سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
شفيق: رفضت كتابة سيرتي داخل السجن الأردني بعد أن اكتشفت أنه لا يقارن بفظاعة السجون العربية قال إن المخابرات الأمريكية أرسلت خبيرا ليستنطق الشيوعيين الأردنيين داخل السجون
ليس منير شفيق مفكرا عاديا، اعتنق التنظير واعتكف في الصالونات الأدبية؛ إنه رجل جمع بين النظرية والممارسة، وجسد بقوة، عبر مساره الفكري والسياسي الطويل، مقولة «المثقف العضوي». ما يميز هذا المناضل الفلسطيني هو انتماؤه الدائم إلى ما يرى فيه أمل ومستقبل الأمة. جمع الرجل بين المسيحية مولدا ثم الإسلام مآلا، وبين الشيوعية منطلقا ثم القومية والحركية الإسلامية أفقا. عاش في فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وفيها تشرب مبادئ الشيوعية قبل وبعد النكبة، ثم في لبنان حيث قدم إلى حركة فتح جزءا من مسيرته، وشكل داخلها صوتا متفردا من خلال «السرية الطلابية»، قبل أن يطور مشروعه الفكري ليفرز التصور الجهادي من خلال «سرايا القدس». على كرسي الاعتراف، يحكي منير شفيق جانبا من ذاكرته الخاصة، ويبسط شهادته على ما عاشه من أحداث بدءا بالنكبة وحرب 1948 مرورا بهزيمة 1967، ثم خروج حركة فتح من الأردن بعد أحداث أيلول الأسود؛ كما يقدم روايته حول نضال فتح من داخل الأراضي اللبنانية في سنوات السبعينيات، قبل الخروج الأخير إلى تونس. في هذه الأحداث وغيرها، تبرز شخصية منير شفيق المناضل العصي على التطويع والمهادنة المجانية كما تجسدت في رفضه لكل «مشاريع وخطط التسوية» مع إسرائيل. حاوره – رشيد عفيف – في الحلقة السابقة، وقفنا عند موافقتك على كتابة تجربتك في السجن كما طلب ذلك منك صاحب دار الطليعة؛ هل أنجزت هذا المشروع؟ بعدما استمعت إلى روايات من المناضلين الشيوعيين خريجي السجون العربية، ذهبت إلى بشير الداعوق، صاحب دار النشر، وقلت له: هل تريدني أن أمدح الأردن أم أن أذمه؟ إذا كنت تريد الحقيقة، فإن السجن الأردني الذي عشناه لا يقارن بتاتا بالسجون العربية الأخرى، ولذلك من الأفضل أن تنسى هذا الموضوع وتتركه جانبا. فقال لي: ماذا تقول؟ فأجبته: كما سمعت، لقد استنتجت أننا كنا معتقلين في سجن مريح، كيف تريد أن أقارن بين السجن في الأردن والسجون في باقي البلاد العربية؟ – لكن، ألم تعيشوا خلال سنوات الاعتقال أي نوع من الاضطهاد أو الإهانة أو التعذيب بالمرة؟ الفترة الوحيدة التي عشنا فيها قساوة السجن كانت عندما ألح الأمريكيون على الأردن في أن يرسلوا خبيرا من المخابرات المركزية الأمريكية ليتولى الإشراف على التحقيق في قضايا وملفات الشيوعيين في السجون. حينها، ارتفعت المساعدات الأمريكية للأردن وبعثوا عنصرا من المخابرات برتبة عقيد ليشرف على التحقيق معنا.. كان ذلك المحقق ألمانيا في الأصل، وسبق له العمل مع جهاز «الغستابو» (البوليس السري النازي). وقد حضر إلى السجن الأردني ما بين سنتي 1959 و1960، فاختار من بين السجناء حوالي 22 سجينا من الشيوعيين، جلهم من قادة الحزب الشيوعي الأردني. وكنت حينها قد أصبحت أتبوأ، داخل السجن، مكانة بين القياديين. وكان دوري داخل السجن يتمثل في عملية التثقيف الماركسي، فكنت أقوم بتدريس المادية الجدلية والاقتصاد السياسي في محاضرات مفتوحة يتابعها الجميع في السجن، بمن فيهم القيادات. – هل كانت تلك النشاطات والمحاضرات تجري بشكل علني داخل السجن؟ طبعا، لقد قلت لك إننا كنا نتمتع بحرية كبيرة داخل السجن الصحراوي في الجفر، والذي كان يشبه المخيم الكبير المحاط بسور.. فلم تكن إدارة السجن ولا عناصر الأمن يتدخلون في ما كنا نقوم به من أنشطة أو محاضرات أو نقاشات. وقد كنت محاضرا في النظرية بالرغم من صغر سني. ولهذه الاعتبارات، كنت من بين الذين تم اختيارهم ليخضعوا للتحقيق من قبل الخبير الألماني الذي، بمجرد وصوله، نقل كل السجناء الذين سيحقق معهم، وكسر كل ما كان لدينا في السجن، وحرم من بقوا في سجن الجفر من كل المكتسبات التي كنا نتمتع بها، وحوّل السجن مجددا إلى سجن حقيقي، وأوقف كل الأنشطة الرياضية والثقافية، وحرم النزلاء من فترات الراحة. وقد كان هدفه الأساسي من كل ذلك هو الضغط على السجناء من أجل الحصول على ما يريده من معلومات. ولم يعد يكفي السجناءَ أن يستنكروا الحزب الشيوعي كي تتم تبرئتهم والعفو عنهم، بل أصبحوا ملزمين بأن يقدموا تقريرا مفصلا عن تاريخهم وعن كل ما يعرفونه من معلومات. وضعنا هذا الخبير الألماني في 12 زنزانة، ضمت كل واحدة من تلك الزنازين -التي كانت فردية وقاسية- سجينين تقريبا، بشكل منفرد؛ وبدأ يمارس علينا ضغوطا شديدة، فحرمنا من الجرائد والكتب، وحتى من رؤية باقي زملائنا ورفاقنا.. وقد دام ذلك لفترة طويلة إلى درجة أن المرء كان يمكن أن ينسى كل ما تعلمه وعرفه بسبب العزلة. وإذا كان المرء يريد، فعلا، أن يعرف ما معنى أمريكا المتبجحة بحقوق الإنسان والديمقراطية، فقد كانت تلك هي الفرصة لذلك؟ لم يكن هذا المحقق يؤمن بالقانون أو بحقوق الإنسان، بل كان يعتبر نفسه القانونَ وحقوقَ الإنسان. – هل كان يعلن لكم ذلك؟ لقد كان يوجه إلينا خطابا يقول فيه إن الأحزاب الشيوعية لا تؤمن بالقوانين والحريات وحقوق الإنسان، وإنه يعاملنا بناء على ما تمارسه أحزابنا. – هل كان يستجوبكم؟ طبعا.. كان يضعنا في السجن أولا، وقد انهار بعض السجناء تحت الضغوطات التي مورست عليهم.. ولسوء الحظ فقد تزامن حضوره مع اشتداد الصراع بين الشيوعيين والقوميين في العراق وما ترتب عنه من قتل وسحل وجرائم، فكان هذا المحقق يمرر الراديو بين الزنازين ويسمع السجناء دعوات القتل والسحل والتحريض ضد الشيوعيين في العراق؛ وقد أثر ذلك على بعض السجناء الذين انهاروا وأحسوا بالهزيمة المعنوية رغم أنهم صمدوا في كل جلسات التعذيب التي تعرضوا لها في بداية اعتقالهم. ولكن بالرغم من كل ذلك، فقد بقي السجن في الأردن أفضل بكثير من السجون العربية التي سمعت عنها.