أهم ما ميز دستور الجمهورية الجزائرية لنسخة 2016، أو النسخة الثالثة من دساتير الرئيس بوتفليقة، هو إغلاقه للعهد الرئاسية ولتمديداتها الدستورية، بالعودة إلى عهدتين رئاسيتين لا غير، غير قابلتين للتجديد! كما كان الحال في دستور 1996 أو دستور الرئيس ليامين زروال، الذي ظلمه التاريخ السياسي الجزائري المعاصر، لأن كل الظروف والمعطيات كانت تعاكسه. بداية من مؤامرات محيط الجنرالات وصولا إلى تعنت الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ومع ذلك سيكتب التاريخ السياسي أنه الرئيس الوحيد الذي لم يكمل عهدته الرئاسية، داعيا إلى انتخابات رئاسية مبكرة، والوحيد الذي حرص على أن لا تتعدى ولاية أي ساكن لقصر المرادية ولايتين رئاسيتين اثنتين. وفي الوقت نفسه سيشهد التاريخ أيضا أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة هو الرئيس الوحيد الذي مطط الدستور كما شاء ! بحيث مدده من ولايتين رئاسيتين إلى ولايات مفتوحة غير محددة! وأنه عندما اشتد عليه المرض وأضحى عاجزا عن إتمام مهمته الرئاسية، وأيقن بدنو موعد مغادرته لقصر المرادية، عاد للدستور نفسه الذي مدده تمديدا، ولكن هذه المرة لِيُغْلقه بل ليُغَلِّقه بتشديد اللام إلى ولايتين اثنتين. وبذلك تحقق في عهده ما لم يتحقق في أسلافه من رؤساء الجمهورية الجزائرية الشعبية العظمى كيف تمت العملية الجراحية الدستورية؟ في الدستور السابق ل 1996 كانت المادة 74 تنص على أن "مدة المهمة الرئاسية خمس سنوات، ويمكن تجديد انتخاب رئيس الجمهورية مرة واحدة."وفعلا، امتثل الرئيس حينئذ، الجنرال ليمين زروال، لنص مواد الدستور، بل يمكن القول بأنه الرئيس الجزائري الوحيد الذي قبل مغرم السلطة لأنها كانت مغرما بمعنى الكلمة، حيث كانت كل الظروف الأمنية والسياسية والاقتصادية ضده، ومع ذلك أظهر تعففا كبيرا في ممارسة السلطة بل وتقشفا شخصيا منقطع النظير! فهو الرئيس الوحيد الذي زهد في خزينة الدولة، ولم تظهر عليه ولا على أولاده آثار النعم والمنصب. فحتى أبناؤه قاسموا أبناء الشعب مقاعد الدراسة في المدارس العمومية. وعندما استقال في أبريل 1999 عاد إلى موطنه ومنزله بباتنة كأيها الناس ما أكسبه حب واحترام الشعب ! ومن الواضح أن عبد العزيز بوتفليقة كان في مستوى ما وصف به في كونه داهية سياسية، فهو في أول ولايته لم يمس الدستور الجزائري باستثناء تعديل طفيف أكثر منه تصحيح مسار. عندما اعتبر الأمازيغية لغة وطنية، وذلك لوضع حد لما عرف حينها بمظاهرات العروش، وهي المظاهرات الصاخبة التي عمت العاصمة ومنطقة القبائل تحديدا. ولذلك لجأ لدسترة الأمازيغية بغية قطع الطريق على التيار الأمازيغي المعارض والمشاكس، لاسيما أن لعامل الانتماء الجهوي دورا كبيرا في صياغة القرار السياسي الجزائري، فالمؤسسة العسكرية والشخصيات السياسية النافذة بما فيها الإسلامية، عدد كبير منها ينحدر من الجهات الناطقة بالأمازيغية، الشاوية ثم القبائل. عكس مؤسسة الرئاسة التي كانت على الدوام تحسب على العنصر العربي، بل على منطقة الغرب الجزائريتلمسان، كما هو الشأن بالرئيس الحالي، وقبله الرئيس الأسبق، أحمد بن بلة ابن مدينة مغنية الحدودية. بل حتى الرئيس الشاذلي بن جديد وسلفه الهواري بومدين قضيا في الغرب الجزائري أكثر مما قضوه في منابتهم الأصلية بالشرق. ولقد كان تعديل 2002 محدودا جدا، همّ فقط اللغة الأمازيغية بحيث صدر على شكل قانون رقم 02-03 مؤرخ ب 27 محرم 1423/الموافق 10 أبريل سنة 2002، وتضمن تعديل الدستور. المادة 3 مكرر: تمازيغت هي كذلك لغة وطنية. تعمل الدولة لترقيتها وتطويرها بكل تنوعاتها اللسانية عبر التراب الوطني. وانتهت العهدة الثانية في ربيع 2004، ولم يتحقق كثير مما وعد به الرئيس، اللهم قانون الوئام الوطني ثم لاحقا "قانون المصالحة"، الذي أريد له طي صفحة أحداث العشرية من دون محاسبة ولا مساءلة للمؤسسة العسكرية الأمنية، التي وجهت إليها أصابع الاتهام. أكثر من ذلك، لم يعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة محل إجماع داخل مؤسسة الجنرالات! بحيث انقسم أصحاب البزات البنية والخضراء إلى معسكر مؤيد وآخر معارض. تقدم المعارضين الجنرال العربي بلخير والجنرال محمد العماري، بينما أعلن الجنرال محمد مدين الملقب بتوفيق الحياد، وهو ما يعني في لغة الحروب الانتخابية، بالحياد السلبي الداعم للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي جدد ولايته الثانية بعد مخاض عسير خاضه ضد وزيره الأول، وقبلها كاتب ديوانه ورئيس حزب جبهة التحرير الوطني علي بنفليس، المدعوم من طرف الجنرالات المناوئين والمنقلبين على بوتفليقة. وبذلك تخلص الرئيس المجدد لولايته الثانية من نصف ترسانة كبار الجنرالات المعارضين له، فنفى الجنرال العربي بلخير إلى المغرب سفيرا، إلى أن وافته المنية. بينما أحيل الجنرال محمد العماري على التقاعد. ثم انتهت العهدة الثانية، ودخل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مرحلة الحرج الدستوري، لأن دستور ليمين زروال لا يسمح إلا بولايتين رئاسيين ! وقبل انتهاء العهدة الثانية قام الرئيس ومحيطه بعدما خلا لهم الجو غداة التخلص من كبار المعارضين، سواء من صنف الجنرالات أو من صنف السياسيين بإطلاق حملة تطبيل كبيرة مفادها بأن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لم يسعفه الوقت لإكمال برنامجه السياسي في المصالحة الشاملة، وإعادة الجزائر إلى السكة. وبأنه يحتاج إلى ولاية جديدة من أجل إكمال ما بدأه ! والولاية الجديدة تمر حتما عبر عملية جراحية دستورية للمادة 74 المكبلة للرئيس. وفعلا كللت العملية الجراحية بنجاح، خاصة وأنها لم تمر عبر استفتاء شعبي، حيث تكلف البرلمان الجزائري بالمهمة من دون خسائر ولا أضرار. ومرر التعديل الذي لم يحدد عدد العهد بحيث جعلها مفتوحة! ما يعني الانتقال من الولاية المحددة إلى الولاية المفتوحة وربما المؤبدة، مع بعض التعديلات الأخرى المصاحبة، والتي أريد لها ذر الرماد ليس إلا. والمزيد من الصلاحيات لمؤسسة الرئاسة على حساب رئاسة الحكومة تفاديا لتجربة محاولة الانقلاب السياسي الناعم لعام 2004، التي قادها رئيس الحكومة حينها علي بن فليس . فاستبدل منصب "رئيس الحكومة " بمنصب "الوزير الأوّل"، وكبلت المادة 79 الوزير الأول نفسه، والذي أضحى مجرد منصب تنفيذي وموظف يسهر على تنفيذ تعليمات فخامة السيد رئيس الجمهورية، حيث نصت على : " يعيّن رئيس الجمهورية أعضاء الحكومة بعد استشارة الوزير الأول. وينفّذ الوزير الأول برنامج رئيس الجمهورية وينسق من أجل ذلك عمل الحكومة. ويضبط الوزير الأول مخطط عمله لتنفيذه ويعرضه في مجلس الوزراء." وبذلك بات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة فوق مؤسسة الجيش والمعارضة بل وحتى الدستور نفسه ! العودة إلى عهدتين من أجل مرحلة ما بعد بوتفليقة عندما أعلن في التعديلات الدستورية الجديدة عن العودة إلى ولايتين دستوريتين لا غير، كما كان الشأن في دستور ليامين زروال ل1996 قامت الطائفة نفسها التي قادت الحملة الدعائية للرئيس بوتفليقة عام 2008 من أجل التمديد لولايات أخرى، لتبرر التحول الجديد بكون الرئيس بوتفليقة حالة استثنائية ! وبأنه كان لا بد من التمديد! بل اعتبر البعض أن ما قام به الرئيس عام 2008 أي في التعديل الدستوري وما تلاه من عهدتين جديدتين عام 2009 و2014 كان بمثابة تضحية منه! ومن الواضح أن الرئيس بوتفليقة لا يريد مغادرة مقر المرادية إلا وبصماته بادية على مستقبل من سيرث منصبه. بحيث أنه لن يتمكن خلفه كما تمكن هو من اللعب في عدد الولايات الرئاسية، بحيث جعل من عدم المساس بالمادة 74 إحدى المقومات، إذ نصت المادة 178 بأنه لا يمكن أن يطال أي تعديل دستوري في المستقبل المساس ب: 1_ الطابع الجمهوري للدولة. 2_ النظام الديمقراطي القائم على التعددية الحزبية.3_ الإسلام باعتباره دين الدولة. 4_ العربية باعتبارها اللغة الوطنية والرسمية.5_ الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والمواطن.6_ سلامة التراب الوطني ووحدته.7_ العلم الوطني والنشيد الوطني باعتبارهما من رموز الثورة والجمهورية. وأخيرا وهو الجديد في دستور 2016 إعادة انتخاب رئيس الجمهورية مرة واحدة فقط. وبذلك لن يتأتى لأي خلف للرئيس عبد العزيز بوتفليقة أن يمدد له مهما كانت الظروف! وطبعا يبقى باب الاستثناء أو الاستثناءات واردا. مثل الرئيس بوتفليقة الذي ولج بوابة المرادية في ربيع 1999 كمجرد مترشح فائز ليتحول فيما بعد إلى الرئيس المنقذ، ثم إلى الرئيس الاستثنائي الذي صال وجال في دساتير الجزائر ! أو بتعبير أدق: فإنه لا يريد أن يخلد اسمه كرئيس فقط، بل يريد أن يرتقى إلى مقام عميد الرؤساء الجزائريين. فهو الرئيس الوحيد الذي راكم أربع ولايات رئاسية متتالية ! ولولا المرض لزاد خماسية وسداسية وربما سباعية…. دسترة الأمازيغية.. الاقتباس الخفي من التجربة المغربية لعل من أهم ما يلفت الانتباه في الوثيقة الدستورية ل2016، هو مسألة دسترة الأمازيغية، أو تمازيغت كما وردت في النص الدستوري. والحال أن مسار الدسترة قد بدأ بالتعديلات المضافة عام 2002 مرورا بدستور 2008 حيث أقرت الوثيقة الصادرة بكون اللغة الأمازيغية لغة وطنية أيضا. في حين أن تعديلات 2016 ارتقت بها إلى لغة وطنية ورسمية، وهو المعطى الجديد. مع إضافات جديدة على مستوى أجرأة وتفعيل الأمازيغية كلغة وطنية رسمية، حيث «تعمل الدولة لترقيتها وتطويرها بكل تنوعاتها اللسانية المستعملة عبر التراب الوطني». ما يعني ضمنيا محاولة سحب البساط من تحت أرجل التيار أو التيارات الأمازيغية التقليدية المنحدرة من منطقة القبائل، والتي تعد أكبر كتلة سكانية ناطقة بالأمازيغية بالجزائر، ومعها الكتلتان الأمازيغياين الكبيرتان المهادنتان نسبيا، الكتلة الشاوية بجبال الأوراس؛ والمزابية بالجنوب. ومن الواضح أن تفعيل دسترة الأمازيغية لا يمكنه أن يؤتي أكله إلا عبر الاعتراف بالتعدد الثقافي واللغوي على مستوى الجزائري، بما في داخل الفلك الأمازيغي نفسه. أما الجديد الثاني الذي حوته المادة 3مكرر، فهو «التأسيس لمجمع جزائري للغة الأمازيغية يوضع لدى رئيس الجمهورية ويستند المجمع إلى أشغال الخبراء، ويكلف بتوفير الشروط اللازمة لترقية تمازيغت قصد تجسيد وضعها كلغة رسمية فيما بعد.» والحال أن المشرع الدستوري الجزائري في تعامله مع «تمازيغت» استفاد، إن لم نقل اقتبس، كثيرا من التجربة المغربية في تعاطيها مع دسترة الأمازيغية، سواء على مستوى إلحاقها بأعلى هرم الدولة، وهي رئاسة الجمهورية،_ وفي الحالة المغربية «المعهد الملكي» إضفاء الصفة الملكية على المعهد_ ما يترجم بأنها ملف سيادي، ليس في المتناول حتى لا يتم التجاذب فيه بين باقي المكونات السياسية. ومن جهة أخرى، ورقة لحفظ التوازنات تعزز تكريس سلطة رئيس الجمهورية. وبذلك يمكن القول بأن مجمع جزائري للغة الأمازيغية، هو بمثابة النسخة المغربية للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. ولكن التفعيل يمر حتما عبر تكليف المجمع الجديد للأمازيغية بخبرائه من أجل توفير الشروط اللازمة لترقية تمازيغت، قصد تجسيد وضعها كلغة رسمية فيما بعد. أي أنها وعلى الرغم من التنصيص بكونها لغة رسمية وقبلها وطنية، إلا أن هذا يبقى فقط كخطوة أولى، بينما الخطوة الثانية وهي الرامية إلى تفعيل الدسترة مسألة أخرى وحديث آخر. بل وورقة سياسية إضافية لمن سيتولى كرسي المرادية لاحقا يشهرها ويتلاعب فيها كما يشاء! وعلى شاكلة غالبية مواد دستور 2016 فتحديد كيفية تنزيل المادة وتفعيلها وتطبيقها تمر عبر آلية متكررة رافقت معظم مواد الدستور الجديد وهي المعبر عنها بعبارة: بموجب قانون عضوي! وهو ما يرى البعض أنه نص محوري لا يقل أهمية عن المادة الدستورية نفسها، لأن القانون العضوي من شأنه أن يوجه المادة الدستورية ويفسرها حسب هواه، وحسب موازين ورياح السلطة ! وعلى الرغم من دسترة تمازيغت والاعتراف بها كلغة وطنية ورسمية للبلاد، فإن هذا لم يشف غليل المعارضة السياسية المحسوبة على التيار الأمازيغي، الذين يرون مجرد مقارنة ما أفرد للغة العربية من نصوص كفيل بالقول بسمو اللغة العربية مقارنة بتمازيغت وإن دُسترت. فالدستور يقر بأن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية. وإذا كان الدستور قد أقر إحداث مجمع جزائري للغة الأمازيغية، فإنه للغة العربية قد أوجب إحداث مجلس أعلى للغة العربية ! يعمل على ازدهار اللغة العربية وتعميم استعمالها في الميادين العلمية والتكنولوجية والتشجيع على الترجمة إليها لهذه الغاية. وهو ما يبين الفارق الكبير بين نظرة الدستور والمشرع الجزائري للمسألة اللغوية.» المادة 3 مكرر: تمازيغت هي كذلك لغة وطنية ورسمية تعمل الدولة لترقيتها وتطويرها بكل تنوعاتها اللسانية المستعملة عبر التراب الوطني. ويحدث مجمع جزائري للغة الأمازيغية يوضع لدى رئيس الجمهورية. ويستند المجمع إلى أشغال الخبراء، ويكلف بتوفير الشروط اللازمة لترقية تمازيغت قصد تجسيد وضعها كلغة رسمية فيما بعد. تحدد كيفيات تطبيق هذه المادة بموجب قانون عضوي. جدل المادة 51 من الدستور الجديد المادة المقننة لإقصاء مزدوجي الجنسية أثارت المادة 51 من الدستور الجزائري الجديد، أو «المعدل»، استياء عارما وسط الطبقة السياسية الجزائرية، معارضة وموالاة، لاسيما من جزائريي المهجر البالغ عددهم أزيد من ستة ملايين جزائري. فهي تقصيهم من إمكانية الوصول إلى المناصب السامية بسبب الجنسية المزدوجة. وهو الأمر الجديد الذي لم يكن في الدساتير الجزائرية السابقة ! فكل الدساتير كانت تفتح الباب لمزدوجي الجنسية للولوج إلى المناصب العليا، بما فيها تقلد مسؤوليات وزارية، باستثناء منصب رئاسة الجمهورية الذي كان حكرا على أصحاب الجنسية الجزائرية دون سواها، وهذا أمر طبيعي ومعمول به في كل دساتير العالم. بل إن بعض الدول تفرض على المترشحين لمنصب رئاسة الجمهورية أن لا يكون أحد والديه من حاملي الجنسية المزدوجة. كما هو الحال في مصر، ولعل أبرز مثال هو حادثة منع المترشح المعتقل السياسي حاليا، المحامي حازم صلاح أبو إسماعيل. الذي استبعد من خوض الانتخابات الرئاسية بمصر 2012 على خلفية الزعم بأن والدته حاملة للجنسية الأمريكية، وهو ما اتضح خلافه فيما بعد ! وقد أثارت المادة 51 نقاشا واسعا داخل الأحزاب السياسية الجزائرية بما فيها أحزاب السلطة نفسها، ومنها حزب جبهة التحرير الوطني بقيادة عمار سعداني، الذي احتج على المادة 51 معتبرا بأنها مادة مجحفة، ما دفعه للمطالبة الفورية بتعديلها حتى لا يتم إقصاء 6 ملايين جزائري. والشيء نفسه ذهب إليه حزب تجمع أمل الجزائر بقيادة الوزير الحالي للسياحة والصناعة التقليدية وتهيئة الإقليم عمار غول، مطالبا بتوضيح في الأمر. لتتوالى لغة الشجب والتنديد من الجالية الجزائرية بالخارج، حيث انتقدت النائبة الجزائرية عن الجالية الوطنية في الخارج، شافية مونتاليشتا، المادة 51 من الدستور الجديد التي تمنع مزدوجي الجنسية من الوصول إلى المناصب العليا في الدولة، معتبرة أنها، أي المادة 51، ستكون بمثابة حاجز أمام أبناء الجزائر من أصحاب الكفاءات العالية، وأنها ستحرم الجزائر من خبرتهم وتجربتهم الواسعة. المادة 51 : يتساوى جميع المواطنين في تقلد المهام والوظائف في الدولة دون أية شروط أخرى غير الشروط التي يحددها القانون التمتع بالجنسية الجزائرية دون سواها شرطا لتولي المسؤوليات العليا في الدولة والوظائف. وعلى المنوال نفسه، أدانت جمعية «الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا» ، في بيان لها (نشر مقتطفات منه عدد من وسائل الإعلام الجزائرية المكتوبة والإلكترونية الجزائرية) انتهاك الدولة المعبر عنه في الدستور بشأن المادة 51، والتي تنتهك حق اندماج مزدوجي الجنسية من هويتهم وحقوقهم ومساواتهم»، مضيفة «بأن تعديل الدستور عبر المادة 51 استحدث شعبا ثالثا لا هم فرنسيون ولا هم جزائريون، وكل هذه الشريحة من أبناء الجالية المنتشرين في الخارج جرى استهدافهم في الدستور بسبب ثقافتهم المزدوجة، فذلك يحدث بين فرنسا التي تحضر أن تضع في دستورها مصادرة الجنسية الفرنسية من مزدوجي الجنسية، وبين الجزائر التي حرمت في دستورها الجديد الترشح للمناصب السامية في الدولة والوظائف السياسية لغير المتمتعين بغير الجنسية الجزائرية». وأمام هذا التخبط والشجب والاستياء العارم، والذي من شأنه تعكير الأجواء المعكرة أصلا، استدركت رئاسة الجمهورية «الزلة الدستورية» المتعلق بالمادة 51 من مقترحات تعديل الدستور، بعد صدور بيان مجلس الوزراء الذي صادق على مشروع مراجعة دستور دون إدخال أي تغيير عليه. حيث أعلنت عن تحديد المناصب السامية في الدولة، التي يحرم منها مزدوجو الجنسية، بموجب قانون بعدما كانت الوثيقة الأصلية تتحدث عن منعهم بالمطلق من الوصول إلى كل الوظائف العليا بدون استثناء. ومن أجل امتصاص الغضب السياسي والجمعوي على المادة 51 ، أفرد التلفزيون الجزائري في نشرة أخبار الثامنة ليلة الثلاثاء 12 يناير، حيزا مهما لتفسير المادة 51 أو بالأحرى لاستدراكها. فمثلا، أكد وزير التعليم العالي والبحث العلمي الطاهر حجار, بأن المادة 51 من الدستور الجديد لا تعني الأساتذة الجامعيين والباحثين مزدوجي الجنسية الطامحين إلى مناصب مسؤولية في الجزائر. وغير بعيد عن المادة 51، أضيف للمادة 73 الخاصة بشروط الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، شرط إضافي أقل ما يمكن يوصف به أنه غريب ! ألا وهو الإقامة بالجزائر مدة 10 أعوام على الأقل قبل إيداع الترشيح ! إذ نصت بالحرف على: «يثبت (المترشح) إقامة دائمة بالجزائر دون سواها لمدة 10 سنوات على الأقل قبل إيداع الترشيح « ! وهو الشرط الذي لا يتوفر في الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة نفسه! الذي كان متنقلا بين الجزائر وباريس وعدد من العواصم الخليجية. والحال أنه بمجرد ما تقرأ شرط الإقامة 10 أعوام يتبادر إلى الأذهان المترشح الجزائري الذي أقصي من السباق الانتخابي لرئاسيات 2014 رشيد نكاز بفضيحة ما عرف حينها اختفاء التوقيعات ! وقد علق بعض الجزائريين على شبكات التواصل الاجتماعي قائلين: «هل لهذه الدرجة يخيف رشيد نكاز السلطات حتى يخص ببند في الدستور؟ «. إضافة قانون السلم و المصالحة للديباجة الوجه الآخر لدسترة منجزات الرئيس بوتفليقة قبل ترك السلطة وكرسي المرادية، يبدو مسعى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة واضحا في ترك بصمته للأجيال القادمة. وهو ما يظهر جليا في دسترة ما عرف بقانون السلم والمصالحة الوطنية، والذي كان يعتبره وما يزال أهم إنجاز رئاسي له على مدار الولايات الرئاسية الأربع. والحال أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أدرك، منذ أول يوم وطئت قدماه السلطة، أنه لكي يبقى محتفظا بمنصبه على رأس قصر المرادية وجب عليه أن يصنع له شرعية سياسية جديدة، غير الشرعية الثورية التي يتقاسمها الكثيرون معه بمن فيهم من هم في المؤسسة العسكرية. ومن جهة أخرى لتجاوز كبوة انتخابات أبريل 1999 حين فضل باقي المترشحين الانسحاب احتاجا على الميل الكبير للإدارة المشرفة على الانتخابات إلى المترشح القادم من غياهب التاريخ وصحراء السياسة عبد العزيز بوتفليقة، الذي لم يكن سوى مترشح المؤسسة العسكرية، التي أتت به مرة ثانية بعد محاولات 1995 التي انتهت بالطلاق، حينما أدرك بوتفليقة بأن الأوضاع جد معقدة، وبأنه سيكون مجرد دمية وواجهة مدنية بشرعية تاريخية لأصحاب البزات العسكرية الخضراء أو بتعبيره يومها حين رفض العرض وطار إلى سويسرا قائلا: «لا أريد أن أكون ثلاثة أرباع رئيس» ! ولأنه ملم بالخارطة السياسية والحسابات تحت الحمراء، فبمجرد تنصيبه رئيسا فائزا ضد لا أحد، عقب انسحاب باقي المنافسين، رمى بكل ثقله من أجل البحث عن شعبية سياسية عبر دعوته للاستفتاء على قانون الوئام المدني في سبتمبر 1999. وبذلك خرج من معطف المؤسسة العسكرية التي كانت ستبتزه على خلفية فوزه من دون منافسة. الأسطوانة نفسها ستعاد حينما استنفد الرئيس بوتفليقة عهدتين رئاسيتين، وهو ما يسمح به الدستور الجزائري ل1996، وهذه المرة تم إشهار ورقة إتمام ما بدأه الرئيس بوتفليقة من مشاريع كبرى على رأسها إقرار السلم التام والمصالحة الوطنية الكاملة. وبذلك قفز على البناء الدستوري ل1996 ليقوم بإدخال تعديلات وإضافات تتجاوز مأزق المادة 74 المكبلة. وها هو الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وهو قاب قوسين أو أدنى من مغادرة قصر المرادية، يقفز من جديد، وهو الذي لم يعد يقوى على القفز والوقوف أصلا نتيجة تدهور حالته الصحية، على مشروع السلم والمصالحة الوطنية، ولكن من أجل دسترته من باب المن الخفي على الأجيال القادمة على كونه الرئيس الاستثنائي، بل وعميد رؤساء الجمهورية بأربع عهدات رئاسية متتالية. فهو السبب في ما تنعمون به من أمن واستقرار! حيث جاء في الديباجة: «غير أن الشعب الجزائري واجه مأساة وطنية عرضت بقاء الوطن للخطر. وبفضل إيمانه وتمسكه الثابت بوحدته، قرر بكل سيادة تنفيذ سياسة السلم والمصالحة الوطنية التي أعطت ثمارها وهو مصمم على الحفاظ عليها.» ويبدو جليا من مفهوم لا منطوق العبارة المضافة في الديباجة الدستورية أثر المن على أنه بفضل حكمة وتبصر صاحب المشروع أي قانون السلم المصالحة. أما هل أعطى (قانون السلم والمصالحة) ثماره أم لا ؟ فالوقائع كلها تؤكد بأن الثمار الوحيدة التي أعطاها قانون السلم والمصالحة الوطنية، هي الضمانة التامة والكاملة للمؤسسة العسكرية التي تكلفت بتدبير الملف الأمني والسياسي طيلة العشرية السوداء، بأنها ستكون في منأى عن أية محاسبة أو متابعة أو حتى مساءلة عما فعلت واقترفت! ناهيك عن بقاء العديد من الأسئلة بلا أجوبة، وعلى رأسها ملف مصير عشرة آلاف جزائري مختطف ومجهول المصير؟ ناهيك عن ملف التسوية السياسية بإرجاع الحقوق السياسية لأتباع الحزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ أو الحزب المنحل بتعبير المؤسسة السياسية الرسمية الجزائرية ! وإذا كان الدستور الجديد ل2016 لم يستطع أن يمس في الديباجة كل من وضعية حزب التحرير والأول من نوفمبر من 1954، ومعه جبهة التحرير الوطنية. حيث تمت إضافة جيش التحرير إلى عبارة جبهة التحرير، في حين كانت الدساتير السابقة تذكر جبهة التحرير الوطنية دون جيش التحرير! وهو ما يبدو محاولة للتمييز بين السياسي والعسكري، والأهم من ذلك سحب البساط من تحت أقدام قلعة حزب جبهة التحرير الوطني، ومحاولة تلجيم شرعيتها السياسية والتاريخية. ويكفي مراجعة النص القديم أي دساتير 2008 و2002 و1996 حيث نجد: وقد توجت جبهة التحرير الوطني ما بذله خيرة أبناء الجزائر من تضحيات في الحروب التحريرية الشعبية بالاستقلال، وشيدت دولة عصرية كاملة.» في حين جاء في النص الدستوري الجديد ل2016 : «وقد توج الشعب الجزائري، تحت قيادة جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني، ما بذله خيرة أبناء الجزائر من تضحيات في الحروب التحريرية الشعبية بالاستقلال، وشيدت دولة عصرية كاملة. ولم تشر الديباجة المنقحة الجديدة لدستور 2016 لا من قريب ولا من بعيد، إلى قانون الرحمة الذي أحدث في عهد الرئيس السابق الجنرال ليمين زروال، والذي كان أحد أهم أسباب توتر العلاقة بينه وبين مؤسسة الجنرالات الرافضة لأي حوار ومصالحة مع المعارضة الإسلامية. بل أكثر من ذلك، كان قانون الرحمة والذي سمح بتفكيك الجيش الإسلامي للإنقاذ بقيادة المدني مزراك، وعودة مئات من الملتحقين بالجبل إلى ذويهم ممن لم يثبت تورطهم بالمشاركة في أعمال إرهابية، بمثابة التوطئة لما أقدم عليه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة فيما بعد من قانون الوئام المدني ومشروع السلم والمصالحة لاحقا. تجنب الاستفتاءات الشعبية سمة دساتير بوتفليقة من الواضح أن التعديلات الدستورية الأخيرة لن تمر عبر بوابة الاستفتاءات الشعبية، بل ستعرف نفس مصير تعديلات 2008، وهو ما يعد خرقا للأعراف الدستورية العالمية، على اعتبار أن الشعب وحده هو مصدر السيادة وممارستها تتم عبر البوابة الاستفتائية للإدلاء برأيه. لاسيما إذا تعلق الأمر بأكبر وثيقة سياسية من شأنها تغيير الحياة السياسية بالبلد. بل المادة 174 من الدستور المراد تبنيه واضحة، حيث جاء فيها «لرئيس الجمهورية حق المبادرة بالتعديل الدستوري، وبعد أن يصوت عليه المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة بنفس الصيغة حسب الشروط التي تطبق على نص تشريعي. يعرض التعديل على استفتاء الشعب خلال 50 يوما الموالية لإقراره. يصدر رئيس الجمهورية التعديل الدستوري الذي صادق عليه الشعب.» لذا، يوجد المجلس الدستوري في وضع لا يحسد عليه، إذ هو مطالب بأن يرد على رئيس الجمهورية الذي قدم له الدستور للإفتاء في أمر الدستور والمواد المضافة، والتغييرات التي طالت الوثيقة الدستورية الثالثة في عهد الرئيس بوتفليقة، بعد وثيقة 2002، القاضية باعتبار الأمازيغية لغة وطنية، ثم الوثيقة الدستورية ل2008 التي فتحت أمام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تجديد عهدتين إضافيتين ليرتقي إلى أربع عهد رئاسية، ثم الوثيقة الدستورية ل2016 والتي طال التغيير فيها 67 مادة مما مجموعه 182 مادة يتضمنها الدستور الجزائري الجديد، علاوة على 23 مادة أخرى بصيغة مكرر، وأيضا أدرجت فيها أربعة أمور جديدة غير مسبوقة في الدساتير الجزائرية السابقة، واحدة منها جاءت معها 10 فقرات تخص هيئة حقوق الإنسان ودورها، والمواد الثلاث الأخرى بها مادتان مكرر 1 و2. علاوة على باقي التغييرات الكبيرة الجوهرية التي حملتها النسخة الدستورية الجديدة، و التي لا يمكن تغييرها في التعديلات الدستورية القادمة. وبذلك، فسوف يكون المجلس الدستوري في موقف حرج! بحيث ينتظر الرئيس والحاشية الرئاسية سيناريو المرور عبر بوابة البرلمان بمجلسيه المجلس الوطني الشعبي ومجلس الأمة، للمصادقة على الدستور وكفى الله الرئيس ومحيطه شر الاستفتاء الشعبي! أما المنطق الدستوري، ونظرا للتغييرات التي عرفتها النسخة الدستورية ل 2016، ومن أجل إضفاء المزيد من المشروعية الشعبية على الورقة الدستورية فلا بد من الاحتكام إلى صوت الشعب، عبر الدعوة إلى الاستفتاء الشعبي في غضون 50 يوما القادمة. وهو ما يبدو مستبعدا نظرا للحالة التي يتم الترويج بها للدستور الجديد بحيث يظهر بأن المحيط الرئاسي غير مستعد لخوض المغامرة الشعبية، والتي ستحتاج إلى تعبئة وحملات دعائية سياسية، قد تستغلها أطياف ما تبقى من المعارضة السياسية للخروج إلى الشارع كما جرى في الانتخابات الرئاسية لأبريل 2014 حين خرجت إلى الشارع للاحتجاج على العهدة الرابعة، ولا سيما أن المحيط الرئاسي والرسمي لم يكف عن التبجح بكون دستور 2016 يفتح المجال واسعا أمام المعارضة السياسية، ويقر بالحق السلمي في التعبير والتظاهر !