في قراءته لورش الجهوية الموسعة الذي أعلن عنه جلالة الملك، يرى سعيد خمري أستاذ العلوم السياسية بالكلية المتعددة التخصصات، أسفي ،جامعة القاضي عياض، أن هذا المشروع تاريخي إذا ما تعامل معه المعنيون بالمستوى الحضاري الذي يستوجبه، كما يعتقد بأنه قد يشكل مدخلا ديمقراطيا لقضية الصحراء وذلك بتمكين سكان الأقاليم الجنوبية، وعلى غرار سكان الجهات الأخرى من خلال هيئات الجهة، من الصلاحيات والموارد اللازمة لتدبير شؤونهم بأنفسهم مع الحفاظ على وحدة الدولة المغربية وسيادتها. } ماهي قراءتكم لمشروع الجهوية الموسعة الذي أطلقه جلالة الملك في خطاب تنصيبه للجنة الاستشارية للجهوية الموسعة؟ لقد سبق وأن قلت بأن ورش الجهوية الموسعة الذي أعلن جلالة الملك عن إطلاقه في 3 يناير الجاري، هو مشروع تاريخي بكل المقاييس، لأنه سيقطع مع مرحلة تدبير كل أمور البلاد انطلاقا من العاصمة الرباط، أي انطلاقا من السلطة المركزية. بحيث سنصبح بعد وضع التصور العام للجهوية الموسعة من قبل اللجنة الاسشارية التي عينها العاهل المغربي، وبعد موافقته عليه ...سنصبح أمام أدوار فعلية للجهات بما يمكن المواطن داخل جهته من تدبير شؤونه بنفسه، وذلك بمنح هيآت الجهة الصلاحيات الكاملة والموارد الضرورية لتحقيق التنمية المحلية. وعندما أقول بأن ورش الجهوية الموسعة مشروع تاريخي في المغرب فلأنه سيكون له فضل عما سبق، وإذا ما تم التعامل معه بالمستوى الحضاري اللازم من قبل المعنيين به، سيكون له الأثر المباشر على المشهد السياسي وعلى الحياة السياسية المغربية، لأننا سنصبح أمام منطق آخر في تدبير الشأن العام. بل أكثر من ذلك فإن اعتماد الجهوية الموسعة في المغرب سيكون له تأثير مباشر لا محالة على بنية النظام الدستوري المغربي، فبعد أكثر من خمسين سنة على اعتماد الحكم المركزي في المغرب، وإن تم الاستناد إلى نظام اللامركزية وعدم التركيز لكن بشكل محدود، سيتم الآن إعادة النظر في بنية توزيع السلط والموارد بين المركز والجهات وفق مبادئ وثوابت معينة أكد عليها جلالة الملك. } ما مفهوم الجهوية الموسعة من منظور القانون الدستوري المقارن وهل له علاقة بمفهوم الحكم الذاتي؟ ليس هناك اتفاق في التجارب المقارنة على مفهوم واحد ووحيد ل «الجهوية» أو «حكم المناطق» أو «الحكم الذاتي»...، لأن هذه التجارب تختلف من دولة لأخرى ، بل حتى داخل الدولة الواحدة، إذ نجد أحيانا دولة تتبنى نظام حكم المناطق المستقلة - كما هو الحال في إسبانيا- لكن يختلف مداه من منطقة لأخرى بحسب الخصوصيات التاريخية والاجتماعية والثقافية والحضارية لكل منطقة. وعلى العموم إذا كان الهدف من السؤال هو موضعة فكرة الجهوية الواسعة التي جاءت في الخطاب الملكي الأخير ضمن التجارب المقارنة، يمكن القول أن المقصود بها: منح الجهات اختصاصات اقتصادية واجتماعية واسعة تتجاوز الحدود الإدارية الضيقة، لكن في إطار مبادئ - أو مرتكزات كما سماها الخطاب الملكي- ثابتة لا يمكن تجاوزها ألا وهي : 1 - الوحدة، 2- التوازن، 3- التضامن،4 اللاتمركز الواسع،: وحدة الدولة والوطن والتراب؛ التوازن، القائم على تحديد الاختصاصات الحصرية للدولة مع تمكين المؤسسات الجهوية من الصلاحيات الضرورية للنهوض بمهامها التنموية ، في مراعاة لمستلزمات العقلنة والانسجام والتكامل؛ التضامن بتوفير موارد مالية عامة وذاتية للجهة، واعتماد تقسيم ناجع يتوخى قيام مناطق متكاملة اقتصاديا وجغرافيا ومنسجمة اجتماعيا وثقافيا؛ اللاتمركز الواسع في إطار حكامة ترابية ناجعة. إذن فالجهوية الموسعة ليست سوى تمكين المواطنين في دائرة ترابية محلية محددة من تدبير أمورهم بأنفسهم، وذلك من خلال هيآت جهوية ينتخبونها ، لها من الصلاحيات والموارد ما يمكنهم من تحقيق التنمية المحلية، لكن ليس في انفصال عن الدولة وعن السلطة المركزية. فالجهوية الموسعة لا تعني الانفصال ولا تعني التجزيء ولا التقسيم ولا الخروج عن سيادة الدولة. بل هي نوع من التدبير المحلي لكن في إطار الدولة الواحدة. وهذه المسألة سيعكسها بدون شك تصور اللجنة الاستشارية للجهوية. أما مفهوم الحكم الذاتي الذي أشرت إليه في سؤالك فهو نظام قانوني وسياسي يرتكز على قواعد القانون الدولي و القانون الدستوري معا. فهو نظام لا مركزي ، مبني على أساس الاعتراف لإقليم معين أو عدة أقاليم داخل الدولة بالاستقلال في إدارة شؤونه تحت إشراف ورقابة السلطة المركزية. فهو بهذا المعنى أسلوب للحكم والإدارة في إطار الوحدة القانونية والسياسية للدولة . في هذا الاتجاه، يندرج تعريف الميثاق الأوربي للحكم الذاتي المحلي ، بحيث عرفته المادة الثالثة منه بأنه: «قدرات الوحدات المحلية والإقليمية الفعلية، وحقها في تنظيم وإدارة جانب كبير من الشؤون العامة تحت مسؤوليتها ، ولصالح سكانها في إطار القانون» وأن هذا الحق « يمارس عن طريق مجالس أو جمعيات مشكلة من أعضاء منتخبين في اقتراع حر وسري، ويتميز بالمساواة، سواء أكان مباشرا أو عاما ، ولهذه الجمعيات أو المجالس أن تمتلك أجهزة تنفيذية مسؤولة تجاهه». وتتبنى الدول التي أخذت بأنظمة الحكم الذاتي بالنسبة لأقاليمها أو لبعض منها ، واحدة من الطرق الثلاثة في توزيع الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والقضائية بين السلطة المركزية (الدولة) وبين الإقليم أو الأقاليم المحكومة ذاتيا وهي: 1- تعيين الصلاحيات التشريعية والتنفيذية والقضائية بين الإقليم المحكوم ذاتيا وبين السلطة المركزية؛ 2- الاقتصار على توزيع وتحديد صلاحيات الإقليم المحكوم ذاتيا في مجالات محددة؛ 3- الاكتفاء بتعيين الصلاحيات والمجالات التي تقتصر على الدولة والسلطة المركزية ذات السيادة. ويبدو أن المبادرة المغربية لإقرار نظام الحكم الذاتي لجهة الصحراء، قد أخذت بالطريقة الأولى أسوة بالنظام السياسي الإسباني الذي ميز في الدستور انطلاقا من المادتين 148 و149 بين صلاحيات الجماعات المستقلة وصلاحيات الدولة. وهكذا نجد أن المشروع المغربي للحكم الذاتي لجهة الصحراء يعين في فقرته 12 الميادين التي يمارس فيها سكان جهة الحكم الذاتي للصحراء، من خلال هيئاتهم التشريعية و التنفيذية والقضائية، عدة اختصاصات. و بعد أن حدد الموارد المالية التي تتوفر عليها الجهة لتحقيق تنميتها في الفقرة 13، بين على سبيل الحصر في الفقرة 14 الاختصاصات التي تحتفظ بها الدولة. } كيف يمكن أن تكون الجهوية الموسعة مدخلا لحل قضية الصحراء؟ سؤال مهم، إن الجهوية وكما سبق أن أشرت إلى ذلك، تعني تمكين سكان الجهة من خلال هيئات جهوية ينتخبوها لهذا الغرض، من الصلاحيات والموارد اللازمة لتدبير شؤونهم بأنفسهم، وهي بذلك ولا شك تتقاطع بشكل كبير مع روح الحكم الذاتي وغايته. إن الجهوية الموسعة ستكون بالتأكيد حلا وطنيا لقضية الصحراء، وذلك بمنح سكان الأقاليم الجنوبية حق تدبير شؤونهم بأنفسهم من خلال هيآت يختارونها وينتخبونها بأنفسهم، وبالتالي إذا ما تم التوافق في المستقبل على المبادرة المغربية بشأن نظام الحكم الذاتي لجهة الصحراء، فإنها ستجد إذاك التربة خصبة لتطبيقها. ثم إن المبادرة ذاتها أكدت تقريبا على نفس المبادئ المعلن عنها بخصوص الجهوية الموسعة. فمثلا مبدأ الوحدة يعتبر مبدءا أصيلا وجوهريا في المشروع المغربي لإقرار نظام الحكم الذاتي لجهة الصحراء، بحيث أن المشروع يقدم أصلا في إطار سيادة المملكة المغربية ووحدتها الترابية الوطنية ، إذ تحتفظ الدولة باختصاصاتها في ميادين السيادة، والدفاع والعلاقات الخارجية والاختصاصات الدستورية والدينية للملك أمير المؤمنين، الضامن لحرية ممارسة الشعائر الدينية وللحريات الفردية والجماعية. السعي للحفاظ على هذا المبدأ نلمسه أيضا في الفقرة 16 من المشروع التي أناطت بمندوب الحكومة مزاولة اختصاصات الدولة في جهة الحكم الذاتي للصحراء. ومما يضمن مبدأ الوحدة أيضا تنصيص المشروع على تمثيلية ساكنة الجهة في البرلمان وفي باقي المؤسسات الوطنية، ومشاركتهم في كافة الانتخابات الوطنية. كما أن الملك الذي هو بحسب الفصل التاسع عشر من الدستور أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة ، فالملك بهذه الصفات هو الذي ينصب رئيس السلطة التنفيذية لجهة الحكم الذاتي للصحراء ، وذلك بعد انتخابه من قبل البرلمان الجهوي. كما تصدر محاكم الجهة أحكامها باسم الملك وذلك على غرار باقي المحاكم في الجهات الأخرى من التراب الوطني . كما نص المشروع المغربي على ضرورة مراعاة المحكمة العليا الجهوية - وهي أعلى هيئة قضائية بجهة الحكم الذاتي للصحراء تنظر في تأويل قوانين الجهة- عدم الإخلال باختصاصات المجلس الأعلى للقضاء الذي يرأسه الملك ، وباختصاصات المجلس الدستوري الذي يعين الملك رئيسه من بين الأعضاء الستة الذين يعينهم إلى جانب الستة أعضاء الآخرين المعينين من قبل البرلمان والذين يشكلون في مجموعهم المجلس. بالإضافة إلى أن المشروع المغربي لإقرار نظام الحكم الذاتي لجهة الصحراء نص على وجوب مطابقة القوانين التشريعية والتنظيمية والأحكام الصادرة عن هيئات الجهة لدستور المملكة. وعلى سبيل المقارنة فقط، نجد الدستور الإسباني لسنة 1978 يؤكد على مبدأ الوحدة هذا من خلال التنصيص على أن الدستور يبني وحدة الأمة الإسبانية غير القابلة للتجزيء، ووطنا مشتركا لا يتجزأ لكل الإسبانيين، ويحدد ويضمن حق الاستقلال الذاتي للقوميات والأقاليم التي تتكامل وتتضامن فيما بينها. ويذكر في هذا السياق أيضا بأن المحكمة الدستورية الإسبانية كانت قد أكدت في أحد أحكامها بأن الحكم الذاتي لا يعني السيادة، وأن كل تنظيم متمتع بالحكم الذاتي هو جزء من الكل ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتعارض مبدأ الحكم الذاتي مع وحدة الدولة السيدة، بل يكون بالضبط داخلها حتى يصل إلى معناه الحقيقي. } هل يمكن أن نتصور الملامح العامة لمشروع الجهوية الموسعة في المغرب؟ اللجنة لازالت في بداية اشتغالها، ولن يكون بمستطاعها صياغة تصور متكامل إلا بعد استشارتها للهيئات المعنية وللفاعلين المعنيين الذين بلا شك سيقدمون لها اقتراحاتهم في الموضوع. لكن استنادا إلى الخطاب الملكي الأخير، فإن جلالته أكد على أربع مرتكزات يجب أن يقوم عليها تصور اللجنة الاستشارية للجهوية الموسعة المرتقبة في المغرب وهي: - التشبث بمقدسات الأمة وثوابتها، في وحدة الدولة والوطن والتراب؛ - التضامن في مابين الجهات. - التناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانات، وتفادي تداخل الاختصاصات بين مختلف الجماعات المحلية والسلطات والمؤسسات. - اللاتمركز الواسع، في إطار حكامة ترابية ناجعة. وبذلك يجب أن ندرك سلفا أن التصور العام للجهوية الموسعة الذي ستضعه اللجنة الاستشارية، بعد إنصاتها واستشارتها مع الهيآت المعنية، لا يمكن أن يخرج عن هذه المبادئ الأربعة التي هي بمثابة خارطة طريق المغرب نحو الجهوية الموسعة، مع استئناس اللجنة طبعا بالتجارب الدولية المقارنة واستخلاص الدروس منها دون استنساخها كلية، أي ضرورة مراعاة الخصوصيات المغربية والتي يلخصها المبدأ الأول أعلاه. وعموما وحسب ما أثبتته التجارب الدولية، يمكن الإدلاء بخصوص الجهوية المرتقبة بالمغرب بالملاحظات التالية وهي: - الجهوية الموسعة لا يمكن أن تستقيم دون اعتماد تقسيم جهوي ناجع يتوخى قيام مناطق متكاملة اقتصاديا وجغرافيا ومنسجمة اجتماعيا وثقافيا. - الجهوية الموسعة قد لا تكون بالضرورة بإيقاع واحد بين جميع الجهات، يمكن أن تكون أكثر تقدما في الأقاليم الصحراوية نظرا لخصوصية المنطقة. - مهما كان تقدم الجهوية فإنه لا يمكن أن يمس بمبدأ وحدة الدولة التي -على سبيل المثال وفضلا عن إجراءات أخرى تجسد هذا المبدأ- ستحتفظ باختصاصات حصرية خصوصا ما يتعلق منها بالسيادة والدفاع والعلاقات الخارجية والاختصاصات الدستورية والدينية للملك بصفته أمير المؤمنين. - الصلاحيات والموارد يمكن أن لاتعطى دفعة واحدة للجهات، بل بشكل تدريجي وفي ذلك إعطاؤها فرصة لمراكمة التجربة.