ونحن نتهيأ لجهوية موسعة لن تتضح ملامحها إلا مع اكتمال صياغتها القانونية، يُطرح السؤال عن موقع المكون الثقافي في نسيج الهيكلة القادمة، لا سيما وأن المسؤولين المحليين والمجالس المنتخبة على المستويات المحلية والجهوية عودتنا على تعاطيها السلبي مع أغلب جوانب الثقافة. فلا سعي مهما من قبل المؤسسات المنتخبة التي يفترض أنها معنية بتطوير البنية التحتية للثقافة، ولا اهتمام واضحا بشريحة المثقفين المتنوعة والكبيرة في هذه المنطقة أو تلك، فضلا عن الفجوة الكبيرة بين المسؤول والفنان. هذه الفجوة وعدم الاهتمام بالفن وغياب دعم الحركة الفنية في المدن والأقاليم ككل لا مبرر لها لتبقى المهرجانات، المدعومة برهانات سياسية، لا ثقافية، هي صاحبة التفضيل الرسمي. إذ يتنافس الكثيرون على التباري فيها وتقديمها، والإغداق عليها بمنطق دعم الفن والثقافة. وحتى إذا وجد هذا الدعم طريقه إلى هذه المسميات الفنية، وأفلت من الرابضين على الطريق، السارقين للأحلام الثقافية، فالنتيجة لا تكون في مستوى الرهان، بقدر ما تكون إسهاما «ثقافيا» مفروضا بقوة الأشياء، التي تريد أن تخلط الثقافة والفن الحقيقيين بالرهانات البعيدة عن الهم الثقافي الحقيقي. ناهيك عن أن «مهرجانات السياسة» هذه، إذا وجدت، لا تقام في إطار بنيات ثقافية وفضاءات فنية مهيأة لهذا الغرض، بل هي مجرد عروض تلقى في أمكنة مفتوحة سرعان ما تختفي باختفاء مناسبة تنظيمها. هذا إضافة إلى أن الغالبية العظمى من المجالس لا تتوفر على مهندسين أو مستشارين ثقافيين. ويعود هذا إلى غياب الوعي بأن الثقافة بكل مكوناتها هي المنجز المتقدم لمعاني الحياة، بالرؤية والفكر تستبق ما يمكن أن يتبناه المسؤول، كما أن هذا الأخير لا يدرك أن عملية إلغاء وتهميش دور المثقف هو إلغاء للحياة الجديدة بدءا، وللمعرفة التفصيلية في دور الثقافة، وما تمتلكه من أبعاد في أهمية إنضاج الوعي الفردي ومن ثم الرؤية المجتمعية الأبعاد الانسانية التي يمتلكها الفرد ليكون عنصرا متفاعلا مع فضاء عصره ومنتجا ومتسالما مع محيطه ومنتجا. غياب الرؤية الثقافية كذلك يعود إلى كون المسؤولين يغيب عنهم الإيمان بأن الأعمال الفنية تبني الإنسان بمضامينها الجمالية والأخلاقية، وبأن العمل الثقافي على اختلاف مجالاته وتعدد منابره وتنوّع أشكاله، هو جزء لا يتجزأ من العملية التنموية في جوانبها العامة الاقتصادية والاجتماعية. فالثقافة، من هذا المنظور المبتور، لا يمكنها أن تكون عنصراً حيوياً للتنمية بوجه عام وقوة للبناء الحضاري وطاقة للنماء الاجتماعي ودعماً للرخاء الاقتصادي. فليس ترفا أو اعتباطا أن تعطي البلدان المتقدمة للثقافة وزنا وتعتمد سياسات ثقافية تنمي الوعي بأخطار تدهور البيئة والأضرار الصحية والأمراض المعدية، وسبل اجتنابها والوقاية منها، وبمساوئ الخلل السكاني وآثاره السلبية على الحالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، وعلى دعم المشاريع ذات البعد الثقافي والمردود الفني في مجالات المحافظة على البيئة والصحة، وتطوير الوضع السكاني، وتخصيص جوائز تشجيعية لأحسن الأعمال الأدبية والفنية ذات الصلة، وتطوير ملكات التخييل والنقد وطرح الأسئلة بالقراءة وترويج المعرفة الأدبية والفكرية.. وعلى بلورة استراتيجيات وطنية للتأهيل الثقافي للموارد البشرية، كماً ونوعاً، وذلك في ضوء تشخيص الواقع الثقافي المحلي، وتحديد عناصره وأولوياته، مع تضافر الجهود والتنسيق والتكامل مع الجهات المختصة في مجالات الثقافة والتربية والاتصال، وبإنشاء صناديق منح خاصة بتأهيل ورعاية المبدعين في مجالات المعارف والصناعات التقليدية والصناعات الثقافية ورعايتهم، وحث القطاع الخاص على المساهمة في تمويله، إلخ. ربما لا يحتاج الفاعل السياسيي والمسؤول المحلي أن نؤكد له مجمل هاته البديهيات، فقد لا يؤمن بها لأنه أمي، والأمية مستويات، وقد لا يأخذ بها لأنه مقتنع ومجتهد في تهميش وإقصاء الأجدر على مستوى التسيير، فما بالك أن يفكر في تشكيل لجان أو مجالس إقليمية لرعاية الثقافة والفنون والآداب في جميع المدن والقرى التابعة للإقليم أو الجهة وبأن يعمل فيها المتميزون من المثقفين بصفتهم خبراء ومستشارين للاستفادة من تراكم خبراتهم الثقافية، بدلا من رميهم ونتاجهم الفكري في سلة المهملات?!