بعد إعلان الحكومة خلال شهر دجنبر الماضي عن استراتيجيتها الوطنية لمكافحة الفساد، والتي كلفتها 1,8 مليار درهم، خرجت أصوات من داخل هيئات سياسية من المعارضة، تعتبر أن لهذه الاستراتيجية خلفيات سياسية، خاصة أنها جاءت قبل شهور من انتهاء عمر الحكومة الحالية، التي يقودها حزب العدالة والتنمية، وهو ما رفضته الحكومة على لسان وزيرها في الوظيفية العمومية وتحديث الإدارة، محمد مبديع، الذي «قال إنه لا يمكن إلزام الحكومة بعدم العمل في نهاية ولايتها، وزاد «سنواصل العمل على هذه الإستراتجية في الولاية المقبلة». في المقابل، فإن التدابير التي تتضمنها هذه الاستراتيجية، جاءت لتغطي مختلف أبعاد الموضوع، منها تأهيل الجانب المؤسساتي والقانوني، وتفعيل الجانب الوقائي والزجري، وتكثيف التربية والتحسيس والإعلام، كما سيتم منح الأولوية للإجراءات العملية التي يمكن أن يكون لتنفيذها وقع أكبر على القطاعات والمساطر المعنية أكثر بالفساد وتلك التي تسجل أكبر نسب من عدم الرضى لدى المواطن، بحسب ما أكده عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة، خلال الاجتماع الثاني للجنة المشرفة على هذه الخطة. وتسعى الحكومة من خلال استراتيجيتها، التي تتضمن 239 مشروعا وإجراء يمتد تنفيذها على مدى 10 سنوات، إلى تحسين خدمة المواطن والإدارة الإلكترونية وتكريس الشفافية والوصول إلى المعلومة وتعزيز الأخلاقيات في الوظيفة العمومية وتقوية الرقابة والمساءلة وتقوية المتابعة والزجر، وكذا تعزيز إدارة وتدبير الطلبيات العمومية وتحسين شفافية الفاعلين الاقتصاديين في القطاع الخاص وتحسين التواصل، كما تسعى إلى تخفيض حجم الارتشاء في الإدارة العمومية إلى حوالي 65 في المائة سنة 2017، و55 في المائة سنة 2020، و45 في المائة سنة 2025. ومن بين ما حملته هذه الخطة الحكومية الجديدة، هو خفض عدم ثقة المغاربة في الإدارة العمومية من 89 في المائة حاليا إلى 20 في المائة بعد عشر سنوات من الآن، وكذا نقص عدم ثقتهم في إجراءات محاربة الرشوة من 72 في المائة إلى 30 في المائة خلال عشر سنوات المقبلة. وبلغة الأرقام، فإن نسبة ملفات الفساد ارتفعت خلال السنوات الأخيرة، وفق ما كشفت عنه وزارة العدل والحريات، إذ عرفت ارتفاعا سنة 2014 بنسبة 53 في المائة مقارنة بسنة 2013، فعدد ملفات الفساد المالي التي تم تسجيلها على صعيد محاكم المملكة خلال السنة الماضية بلغت 14 ألفا و84 ملفا، في الوقت الذي كان عددها خلال سنة 2013 حوالي 9 آلاف و199 ملفا. تفسير الوزارة، وفق وثيقة لها، لهذه الارتفاع هو «المجهود الذي يبذل في المجال، فضلا عن التدابير المتخذة لحماية الشهود والمبلغين عن الفساد المالي، خاصة أنها أحدثت خلية مركزية لتتبع ودراسة قضايا الفساد، أسندت إليها مهمة تهييء قاعدة بيانات مركزية، عبر جمع الأحكام الصادرة في قضايا الفساد وتحليلها واستخلاص قواعد الاجتهاد القضائي منها، مع جمع الإحصائيات والمعلومات التي تمكن من دراسة وتحليل هذا النوع من الإجرام والوقوف على الظروف التي يرتكب فيها والأساليب الخاصة التي تتبع فيه، كأرضية تسمح بتطوير الآليات القانونية والقضائية وأساليب البحث والتحري لمكافحة جرائم الفساد المالي والإداري، كما أن الوزارة شكلت لجنة من أجل دراسة تقارير المجلس الأعلى للحسابات وأحالت بدورها ملفات على النيابة العامة، إلى جانب ما توصلت به من لدن مجلس جطو، خلال سنة 2014، حيث بلغ عدد الملفات 24 ملفا في الوقت الذي لم يتعد ملفا واحدا سنة 2013، في حين بلغ عدد الملفات المتوصل بها من طرف الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة 37 ملفا سنة 2014. ورغم أن الحكومة رفعت شعارات منذ انطلاقها حول محاربة الفساد، فإنها لم تستطع تحقيق جل مبادراتها على أرض الواقع، وذلك بسبب «غياب المقاربة التشاركية في إعداد البرامج ما بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني، واتسام أغلب الإجراءات بالطابع العام وعدم استهداف مَواطن الفساد وعدم التركيز على القطاعات الأكثر عرضة للفساد»، إضافة إلى «عدم تحديد البرامج من منطلق رؤية استراتيجية وطنية مندمجة بأهداف واضحة قابلة للقياس، وضعف تدبير الالتقائية بين البرامج، وغياب هيئة للإشراف على تدبير وتنزيل وتقييم البرامج المتخذة، مما نتج عنه ضبابية في تحديد المسؤوليات والآجال وعدم رصد الإمكانات المالية والبشرية اللازمة»، وفق ما أعلن عنه محمد مبديع، الوزير المكلف بالوظيفة العمومية وتحديث الإدارة، خلال جلسة الأسئلة الشفوية يوم الثلاثاء الماضي. ورغم الانتقادات التي وجهت لهذه الإستراتيجية من قبل بعض فرق أحزاب المعارضة بالغرفة الأولى، والذين اتهموا الحكومة ب«الاستخفاف بذكاء المغاربة»، حينما جاءت بهذه الإستراتيجية على بعد شهور من انتهاء ولايتها، في محاولة منها للتغطية على عجزها في مجال محاربة الفساد، الذي بنت من خلاله برنامجها الانتخابي، فإن هناك من رحب بها واعتبرها خطوة جريئة، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل سيتم تنفيذ هذه الاستراتيجية على أرض الواقع، وسيكون لها الأثر على محاربة الفساد الذي كان شعارا لهذه الحكومة، أم أن الأمر سيظل كما كان حيث يتم تصنيف المغرب في مراتب متأخرة بخصوص انتشار الفساد، حيث احتل المرتبة 80 عالمياً و 12 عربيا حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية. الشرقاوي: لا توجد ضمانات قانونية تلزم الحكومات القادمة بتبني تصور الحكومة الحالية راهنت حكومة عبد الإله بنكيران، منذ تنصيبها في 3 يناير 2012 ، على محاربة جميع أشكال الفساد٬ بتعزيز المكتسبات ذات الصلة بمحاربتها، وإصلاحات وإجراءات توجتها قبل انتهاء ولايتها بأشهر معدودات بصياغة إستراتجية وطنية لمحاربته تمتد إلى عشر سنوات (2015 2025)، بكلفة مالية تصل إلى ملياري درهم ستصرف على 239 مشروعا. وبدا لافتا أن الحكومة الحالية بزعامة حزب بنى حملته الانتخابية لإقناع الناخبين على شعار «صوتك فرصتك لمحاربة الفساد والاستبداد»، حاولت في بدايتها تنزيل ذلك الشعار على أرض الواقع، وإعطاء إشارات سياسية لمن يهمه الأمر، من خلال نشر لوائح المستفيدين من الريع، وما استتبعها من إجراءات أخرى. غير أن الوقائع كشفت أن ذلك الشعار بعيد التحقق على أرض الواقع المغربي، بدليل تراجع ترتيب البلد في البارومتر العالمي لمحاربة الفساد والرشوة. ومع توالي الأيام، اعتبرت تصريحات لرئيس الحكومة من قبيل «عفا الله عما سلف» و»لست أنا من يحارب الفساد، بل الفساد هو الذي يحاربني»، علامات دالة على إخفاق حكومة بنكيران في حربها ضد الفساد، أو على الأقل تطبيعا معه، ومؤشرا على غياب الإرادة السياسية لمحاربته. وفي الوقت الذي يعتبر المختصون أن التصدي لظاهرة الفساد يقتضي وضع إستراتيجية واضحة المعالم، وهو ما وفقت فيه الحكومة قبل نهاية ولايتها بأشهر، ترى منظمة «ترانسبرنسي المغرب» أن تفعيل تلك الإستراتيجية سيكون المحك الحقيقي لإرادة الدولة في محاربة الفساد، وأن سياق تبنيها وتفعيلها يبقى مشوبا بعائقين يتمثلان في القانونين المتعلقين بإحداث الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والحق في الحصول على المعلومات. وإذا كانت المنظمة قد لامست بعض عوائق إستراتيجية الحكومة، مطالبة إياها بإعادة النظر في القانون المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات الذي ينظر فيه حاليا مجلس النواب، فإن انتقادات شديدة وجهت من قبل فرق المعارضة بمجلس النواب، خلال جلسة الأسئلة الشفوية الثلاثاء الفائت، وصلت إلى حد التشكيك في مصداقيتها، معتبرين أن الحكومة عجزت عن محاربة الفساد طيلة أربع سنوات وتحاول استغلال شعار محاربة الفساد مرة أخرى مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية القادمة، في محاولة منها ل»الاستخفاف بذكاء المواطنين واستبلاد المغاربة»، على حد قول ميلودة حازب، رئيسة الفريق النيابي لحزب الأصالة والمعاصرة. ولئن كان حديث الحكومة عن محاربة الفساد في هذا الوقت، بحسب المعارضة، هو مجرد مزايدات سياسية قبيل موعد الانتخابات التشريعية المقبلة، فإن الباحث في العلوم السياسية، عمر الشرقاوي، يرى أن المبادرة التي أعلنتها الحكومة حول خطتها لمكافحة الفساد جاءت متأخرة جدا، إذ كان يفترض أن ترى النور خلال سنة 2014 لكنها تأخرت سنتين بسبب الملاحظات السلبية لرئيس الحكومة على محتوياتها التي جاءت عامة ودون تدابير فعالة لتنزيل مقتضياتها. وبحسب الشرقاوي، فإن التأخر في الإعلان عن الخطة أربك كثيرا أجندتها، إذ أدمجت الخطة تدابير حكومية تم اتخاذها منذ 2014 و2015 حيث شرعت بعض القطاعات في تنزيل بعض المشاريع المبرمجة في المرحلة الأولى من هذه الإستراتيجية، من بينها إعادة تنظيم وتحديد اختصاصات اللجنة الوطنية للطلبيات العمومية، والرقم الأخضر للتبليغ عن الرشوة، ووضع كاميرات للمراقبة للدرك الملكي، وأخذ المواعيد وتقديم الشكايات بقطاع الصحة، وأخذ المواعيد لاجتياز امتحان السياقة، والمراقبة بالكاميرا لمراكز الامتحانات، ووضع نظام معلوماتي لإدارة مصالح الشرطة كتجربة نموذجية. وإذا كانت الإستراتيجية تنبني من حيث مسارها على رؤية تروم الحد من الفساد بشكل ملموس في أفق 2025 ، فإن ذلك يعني، وفق الباحث في العلوم السياسية، استمرار رقعة الفساد خلال العشر سنوات المقبلة، وانخراط حكومتين قادمتين في تلك الالتزامات دون وجود ضمانات قانونية تلزمهما بتبني تصور حكومة بنكيران. ويرى الشرقاوي في حديثه ل»المساء» أن الخطة تبقى ذات منحى سياسي وتشكل أحد عناصر البرنامج الحكومي الذي صوت عليه البرلمان في 26 يناير 2013 ولذلك لا يمكن إجبار الحكومات القادمة على تبني وصفة حكومة سابقة. وإلى جانب الملاحظات التي يبديها المحلل السياسي، تثير كلفة الإستراتيجية الممتدة على مدى عشر سنوات المقبلة بتكلفة مالية تقدر ب180 مليار سنتيم ، موزعة على ثلاث مراحل، بمعدل 18 مليار سنتيم سنويا، أسئلة حول مدى إلزام الحكومات القادمة بها، مشيرا إلى أن الخطة لم تحدد الصيغة القانونية للتمويل: هل سيكون على شكل حساب خصوصي أم ميزانية موزعة على القطاعات الحكومية؟ وعلى الرغم من أن إستراتيجية الحكومة مبنية على إجراءات جوهرية، من قبيل تبسيط المساطر الإدارية، والحد من الوسطاء، وتقوية المراقبة الإدارية والقضائية، والاستعانة بالكاميرات والتكنولوجيا الرقمية، وتنظيم حملات لتحسيس المواطنين بالابتعاد عن تقديم الرشوة، وإدماج ثقافة محاربة الفساد في المنظومة التعليمية، فإن الأجندة التشريعية التي وضعتها الحكومة لمواجهة الفساد والتي تضم 239 مشروعا، على مدى عشر سنوات موزعة على 17 قطاعا، تبقى، برأي الشرقاوي، غامضة إذ لم تقدم لنا مجالات التشريع والتنظيم التي تحتاج إلى إعادة النظر في ترسانتها القانونية. وتبقى أهم الملاحظات المسجلة على إستراتيجية، بحسب المتحدث ذاته، غياب المؤسسات الدستورية عن التمثيل في لجنة القيادة التي يرأسها رئيس الحكومة لتنزيل الخطة، إذ بالرغم من أن الإستراتيجية اقترحت إحداث لجنة الإشراف تضم ممثلين عن عدة قطاعات وزارية فضلا عن المجتمع المدني من خلال جمعية برلمانيين مغاربة ضد الفساد، وجمعية ترانسبرانسي المغرب وكذا القطاع الخاص ممثلا في الكونفدرالية العامة لمقاولات المغرب إضافة للهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، إلا أن تلك اللجنة تبقى ناقصة دون حضور مؤسسات تعتبر محاربة الفساد من صميم أدوارها مثل المجلس الأعلى للحسابات ومؤسسة الوسيط والهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة. الفساد ينخر الاقتصاد المغربي ويكلف 2 في المائة من الناتج الداخلي الخام المعارضة انتقدت تقديم الحكومة استراتيجية محاربة الفساد في نهاية ولايتها انتقادات شديدة اللهجة وجهت إلى حكومة عبد الإله بنكيران، بعدما جاءت بالاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد على بعد أشهر من نهاية ولايتها، وهو ما اعتبرته أطراف في المعارضة محاولة للتغطية على ما تسميه ب«الفشل» في إيجاد آليات ناجعة لمواجهة الفساد الذي ينخر البلد. المعطيات الرسمية تشير إلى أن كلفة الفساد تبقى باهظة، وتتجاوز 2 في المائة من الناتج الوطني الإجمالي. رقم ضخم يكلف ميزانية البلد خسائر فادحة، ويضرب بشكل مباشر تنافسية الاقتصاد الوطني، خاصة عندما يتعلق الأمر بالاختلالات التي تعرفها الصفقات العمومية وهو ما يؤثر على تصنيف المغرب في عدد من المؤشرات الدولية. ميلودة حازب، رئيسة فريق الأصالة والمعاصرة في مجلس النواب، اعتبرت في جلسة الأسئلة الشفهية الأسبوع الماضي، أن حديث الحكومة عن محاربة الفساد هو محاولة منها للتغطية على عجزها في التعاطي مع هذا الملف واستخفاف بذكاء المغاربة، خاصة وأن الحديث عن هذا الموضوع يأتي قبل بضعة أشهر من نهاية الولاية الحكومية الحالية. وترى حازب أنه «كان يجدر بالحكومة أن تقدم حصيلتها في ورش محاربة الفساد، إلا أنها لازالت، وللأسف، تتحدث عن استراتيجيتها في التعاطي مع هذا الملف». وذهبت المتحدثة ذاتها إلى التأكيد على أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في هذا الإطار لا تعدو أن تكون إجراءات متناثرة لم يكن لها أي أثر ملموس على محاربة هذه الظاهرة، مشيرة إلى أن القانون المتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة جاء بمنظور لا يتماشى والغرض المقصود منه في علاقة مع توسيع الاختصاصات ومع تمكين هذه الهيئة من مختلف الوسائل المادية والبشرية التي تخولها تحقيق أهدافها. لكن الحكومة تدافع من جانبها عن حصيلة عملها في مجال محاربة الفساد. حصيلة تشمل تغييرات على مستوى القوانين، منها ما يتعلق بمرسوم الصفقات العمومية، وأيضا من حيث المقاربة الزجرية في التعاطي مع الملفات التي تتم إحالتها من طرف المجلس الأعلى للحسابات على وزارة العدل والحريات. الوزارة تؤكد أنها قامت بإحداث خلية مركزية لتتبع ودراسة قضايا الفساد. وتم في هذا السياق، وعلى ضوء تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2010 إحالة 9 ملفات على النيابة العامة، إلى جانب ملف واحد توصلت به من وزارة الاتصال. وفي سنة 2014، تمت إحالة 21 ملفا بناء على الدراسة التي قامت بها لجنة على ضوء تقرير مجلس جطو، ليكون عدد الملفات المحالة على النيابة العامة بين 2001 و2015 بلغ 83 ملفا. وفي مجال حماية المبلغين عن قضايا الفساد، تشير حصيلة وزارة العدل والحريات في هذا المجال إلى أنه تم اتخاذ عدة تدابير على مستوى ست حالات. ويتعلق الأمر بثلاثة تدابير لإخفاء الهوية وتدبيرين للحماية الجسدية وتدبير واحد يتعلق بوضع رقم هاتفي رهن إشارة المبلغ. كما بادرت الوزارة إلى عقد اجتماعات مع مصالح الأمن والدرك لتجاوز الصعوبات التي يطرحها التطبيق العملي لهذه التدابير. وأطلقت وزارة العدل خلال سنة 2015 الرقم الأخضر للتبليغ عن الرشوة. حيث تسهر خلية مركزية مكونة من قضاة وموظفين على تلقي تبليغات المواطنين. فبمجرد الاتصال بالرقم، يتم تحويل المكالمة إلى الخلية فيعمل القضاة المكلفون بتلقي التبليغات على تسجيل كافة المعلومات حول هوية المبلغ عنهم موضوع الرشوة ومكان وزمان تسليمها، ليتم بعد ذلك ربط الاتصال بممثل النيابة العامة المختصة لاتخاذ التدابير اللازمة من أجل ضبط الجناة في حالة تلبس. الخط الذي انطلق في يونيو 2015 يستقبل يوميا حوالي 6000 مكالمة. تدافع الحكومة، أيضا، عن حصيلتها من خلال بعض الإجراءات التي اتخذتها منذ توليها تدبير الشأن العام، منها فتح مجال المباريات أمام كل المواطنين وإطلاق الموقع إلكتروني خاص بالتوظيف العمومي، والعمل على محاربة اقتصاد الريع عبر نشر لوائح المستفيدين من مأذونيات النقل ومقالع الرمال مع وقف منح الرخص، على أساس أن يتم ذلك في إطار من التعاقد، مع العمل على تبسيط المساطر الإدارية، خاصة تلك التي لها علاقة بالاستثمار والمقاولة كالأداء الضريبي وخلق المقاولة ونقل الملكية والربط بشبكة الماء والكهرباء، والبناء والعقار. بيد أن هذه الإجراءات، وإن كان لها وقع نسبي في الحد من بعض الممارسات المنافية لقواعد المنافسة وتكافؤ الفرص، إلا أنها لم تصل إلى تحقيق المبتغى في الحد بشكل ملموس من هذه الآفة التي تنخر الاقتصاد المغربي وتعيق المسلسل التنموي، وتسيء لصورة البلد وتصنيفه في العديد من المؤشرات الدولية. فهل ستنجح الاستراتيجية الوطنية في وقف نزيف الفساد في البلاد؟ المسكاوي: الحكومة تسعى إلى تمويه المغاربة عن فساد الكبار وتوفير الغطاء للقطط السمينة أكد أن الحكومة سبق لها أن وضعت استراتيجية لمحاربة الفساد دون أن تقوم بتفعيلها يبدو أن التبريرات التي ساقتها الحكومة للرد على الانتقادات، التي أعقبت الإعلان عن استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد في الوقت الميت من ولايتها، لم تقنع الكثير من الفعاليات وجمعيات المجتمع المدني، إلى جانب المعارضة. وفي هذا السياق أكد محمد المسكاوي، رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام، أن هذه الخطوة جاءت قبل صافرة النهاية، وأن حصيلة الحكومة في محاربة الفساد تساوي البياض، بعد أن فضلت مجاراة دوائر القرار ونيل الرضى وخلق نوع من الثقة الحذرة، وبالتالي استهلكت كل الأسلحة التي كانت بحوزتها لمحاربة الفساد. – قبل أشهر قليلة عن موعد الانتخابات التشريعية أطلقت الحكومة ما قالت إنها استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد،علما أن هذا الأمر كان في قلب الالتزامات التي وضعتها على عاتقها أمام الرأي العام. هل الأمر محاولة لتغطية العجز من خلال إعادة النقاش بخصوص الفساد إلى نقطة الصفر؟ لا بد من إعادة التذكير بأن الحكومة الحالية جاءت عقب الحراك المغربي سنة 2011، الذي كان شعاره المركزي إسقاط الفساد كعنوان حقيقي ومدخل للإصلاح الشامل لجميع مفاصل الدولة التي تحكم فيها الفساد بكل أشكاله، وهو ما يعني أنه تم تعاقد ضمني بين الناخبين والحكومة على محاربة الفساد الاقتصادي بكل تمظهراته. هاته المحاربة كان يجب أن تنطلق منذ السنة الأولى لعمل الحكومة عبر قناتين رئيسيتين: الأولى تتمثل في تحريك الملفات الراكدة بالمحاكم والتفاعل مع تقارير المجلس الأعلى للحسابات على قاعدة المحاكمة العادلة، وعدم الإفلات من العقاب. والثانية وضع ترسانة قانونية متكاملة تستمد جوهرها من الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب سنة 2007. لكن، مع الأسف، انخرطت الحكومة في التدبير اليومي للشأن العام دون الدفع في اتجاه تحقيق مطالب المواطنين. وبالتالي، فإن الاستراتيجية الحالية 2015/2025 جاءت في وقت متأخر، أو بلغة الرياضيين، جاءت قبيل صافرة نهاية المباراة بنتيجة البياض في محاربة الفساد. – الحديث عن هذه الاستراتيجية ألا يطرح سؤال الجدوى من قبل الهيئات الرقابية الحالية، التي تستنزف المليارات من أموال المغاربة دون نتائج ملموسة؟ الهيئات الرقابية، سواء الإدارية أو القضائية أو البرلمانية، يبقى دورها مهما ومؤسساتيا في الرقابة على أوجه صرف المال العام في إطار دولة المؤسسات. أما الاستراتيجيات فيبقى لها دورها الموجه والمحدد لعمل كل تلك الهيئات، كل واحدة حسب اختصاصها، في إطار سياسة التقائية ومندمجة. وبالتالي، ليس هناك أي تعارض بينهما. لكن الاستراتيجية تتطلب في المفاهيم الدولية الحقيقية وجود إرادة حقيقية لمحاربة الفساد، وحتى المؤسسات الرقابية ببلادنا مازالت تحتاج إلى الإصلاح القانوني العميق لتتمكن من أداء أدوارها. فإذا تمعنا في تجربة المجلس الأعلى للحسابات، بصفته مؤسسة شبه قضائية، فإن تقاريره في ظل عدم تحريك المتابعات ذات الطابع الجنائي تتحول إلى مجرد أرشيف وتقارير للاستئناس، بل إن التمعن في تقاريره الأخيرة قد يحوله إلى مؤسسة لتقييم السياسات العمومية. ونفس الأمر ينطبق على المفتشية العامة للمالية، التي تراجع دورها بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة، وتأطيرها القانوني أصبح متجاوزا. -الحكومة ردت على انتقادات المعارضة لهذه الاستراتيجية بأن محاربة الفساد ثقافة يجب أن تسري على الجميع، بمن فيهم الفاعلون السياسيون. ألا ترى أن هذا الخطاب إقرار صريح بأن الحكومة استسلمت للفساد، ورمت الكرة في ملعب الآخرين؟ محاربة الفساد لا يعني الحكومة وحدها، وإنما جميع المؤسسات والمجتمع والإعلام. لكن يبقى دورها مركزيا بحكم سلطاتها التنفيذية وإشراف قطاعاتها الوزارية على صرف الميزانية العامة للدولة. وكما قلت، فالمكافحة تتطلب الإرادة والقضاء المستقل والنزيه والبرلمان القوي الذي يشتغل بمنطق المسؤولية وليس بمنطق التوافقات من خلال لجان تقصي الحقائق ومجتمع مدني فاعل وإعلام مختص. كل هاته مكونات رئيسية للدفع بعملية الإصلاح وما يتطلب ذلك من تضحيات واستثمارات في الموارد البشرية. وبخصوص استسلام الحكومة للفساد، فهذا بات مؤكدا من خلال الواقع، والسبب أنها لم تستغل الدعم الشعبي بعد الانتخابات النيابية للدخول في الإصلاحات الحقيقية وفضلت مجاراة دوائر القرار ونيل الرضى وخلق نوع من الثقة الحذرة، وبالتالي استهلكت كل الأسلحة التي كانت بحوزتها لمحاربة الفساد. – البعض رأى في تحالف الحكومة مع بعض من كانت تصفهم برموز الفساد نوعا من التطبيع مع هذا الفساد. مباشرة بعد التعديل الحكومي على إثر خروج حزب الاستقلال إلى المعارضة، وبعد الاطلاع على لائحة الوزراء الجدد أصدرنا بيانا في الشبكة اعتبرنا فيه أن المسؤولية الأخلاقية والسياسية كانت تقتضي إبعاد بعض الأسماء إلى أن يبت القضاء في الدعاوى المقدمة ضدهم، فهناك وزير له ملف يعرف بالعلاوات، ووزير يمتلك شركة للتأمين لا زالت بذمته مبالغ مالية للدولة، ووزير مازال يتذكره الرأي العام بصفقة الحواسيب المدرسية خلال التسعينيات.والجدل الذي رافق التعديل الحكومي أنهاه رئيس الحكومة من خلال مقولته الشهيرة: عفا الله عما سلف. هاته الجملة الصغيرة تحمل عدة عناوين، أهمها أن لا نية للدخول في معركة الفساد، والاكتفاء فقط بالإصلاحات التي يؤدي تكلفة بعضها المواطن، ليأتي عنوان آخر هو إقرار العفو عن الذين هرّبوا الأموال خارج المغرب، وفي المحصلة النهائية، على الصعيد الدولي، لا يزال المغرب يحتل المراتب المتدنية في الحكامة، ولا يزال الريع والنهب مستمرين بمؤسسات الدولة مع اختلاف المستويات. -رئيس الحكومة ظل على الدوام يوظف مصطلحات العفاريت والتماسيح، ومؤخرا أضاف القرود والكلاب إلى قاموسه دون أن يكشف عن أي اسم أو يقوم بإحالة أي ملف على العدالة عن طريق وزير العدل. كيف تفسر ذلك؟ شخصيا، لا تهمني المصطلحات والنوايا، فما يهمنا، كمجتمع مدني ومواطنين، هي إجراءات ملموسة في اتجاه محاربة الفساد التي ستنعكس إيجابا على الاقتصاد الوطني وتكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروة، ورئيس الحكومة لديه من الصلاحيات الدستورية والقانونية ما يمكنه من ممارسة اختصاصاته في هذا المجال، وعدم تحريك الملفات والمتابعات له دلالة واحدة، هي غياب الإرادة الحقيقية لمحاربة الفساد وانهزام الحكومة أمامه، وإذا نظرنا إلى ملفين مهمين معروضين أمام القضاء الآن، سنرى بأنهما أحيلا عليه نتيجة تعليمات ملكية بعد شكاية لمواطنين، فهل كل مشتك سيستطيع الوصول إلى الملك؟ وما جدوى أجهزة الدولة إذا لم تقم بواجباتها القانونية والدستورية؟ – وزير الوظيفة العمومية قال إن هذه الاستراتيجية نابعة من مشروع مجتمعي، وتهدف إلى تقليص الفساد والقضاء على التطبيع معه. السؤال هو: ماذا كانت تفعل الحكومة طيلة السنوات الماضية؟ أولا، يجب التذكير بأن الاستراتيجية المعلن عنها لم يتم نشرها بعد بشكل رسمي، وبالتالي لا يمكن تقييمها بشكل دقيق. لكن من خلال العناوين التي قدمها الوزير المكلف بتحديث القطاعات العمومية نلاحظ بأنها استراتيجية تقنية تلامس بعض القطاعات، وبشكل أدق ستعالج هاته الاستراتيجية الاكتظاظ الموجود ببعض المرافق العمومية، حيث إن تأخر البعض في قضاء أغراضه الإدارية يدفعه إلى إعطاء رشوة صغيرة للموظف. من الناحية التقنية يعتبر ذلك إجراء جيدا، لكنه في الحقيقة تمويه للمغاربة من خلال محاولة إقناعهم بأن مشكلتنا هي في الرشوة البسيطة عوض أن نضع خططا لمحاربة القطط السمينة، التي تستحوذ على ثروات البلاد بدون حسيب ورقيب، وكذا المحظوظين الذين يتحولون بفعل التدخلات إلى رجال أعمال يتنقلون بطائرات خاصة. وبخصوص تصريح الوزير مبديع حول المشروع المجتمعي لمحاربة الرشوة، فهذا هو المطلوب، لكن لم يتم التعامل على قاعدته، ولا ننسى أن الحكومة الحالية قدمت استراتيجية سابقة 2010/2012 دون أن تفعلها أو تضع تقييما لها، ولا أدري كيف يكون مشروعا مجتمعيا واللجنة التي وضعته لم تضم المجتمع المدني الفاعل وتم تغييب الجامعة المغربية والفاعلين السياسيين. – الاستراتيجية تتضمن الانتقال من التنديد بالفساد إلى التبليغ عنه. ألا ترى في ذلك تبخيسا للدور الذي تقوم به جمعيات حماية المال العام، التي تقدمت بعشرات الشكايات بخصوص مصير مئات المليارات من أموال المغاربة دون أن يتم التفاعل معها؟ من المنطقي والمنصف أن نتذكر هنا الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، التي صادق البرلمان على صيغتها الجديدة، إعمالا لمقتضيات دستور 2011، لنؤكد أنها بدورها تمت التضحية بها من خلال التأخير القانوني، وعدم إخراجها إلى حيز الوجود إلى الآن. ومن جهة أخرى، فالقانون الجديد المنظم لها كان عليه أن يجعلها القائد والمشرف والمنسق لجميع المؤسسات والاستراتيجيات الخاصة بمحاربة الفساد والرشوة على غرار باقي الدول التي تتوفر على مؤسسات شبيهة، وهي التي يجب أن تعد الاستراتيجيات بتنسيق مع كافة المؤسسات، لكن مع الأسف عدلنا قانونها وحافظنا على طابعها الاستشاري وغير الإلزامي. وبخصوص سؤالك، أجدد التأكيد على أن الدولة لها من الإمكانيات البشرية والمالية والأمنية ما يمكنها من معرفة مكامن الفساد وأصحابه، والحكومة لا يجب أن تلعب أدوار المجتمع المدني، بل يجب عليها التفاعل مع مقترحاته وإدماجها ضمن سياستها العمومية والتجاوب مع شكاياته.