أسوأ ما قام به مبارك خلال سنوات حكمه هو أنه قضى على الإنسان المصري.. دمره ودمر آدميته وجعله أضحوكة في أصقاع الدنيا يبدو المشهد السياسي مضطربا في القاهرة إلى حد بعيد، فالعبث بمصير أكبر دولة عربية من قبل حفنة من المراهقين والمقامرين الذين يسيطرون على مقدرات البلاد وعلى القرار فيها يبدو أنه في طريقه من مرحلة العبث إلى مرحلة الفوضى. ولا ندري هل ستكون هذه الفوضى، على مذهب كوندليزا رايس، فوضى خلاقة. تلك الفوضي التي خلفت مشاهد في العراق وأفغانستان واليمن، وربما السودان، لا يعرف أحد نهايتها أم إنها ستكون على أشكال أخرى من الفوضى المفتعلة التي لا تغير سوى الأسماء في النهاية. لا أعتقد أن مصريا أو عربيا لديه ذرة من العروبة، تسري في دمائه، لا يتألم بالليل والنهار على ما آل إليه الوضع في مصر، لأن صلاح أمر العرب جميعا مرتبط بصلاح الأمر في مصر، وما هم فيه من تردٍ وتراجع وانهيار هو انعكاس للحالة التي تعيش فيها مصر. ولأن مصر أكبر ممن يحكمونها بكثير، فإن هؤلاء العجزة جروا مصر ومن ورائها العالم العربي كله إلى هذا الوضع البائس الذي يعيشه الجميع. رئيس مصر يستقبل رئيس وزراء إسرائيل ويرتب معه الأوراق... أوراق أمن إسرائيل وسيادتها وحربها على الفلسطينيين، مقابل دعم إسرائيل وتأييد أمريكا لمشروع التوريث، توريث مصر للنجل الأكبر للرئيس، هكذا يقول المراقبون والخبراء. وفي نفس الملف، يخرج أحمد أبو الغيط الذي يذكرنا بناظر المدرسة الابتدائية أو ناظر العزبة ليصرخ، أمام شاشات التلفزة، مهددا ومتوعدا قافلة «شريان الحياة» التي جاءت لنصرة شعب غزة المحاصر والذي يشارك مبارك وحكومته في حصاره، وليعكس نوعيات المسؤولين الذين يختارهم مبارك ليديروا شؤون مصر. وحتى نعرف مستويات اختيار وزراء الخارجية وكيف أنهم الواجهة الديبلوماسية والسياسية لبلادهم، علينا أن نقارن بين أحمد أبو الغيط، بمؤهلاته وأدائه وتاريخه، وبين أحمد داوود أوغلو، وزير خارجية تركيا، الذي حقق لبلاده خلال ستة أشهر ما عجز وزراء الخارجية المصريون عن تحقيقه خلال عقود. لن نجد وجها للمقارنة على الإطلاق، لأن رجب طيب أردوغان حينما اختار داوود أوغلو كان يضع رجلا يعمل لصالح تركيا، وليس لآل أردوغان، أما كل الذين يتولون المناصب في مصر فللأسف يتم اختيارهم وتكريمهم ليس لأنهم يخدمون مصر ولكن لأنهم يخدمون آل مبارك، ومن ثم ينالون الأوسمة والنياشين والوظائف المرموقة في الدولة حتى بعد إقالتهم من مناصبهم، تقديرا لخدماتهم لآل مبارك. هناك فوضي وعبث في اختيار الرجال في بلادنا. أنا كمصري، أشعر بالخزي والعار كلما رأيت وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط يتحدث في وسائل الإعلام، فالرجل لا يملك أية مقومات تؤهله لا لأنْ يكون وزير خارجية، فهذه قصة أخرى، ولكن ليتحدث بلباقة ويختار كلماته وعباراته بلغة السياسة والديبلوماسية أمام الإعلام. أما ملف التوريث فهو من أكثر الملفات المسيئة إلى مصر وشعبها وتاريخها ومكانتها، ملف تروجه مجموعة من المنتفعين واللصوص الذين يريدون أن تبقى مسيرة النهب من الأب إلى الابن دون حسيب أو رقيب، مستندين إلى دعم إسرائيل وتأييد واشنطن، متناسين أن هناك شعبا فيه نفوس كبيرة تشرف مصر في أركان الدنيا، لأنها لم تجد في بلادها موطئا في ظل العابثين بأقدار البلاد. إن أسوأ ما قام به مبارك خلال سنوات حكمه هو أنه قضى على الإنسان المصري.. دمره ودمر آدميته وجعله أضحوكة في أصقاع الدنيا. حينما كنت تقول إنك مصري، قبل أن يستولي العسكر على السلطة، كان معنى هذا الحضارة والعراقة والتاريخ والعلم والسيادة والديمقراطية وتداول السلطة والإباء والعزة والكرامة والشموخ والإنسانية والعطاء والوطنية، أما الآن فحينما تقول إنك مصري فذلك يعني أنك «أوَنطجي ونصاب وبتاع ثلاث ورقات وهلفوت وحرامي وبتنضرب على قفاك ومفيش حكومة بتحميك لا جوه مصر ولابراها» وأنك «إن لم تكن من كبار المنافقين للنظام، فإنك لا تساوي شيئا، فلا قيمة لعلمك إن كنت عالما ولا لجهدك إن كنت مجتهدا وعصاميا ناجحا». الأسوأ من كل هذا أن مبارك أوصل مصر إلى حالة أنه لا يوجد بديل غيره، قضى على كل من له فرصة لأن يكون حاكما قادما لمصر. وحينما أشير إلى عالم مصري له مكانته العالمية كرئيس لهيئة الطاقة الذرية، وهو الدكتور البرادعي، تقوم جوقة المنافقين والمنتفعين لتنال من الرجل وكرامته وكأنه ارتكب جريمة، وكأن مصر الولادة على مدار التاريخ عجزت النساء فيها عن أن يلدن من يحكمها من بعد مبارك. هذه الضبابية والعبثية والعجز الذي يلف المشهد المضطرب في مصر يجعل كل من يحب مصر وشعبها يدعو لها بأن يجعل الله فرجه قريبا وأن يكون سلميا آمنا، فحينما يلف العجز الجميع لا تبقى إلا أقدار السماء تتدخل لتخرج الناس من الظلمات إلى النور.