لم يكن حكم الحسن الثاني مرحبا به في الكثير من المحطات، خصوصا تلك التي أعقبت توليه العرش وما رافق ذلك من اعتقالات واختطافات، ستنتهي بالإعلان الرسمي عن حالة الاستثناء التي وضع الملك بعدها كل السلط في يده. لذلك تعرض لأكثر من محاولة انقلاب تحدث البعض عن كونها قاربت العشرين محاولة، لم يكتب لأي منها النجاح. وبين انقلاب الصخيرات في 1971 ومهاجمة الطائرة الملكية في غشت 1972، وقع توافق كبير بين إرادتي الجنرال أوفقير، الذي كان يردد أنه يريد أن يسحق الحسن الثاني، وإرادة الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد، المكتوي بنار الملك الذي استحوذ على الحكم وأصبحت كل السلط مركزة بين يديه، لإنهاء حكم الملك. انضاف إليهما كل من المقاوم حسن صفي الدين الأعرج، والمستشار الملكي ادريس السلاوي. هذا الرباعي الذي رتب لانقلاب من نوع خاص لن تطلق فيه أي رصاصة، ولن يسقط فيه ضحايا كما حدث في الانقلابات السابقة. سيرة الانقلاب، والترتيبات التي سبقته، والتي تعيد «المساء» تركيب حلقاتها في هذه السلسلة، كانت تهدف إلى اختطاف الملك الحسن الثاني بواسطة طائرة مروحية، ثم تشكيل مجلس وصاية إلى أن يصل ولي العهد إلى سن الرشد، على أن يتولى مستشاره ادريس السلاوي مهمة رئاسة الدولة. لم يشعر الحسن الثاني قط، خصوصا بعد انقلاب الصخيرات، أن جنراله أوفقير يرتب لانقلاب ثان. أما أن يكون هذا الانقلاب بمعية مستشاره ادريس السلاوي، ورفاق عبد الرحيم بوعبيد، فالأمر مستبعد جدا. لذلك سيقول الملك الراحل في لحظة ضعف مثيرة للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، دون تردد» لقد كنت أغمض عيني عارفا أن عيني أوفقير مفتوحتان.. وكنت أنام الليل مطمئنا إلى أنه سهران.. ثم تآمر علي أوفقير ثلاث مرات على الأقل وكاد يقتلني لولا أن حماني الله». لقد حضر الحسن الثاني عملية إعدام أوفقير بنفسه. ورغم أن المسؤولية اضطلع بها بعده الدليمي، إلا أن مصيره لن يختلف عن مصير رئيسه، الذي توفي في حادثة سير ظلت غامضة. ظل الجنرال محمد أوفقير رجل ثقة الحسن الثاني. بل إنه لعب أكثر من دور سياسي، وكان بمثابة اليد التي صفى بها الملك الراحل خصومه السياسيين وقد كان في مقدمتهم المهدي بن بركة، الذي اتهم أوفقير بتصفيته. التهمة التي ظل أوفقير يردها بعد أن قدم لرفاق المهدي ما اعتبره أدلة براءته. وهي الأدلة التي سهلت انخراطه في الترتيب لاختطاف الملك في عيد عرشه سنة 1972. سيضطر الحسن الثاني ليتخلى عن كل سلطه في لحظة ضعف ويضعها بيد جنراله أوفقير مباشرة بعد انقلاب الصخيرات صيف 1971 بالصخيرات، قبل أن يكتشف أن أوفقير هو واحد ممن رسموا الخطوط العريضة لهذا الانقلاب، ولانقلابات أخرى. وقد ظل الحسن الثاني يعتقد، حد الجزم، أن الانقلاب الذي قاده محمد أوفقير وزير داخليته في الصخيرات، كان بتخطيط مصري ومشاركة ضمنية من جمال عبد الناصر، وبعض المقربين منه. لذلك كتب الملك الراحل في «ذاكرة ملك» أن محمد حسنين هيكل، أحد الصحافيين المقربين جدا من الرئيس المصري، ساند انقلاب أوفقير وذلك من خلال علمه المسبق بتدبيره. ومن الأدلة التي قدمها الحسن الثاني في كتابه، مذكراته، هي تلك الطريقة التي غطت بها جريدة الأهرام المصرية الحدث، حيث كان هيكل يرأس تحريرها. كان لا بد لهيكل أن يرد على هذا الاتهام. لذلك كتب في اليوم الأول الذي نزلت فيه مذكرات الملك إلى الأسواق، مقالا في الأهرام سماه «ذاكرة صحافي». يحكي هيكل كيف أنه التقى الملك الراحل سنة 1975 الذي دعاه لحفل عشاء في قصره بفاس، بعد أن أقلته إحدى طائرات السرب الملكي من الرباط. ويضيف الصحافي المصري في المذكرات التي نشرها بعد ذلك بمجلة «وجهة نظر» أن الحسن الثاني بادره بالسؤال عما كان يعرفه في محاولات الانقلاب التي دبرها أوفقير، سواء عن طريق مساعده المدبوح في عيد ميلاده بالصخيرات في يوليوز من سنة 1971، أو تلك التي دبرها لإسقاط طائرته وهو عائد من باريس سنة بعد ذلك. وزاد الملك في الاتهام حينما استشهد بما نشرته جريدة الأهرام وقتها، حيث كان هيكل رئيس تحريرها، إذ ستحكي الأهرام، وعلى خمسة أعمدة بعرض الصفحة الأولى تفاصيل كل ما جرى، رغم أن المحاولة انطلقت في حدود الساعة السابعة مساء، وهي التاسعة ليلا في القاهرة. وفي مدة قصيرة كانت التغطية جاهزة. وأضاف الملك، في محاولة لتثبيت التهمة على عبد الناصر والمقربين منه، أن أحد المتآمرين في انقلاب الصخيرات اعترف بأن أوفقير كان ينوي بعد نجاح انقلابه أن يبعث إلى هيكل بدعوة لكي يأتي للكتابة عنه، تماما كما كتب عن انقلاب القدافي في ليبيا. كان رد هيكل قويا حينما قال للحسن الثاني إننا في مصر، وجمال عبد الناصر أولهم، نعرف أن أوفقير هو رجل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في المغرب العربي كله.. لقد كنا نشك فيه وكنا نتهمه دائما. ومن ثم لا يمكننا أن نعتبر ما قام به عملا وطنيا أو قوميا. وللتأكيد على ما يقول، استشهد هيكل بواقعة كان بطلها أوفقير. قال هيكل للحسن الثاني إن اختيار أنور السادات نائبا للرئيس عبد الناصر حدث بسبب أوفقير. ففي دجنبر من سنة 1969 كان جمال الرئيس المصري يستعد للسفر إلى المغرب من أجل الحضور لمؤتمر عربي احتضنته العاصمة المغربية. ووصلت عبد الناصر معطيات تفيد بأن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تخطط لاغتياله. وأن المكلف بالمهمة لن يكون غير أوفقير وزير داخلية الحسن الثاني. وقتها، يقول هيكل، فكر عبد الناصر في الأمر جيدا، وكاد يعتذر عن السفر إلى الرباط، قبل أن يقرر اختيار محمد أنور السادات نائبا لرئيس الجمهورية لكي لا يقع أي فراغ إذا حدث أي مكروه لجمال عبد الناصر. وزاد هيكل في دفاعه عن نفسه وعن ولي نعمته جمال عبد الناصر حينما حكى عن واقعة حدثت بحضور الحسن الثاني، وأحمد عصمان وهو وقتها وزير أول، والمستشار أحمد بن سودة، ومدير التشريفات مولاي عبد الحفيظ، على هامش مؤتمر القمة لسنة 1969. لقد تقدم أوفقير، يحكي هيكل، للسلام عليه. وقال له: إنني أتحاشى الصحافة والصحافيين دائما، لكنني أتابع ما تكتب. ثم أضاف: لماذا تهاجمني وأنت لا تملك دليلا ، وكان هيكل يكتب باستمرار أن أوفقير هو من اختطف المهدي بن بركة واغتاله. فكان رد هيكل: أنت رجل غامض على الأقل. والرجل الغامض متعب لخصومه، ولأصدقائه على السواء. فخصومه لا يعرفون بالضبط، ماذا. والأصدقاء لا يعرفون بالضبط، كيف. رد أوفقير: وهل أنت خصم أم صديق؟ فأجابه هيكل: أنا خصم. ثم أضاف «إنني خصم لوزير الداخلية، أي وزير داخلية. أما حينما يكون أوفقير هو زير الداخلية، فإن الخصومة تصبح وقتها أشد تعقيدا». رد أوفقير، أمام أنظار الحسن الثاني الذي كان يتابع الحوار: وهل يضايقك حفظ الأمن؟ أجاب هيكل: يتوقف على معنى الأمن. أجاب أوفقير أن معنى الأمن عندي هو أن يكون كل إنسان آمن في بيته ومع أولاده. قال هيكل: هذا كلام واسع. أنا أتحدث عن الأمن ضد الأفكار.. فمسألة الأمن ضد اللصوص لا أناقشها، ولكني أناقش أمن الفكر. فرد أوفقير «أن الأمن الفكري هو ألا تختلف عن رأي الجماعة.. فليس من حق أحد أن يخرج عن الجماعة..هذا هو حكم الدين». لكن الجنرال أوفقير لم يتكلف فقط بأمن البلاد واستقرارها، ولكنه راهن على أن يكون حاكمها المطلق، خصوصا وقد جرب ذلك لبضع ساعات كان فيها الحسن الثاني مرتبكا حينما وضع كل السلط بيديه دفعة واحدة. ولذلك عاد من جديد، بعد أن وجد في مستشار الملك ورفاق عبد الرحيم بوعبيد، الرغبة في القضاء على الحسن الثاني. هل كان أوفقير يرتب خطته لاختطاف الحسن الثاني وإرغامه على تقديم استقالته، أم أنه ظل غامضا، كما وصفه هيكل. وهو الغموض الذي قد يكون حركه لتجريب انقلاب الطائرة في غشت من سنة 1972، بعد أن فشل اختطاف مارس من نفس السنة؟