكل، في نبش القبور مباشرة بعد وفاة الرؤساء والقادة العرب، فقد تناول الحسن الثاني في مقال مطول نشرته له مجلة وجهة نظر في حلقتين، ضمنها أربعا من مفكراته، عن الملفات الملكية التي أراد نشرها واخراجها بعد وفاة الملكين الحسن بن طلال والحسن الثاني، واللذين توفيان في العام نفسه الأول في فبراير والثاني يوليوز من نفس العام 1999. وكان مقاله المسهب بعنوان: المعلوم والمكتوم في دور الملك الحسن الثاني وسياساته، وبعنوان تحتي : الحسن الثاني قرأ ميكيافيللي أميرا وطبق آراءه ملكا، تطرق فيه إلى ثلاث مفكرات من ثلاث زاويا: الأولى: عن أوجه الشبه والتقارب بين الملكين الحسن الثاني والحسين بن طلال. الثانية: عن ذاكرة ملك وذاكرة صحفي في مساجلة، هكذا أسماها هيكل حين كتب ذاكرة صحفي مساجلا الحسن الثاني في ذاكر وملك. والثالثة: كانت تسجيلا لوثائق خرجت من إسرائيل، حسب ادعاء هيكل وتضخيمه المعهود، جاء فيها أن الحسن الثاني سمح للموساد بأن تتسمع على مناقشات مؤتمرات القمة العربية لعام 1965. أما المرة الثانية التي نبش فيها قبر الحسن الثاني فقد كانت في 2008 في برنامجه على قناة الجزيرة «مع هيكل» حين تطرق إلى حادثة اختطاف الطائرة المغربية في أكتوبر 1956 و التي كان على متنها قادة الثورة الجزائرية، مشيرا إلى ضلوع الحسن الثاني في مؤامرة الاختطاف من علم أبيه محمد الخامس. والحال أنها ليست المرة التي يتم فيها توجيه هذا الاتهام للحسن الثاني، فقد سبق أن وجه الاتهام نفسه مدير المخابرات المصرية في عهد عبد الناصر، فتحي الديب والمكلف يومها بملف المغرب العربي والثورة الجزائرية، في كتابه عن عبد الناصر وثورة الجزائر.