«ادع الله أن يحفظك من الخضوع لحكم المرأة أو الشخص الأسود»، دعاء أمازيغي يردده سكان جماعة « تاركانتوشكا»، التي تبعد عن مدينة أكادير بأزيد من 120 كيلومترا، قول يجسد النظرة الدونية التي رسخت منذ زمن بعيد حول المرأة والمواطنين ذوي البشرة السوداء. دعاء وإن كان يؤرخ لزمن مضى ويكشف عما طال السود من استعباد واحتقار للمرأة، غير أن هذا الموروث ما زالت بعض آثاره حاضرة بالمنطقة. «تاركانتوشكا» واحة تحيط بها الجبال من كل جانب، تغريك بهدوئها الذي يشفي علة كل سقيم، لكن هذا الهدوء تسبقه عاصفة من المعاناة اليومية للسكان، خاصة المرأة التي تعاني يوميا جراء قيامها بالأعمال الشاقة التي تمارسها في حياتها اليومية والأطفال الذين يتحملون الكثير من أجل الدراسة. الوصول إلى هذه القرية التي يلقبها البعض ب«عروس الأطلس الصغير» يتطلب ساعات طويلة من الانتظار انطلاقا من بلدية « آيت بها» لغياب وسيلة نقل عمومي، ويعوضها النقل السري الذي ينتظر أصحابه وقتا طويلا لملء سياراتهم عن آخرها. دواوير منتشرة بالجبال، بعضها لذوي البشرة البيضاء أو كما يسمونهم بالأمازيغية «أمازيغ»، ودواوير أخرى للسود، أو كما يصطلح عليهم بلهجة المنطقة «أسوقي» مثل دوار « لزيط»، ودوار «ادغارن». الأشغال الشاقة اعتادت صفية، ذات الخمسين عاما، الاعتناء بالأرض ابتداء بتهييئها لزرع بذور القمح والشعير مستعملة المحراث التقليدي، ثم الإشراف عليها إلى حين موسم الحصاد. لم يكن حرث الأرض أو الحصاد بالتكليف الجديد في حياة صفية، فمنذ صباها وهي تقوم بمثل هذه الأعمال، لقد كانت ترعى الغنم وتساعد والدتها في حرث الأرض وحصاد المحصول الزراعي، عمل تصفه صفية، المتزوجة من مهاجر بفرنسا، بالشاق والمتعب لكن لا محيد عنه لأنه بمثابة الواجب لمساعدة زوجها على تكاليف الحياة، لكنها تؤكد أن نتائجه كانت وخيمة عليها لأن جسدها أصبح مريضا. تشير ابنة صفية بيدها إلى المساحة الشاسعة التي تحرثها والدتها سنويا قائلة: «كل هذه الأرض تحرثها والدتي ولا يمكنها ألا تفعل ذلك لأن ذلك من مهامها الإجبارية، حاولت أن تعلمني الأعمال الفلاحية لكنني رفضت بدعوى أنني أتابع دراستي، والحقيقة أنني لا أريد أن أورط نفسي في تعلم شيء يصبح واجبا علي بعد الزواج، وأن كل رفض لذلك قد يفسر تمردا، كما أنني أريد أن أحافظ على شبابي لأن النساء سرعان ما تظهر عليهن علامات الشيخوخة رغم صغر سنهن بفعل الأشغال المتعبة التي يقمن به يوميا». «أغلب نساء القرية يقمن بالعديد من الأدوار المختلفة والمتعددة، فهن من يشرف على تربية الأطفال وإعداد الطعام ونظافة المنزل وجلب الماء والحطب وحرث الأرض وحصادها، وبالمقابل فإن الرجال يرحلون إلى المدينة لكسب قوتهم اليومي، لكن هناك بعض الأزواج الذين يفضلون إمضاء الوقت في لعب الأوراق عوض مساعدة زوجاتهم على تكاليف الحياة الكثيرة»، تقول عائشة من سكان القرية. محنة جلب الماء جلب الماء الصالح للشرب بعد قطع مسافات طويلة من المهام المعتادة للمرأة أيضا، ينوب عنها الرجل كلما تعذر عليها القيام بذلك بسبب المرض أو الحمل. خديجة، طفلة تجهل سنها، لكن ما تذكره جيدا هو أن توفير الماء الشروب لكافة أفراد الأسرة ضمن مسؤولياتها ولا يمكن أن ينتقل هذا التكليف لشقيقها الذي يكبرها لأن مهمته هو أيضا هي رعي الغنم. تقطع خديجة مسافة تفوق ستة كيلموترات، وهي تمتطي الحمار حاملة قارورات بلاستيكية، وعندما تصل إلى مكان العين القريب من مقر سكناها فإنها تنتظر دورها لجلب الماء، وبعد الانتهاء تعود مشيا على الأقدام وهي تجر دابتها التي تعاني بدورها من ثقل وزن القارورات المحملة على ظهرها. جسد خديجة النحيف تعود على الأعمال الشاقة بعدما تركت فصل الدراسة لعجز أسرتها على تأمين مصاريفها بسبب الفقر المدقع الذي تعيشه. وبدورها تستغرق لطيفة، 20 سنة، ما يقارب الثلاث ساعات لجلب الماء من أقرب عين للدوار، وتزداد معاناتها في فصل الشتاء والصيف، فخلال الفترة الأولى تعجز عن جلب الماء وأحيانا تستعيره من بعض الجيران الذين يملكون خزانا للمياه، أما خلال فصل الشتاء فيقل ماء العيون وتشتد الحرارة فتصعب معها مهمة جلب الماء. تقول لطيفة: «بالمنطقة هناك أغنياء يملكون سيارات لا يجدون صعوبات في الحصول على الماء لأنهم يحملون القارورات ويملؤونها ثم يعودون ممتطين السيارة، أما نحن الفقراء فنصيبنا هو المشي طويلا والتعب للحصول على الماء، وكثيرا ما نسمع أن محنة جلب الماء سوف تنتهي، لأنه سيتم ربط المنازل بالماء الصالح للشرب، لكن كل هذا يبقى مجرد كلام ووعود لم يتم تحقيقها على أرض الواقع، وما زلنا ننتظر». ممرض لخمسة آلاف نسمة يشترك سكان الجبال بالمغرب في ثلاثة مشاكل تتمثل في «التعليم والصحة والماء الشروب». انطلاقا من «أكادير أزور» يقصد الأطفال يوميا المدرسة بفرعية آيت عمر، بعدما يسيرون لأميال، وهم يحملون متاعهم من الكتب المدرسية وبعض الأكل وماء الشرب، ولبعد المسافة فإنهم اعتادوا على الاستراحة وسط الطريق تحت ظل شجرة هناك، ليتمموا بعدها الطريق، وحسب بعض سكان القرية فإن أبناء هذا الدوار خاصة الصغار انقطعوا عن الدراسة لعدم قدرتهم على تحمل مشاق الطريق. يقطع رشيد آيت برام، طفل من دوار «تامكراط» مسافة طويلة من أجل الوصول إلى مدرسته، نظراته البريئة توحي برغبته الشديدة في التعلم. يقول رشيد مبتسما «أتعب كثيرا من أجل الوصول إلى المدرسة لكنني أحب التعلم». ترافق خويدجة، ذات الثماني سنوات، شقيقها لحسن إلى مدرسة أمديون لمتابعة دراستها، وهي تحمل محفظتها التي أنهكت جسدها الصغير، تقول هذه الطفلة ببراءة: «نقطع يوميا مسيرة أزيد من ساعة من أجل الوصول إلى المدرسة، نشعر بعياء شديد، ولكن نعلم أن كل هذه المجهودات ستكون نتائجها جيدة عندما نكبر، وحالنا أحسن بكثير مقارنة مع وضع العديد من الأطفال الذين يأتون من دواوير بعيدة ويصلون متأخرين إلى الفصل الدراسي». وإذا كان الأطفال يتعبون كثيرا من أجل الوصول إلى المدرسة فإن تعبهم يزداد إذا ما أصيبوا بنزلة برد أو حمى، لأن المستوصف الوحيد الموجود بالقرية قد لا يفي بالغرض، أما إذا كان الممرض الذي يعمل بالمستوصف الوحيد بالجماعة في عطلة فلا أحد يحل مكانه، ما يدفع بالممرض إلى أن يعلق ورقة يخبر فيها السكان بأنه أخذ عطلته السنوية، الشيء الذي يجعل المرضى في انتظار دائم، أما قسم الولادة فيكاد يكون حلما بالنسبة لنساء المنطقة اللواتي يجبر الفقيرات منهن على وضع المولود داخل البيوت لأن لا خيار لهن، أما اللواتي ينتمين إلى أسر غنية فيلجأن إلى مدينة آيت ملول أو أكادير من أجل الوضع، تقول فاطمة السايح، التي تعتبر أن آخر ما يفكر فيه بهذه الجماعة هو وضع النساء خاصة القاطنات بالجبال والتي وصفتهن ب«المقهورات على مدى الزمن». «بالجماعة مستوصف به ممرض واحد ل5000 مواطن، وإذا غاب الممرض فلا يوجد من يعوضه، وإذا وجدت حالة مستعجلة فلا نجد سيارة إسعاف»، يقول عبد الله كجوي، رئيس جماعة «تاركانتوشكا» ل«المساء». أما الماء الشروب فيعتبر من الأولويات بالنسبة للجماعة، حسب قول كجوي، لوجود مشروع متوقف منذ سنة ونصف ويتعلق بمد كل المنازل بالماء الشروب من عين «امينتودروت»، هذا المشروع الذي يقال إن هناك بعض الشكاوى بشأنه والتي لم يتم حل موضوعها بعد. بؤس وفقر الوصول إلى منزل فاطمة وكت، أرملة وأم لخمسة أطفال، مشيا على الأقدام يتطلب حوالي 20 دقيقة انطلاقا من الطريق الرئيسي بالقرية. كل معالم بيتها تحيل على الفقر والبؤس والحرمان، تعاني كشأن نساء القرية من كثرة الأعمال الموكولة إليها، لكنها أضيفت إليها معاناة أخرى، وهي تعرض منزلها لتصدع بفعل التساقطات المطرية التي عرفتها المنطقة خلال موسم الشتاء الماضي. ليست فاطمة لوحدها من تعيش هذا الوضع، فبدوار «ليوانت» ودواوير أخرى بجماعة «تاركا توشكا» تعيش أسر أخرى هاجس انهيار منازلها بفعل الأمطار، خاصة أن هذه البنايات قديمة جدا. تبكي فاطمة وهي تصر على معاين للأخطار المحدقة بها، غير أن ابنها نصحنا بعدم الاقتراب من بعض الأماكن لأنها أوشكت على الانهيار. تحكي بمرارة عن وضعها المادي المزري الذي منعها من ترميم منزلها كما فعل بعض جيرانها، وتتمنى أن تجد من يهتم بملفها ويشفق لحالها ممن أسندت إليهم أمور تأمين السكن اللائق والعيش بكرامة لأولئك. تقول فاطمة إن ممثل السلطة المحلية بالمنطقة قدم وعدا بإعادة ترميم المباني لكن بدون جدوى، غير أن مسؤولا بعمالة اشتوكة آيت بها أكد أن هذه المنازل عتيقة وأن الشقوق التي أصابتها بفعل الزمن وليس بسبب الأمطار، وأنه إذا قامت السلطات بترميمها أو توفير السكن للمتضررين فإنها ستكون مجبرة على القيام بذلك لكل المنازل العتيقة، كما أوضح أنه لا توجد ميزانية لذلك. من أجل التعلم والمعرفة تحذو جميعة، شابة في العشرينات من عمرها، رغبة في تعليم نساء المنطقة حروف الهجاء ليتلمسن طريقهن نحو العلم والمعرفة ويتحدين الجهل والأمية. لكن ما يعيق طريقها هو الاعتداء الذي تتعرض له العديد من النساء بالمنطقة على يد بعض السكان الذين يرجمون النساء بالحجارة، إضافة إلى تكسير نوافذ النادي النسوي الذي تمارس به عملها. ما زالت آثار الهجوم الأخير الذي تعرض له النادي واضحة المعالم، نوافذ مكسورة والزجاج مرمي على الأرض وإلى جانبه الحجر الذي نفذت به العملية. ولا تجد جميعة عزاء سوى تشبثها بتعليم المرأة مهما كانت الظروف، وهي التي اختارت أن تعلق أبياتا شعرية وأمثالا تبين مكانة المرأة من قبيل «الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق»، و«المرأة نصف المجتمع». تقول جميعة «ينبغي الإسراع بحل مشكل النادي النسوي، حتى نستمر في عملنا» العديد من المستفيدات يتشبثن بالاستمرار في التعليم بالنادي لأنهن لا يرغبن في أن يقف أي أحد ضد هذه الرغبة بعدما حرمن من هذا الحق منذ الطفولة، حسب قولهن ل«المساء». وأكد الحسين بوفلوس، رئيس جمعية تمكويين للتنمية والتربية والمحافظة على البيئة، أن تسيير النادي غير موكول لجمعيته رسميا، وهذا ما يجعله عاجزا على القيام ببعض الخطوات، مثل ربط النادي بالكهرباء، موضحا أنه يقال إن أرض النادي تعود ملكيتها إلى محسن وهبها للجماعة ليكتشف أنها وهبت لجمعية، والبناية تعود إلى إدارة التعاون الوطني التي سلمتها إلى الجماعة. مشاكل يرى بوفلوس أن حلها موكول إلى السلطات والجهات المختصة التي ينبغي أن تتدخل لصالح النساء لا غير. ألفاظ عنصرية ضد السود بجماعة «تاركا توشكا» هناك دواوير خاصة بالسكان البيض وأخرى خاصة بالسود، لدرجة أن هناك دواوير تكاد تعجز فيها عن إيجاد مواطن بشرته بيضاء. حسن أمزيل، فنان شعبي، يحظى بمكانة متميزة بالمنطقة، غنى عن الحب والفلاحة وعن الميز ضد السود. أمزيل يؤكد أن العنصرية موجودة بين البيض والسود، وبين السود أنفسهم، بين الذين تعود أصولهم إلى العبيد، أو ما يعرف بالأمازيغية «اسمك»، وبين السود الذين لا يعود أصلهم إلى العبيد. يسرد أمزيل العديد من المصطلحات التي تكشف عن الميز العنصري من قبيل «أسوقي إجان»، أي أن «ّ الشخص الأسود رائحته كريهة» أو أن «السود أصلهم قردة». ويتذكر الفنان الشعبي لعبة تبين مدى الميز ضد السود، هو أن «البيض» عندما يلعبون بينهم فإن عقوبة الخاسر هو لمس أنف «أسوقي»، أي «الطفل الأسود». تخلف هذه السلوكات بعض الأثر في نفسية أمزيل، « ويقول إن الميز ما يزال في استعمال الألفاظ لا غير، والذي يطال حتى ذوي البشرة البيضاء الذين تعود أصولهم إلى السود ومن هؤلاء ميلود، هذا الأخير، ذو البشرة البيضاء، يفتخر بنسبه الأجنبي ليبعد عنه «تهمة» انحداره من أسرة سوداء، يقول بنوع من الاعتزاز «إن جدتي تدعى مارغاريت دون أن يكلف نفسه ذكر نسبه المغربي». يتحدث باللغة الفرنسية ويمزجها بالعربية والأمازيغية، وهو يحكي أنه أبيض ووالده بشرته بيضاء، لكن لا يرغب في أن يذكر أن جده ذو بشرة سوداء تزوج من فرنسية ليخلف أبناء لهم بشرة بيضاء. لكن سرعان ما يسرد قصة تحيل على أصوله السوداء، ويؤكد أنه من ضحايا الميز العنصري اللفظي من قبل العديد من السكان، ويقدم مثالا على ذلك بأنه آخر مرة ذهب للتبضع من السوق فلمزه أحدهم بأصوله السوداء، ولم يرغب في الرد عليه ففضل الصمت لأنه لا يرغب في الخصام خاصة خلال فترة «العواشر» على حد قوله. وعند سؤاله عن انتمائه إلى قبيلة السود أو البيض يجيب «أنا مسلم وكفى». اعتقدنا أن ما يقوله بعض السود عن الميز اللفظي تجاههم هو مجرد افتراء لا غير، وأنه لا يصل إلى درجة أن من يرفض التعامل معهم، العديد من البيض أكدوا أن هذه الظاهرة قديمة جدا أيام كان العديد من السكان يملكون عبيدا، لكن الوضع تغير الآن ولا فرق بين أسود وأبيض، فالكل سواسية أمام القانون وفي المعاملة، لكن هناك بعض الذين يرون غير ذلك، ومنهم رجل أمضى أزيد من عشرين سنة بفرنسا لا يتردد في الإعلان عن كرهه للسود الذين يعتبر أن أصلهم من فصيلة «القردة»، كما يقول، ويعتبر أن تمكينهم من الحكم هو بمثابة مؤشر على اقتراب قيام القيامة. هذا المهاجر يرفض أن يناديه بعض أطفال قريباته من ذوي البشرة السوداء ب«خالي»، ويفضل أن ينادونه باسمه فقط. ويرفض هذا المهاجر أن يصاهر من كانت بشرته سوداء مهما علا شأنه، ولم تجد محاولة المقربين منه في تغيير أفكاره التي يحملها تجاه السود نفعا.