مصطفى واعراب على حين غرة، خلط التدخل الروسي قبل نحو أسبوعين أوراق الحرب المروعة والمعقدة في سوريا. ففي لحظة اعتقد المتتبعون بأن النظام السوري أوشك أخيرا على السقوط، رمت روسيا فجأة بكامل ثقلها في ساحة الحرب، مستفيدة من التردد الأمريكي والأوروبي وكذا الانشغال التركي. وادعت أنها تستهدف القضاء على الإرهاب في المهد قبل أن يتسلل إلى بلادها. بيد أن مجريات التدخل الروسي المباشر في الحرب السورية سرعان ما خلطت الأوراق في الميدان، وأربكت «اللاعبين الكبار» الآخرين الذين يكتفون حتى الآن بخوض حروبهم من خلال وكلاء صغار، وأضعفت بالتالي مواقعهم؛ إذ باتت موازين القوى الجديدة تنذر بحصول مواجهات أكبر قد توسع رقعة الحرب إلى خارج سوريا. فما هي تحديدا تلك الحروب «الصغيرة» المشعلة للملف السوري المتفجر؟ من يقف خلفها؟ ومن هم وكلاء الحرب الصغار؟ وما هي المخاطر التي قد يجرها التدخل العسكري الروسي المباشر في النزاع السوري، في اتجاه إشعال حرب عالمية جديدة؟ تعج سماء سوريا بعشرات الطائرات الحربية التابعة لبلدان غربية وروسيا وبلدان عربية وإسلامية. إنها لا تحلق من أجل النزهة، بل تقنبل وتحرق مواقع عسكرية ومدنية بأحدث القنابل والصواريخ. وعلى الأرض السورية التي استوطنها دمار رهيب، تتحرك مجموعات متقاتلة من السوريين والأجانب حيث تخوض حروبا «صغرى» بالوكالة لفائدة قوى إقليمية ودولية متضاربة المصالح. والحرب بالوكالة للتذكير، هي تلك التي تستخدم فيها قوى متحاربة أطرافا أخرى للقتال بدلا عنها. وقد انتشر هذا النوع من الحروب غير المباشرة على الخصوص خلال فترة الحرب الباردة. ولسوف يذكر التاريخ بأن الحرب الأهلية السورية المندلعة منذ 2011، كانت من أكثر الحروب التي شهدت حروبا بالوكالة، وكان لها دور كبير في عدم التقاء فرقاء الأزمة على حل يحفظ سوريا من الدمار الشامل. فالظاهر للعيان أن في سوريا اليوم، تتصارع قوى دولية وإقليمية بشراسة، من خلال أطراف سورية مسلحة. لعل أبرز تلك القوى: روسيا، وأمريكا، وإيران، والسعودية، وقطر، وتركيا. حلف روسي-شيعي ضد تركيا بعد تدخله العسكري القوي في سوريا، بات الدب الروسي يقف على حدود تركيا، أي على خط تماس متقدم مع الحلف الأطلسي الذي تنتمي إليه تركيا. وبرأي محللين فإن بوتين لم يكن ليقدم على هذه الخطوة التوسعية الجريئة، لو أن رد فعل أوروبا والولايات المتحدة كان رادعا بما يكفي إزاء توسعه العسكري في أوكرانيا العام الماضي. ومنذ بدء التدخل الروسي في سوريا تسارعت تطورات الأحداث على حدود تركيا، فتكررت استفزازات الطيران الحربي الروسي للمقاتلات التركية [آخرها كان السبت الماضي]، كما تلاحقت اختراقاته للحدود التركية بشكل متعمد ما يجعل خيارات أنقرة تتقلص، فارضةً على الحكومة التركية المؤقتة تحديات غاية في الصعوبة، لعل أبرزها عدم إمكانية السكوت عن هذه الإنتهاكات. وفي نفس الوقت عدم سهولة اتخاذ قرار بالتعامل عسكرياً وربما إعطاء أوامر بإسقاط الطائرات الروسية، في حال تكرار انتهاكها للأجواء التركية. وفي سياق ذلك بدأ المحللون الغربيون يطرحون السؤال: هل سيدافع الغرب، ممثلا في الحلف الأطلسي، عن تركيا ضد الاختراقات التي تقوم بها المقاتلات الروسية لأجوائها؟ وطبعا هذا الخيار يعني الانجرار إلى حرب عالمية ثالثة. وهكذا، وبعد أن كانت تركيا تطالب بإقامة منطقة آمنة داخل الحدود السورية لإيقاف تدفق اللاجئين على بلادها، والعمل على إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد؛ أصبحت تعمل على وقف انتهاك الطائرات الروسية لمجالها الجوي، وتحذر من موجات هجرة جديدة بسبب الغارات الروسية على سوريا. وتأتي كل هذه التطورات، في ظل ظروف سياسية استثنائية تمر بها تركيا، حيث تخوض الحكومة الانتقالية التي تقود البلاد حتى إجراء الانتخابات في نوفمبر المقبل، حرباً ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني أدت إلى مقتل وإصابة المئات من الجانبين. كما تواجه ضربات إرهابية تهدف إلى إرباكها وإضعافها. في مقابل ذلك، وعلى عكس ما أعلنت موسكو حين بدأت تدخلها العسكري، لم تستهدف غارات مقاتلاتها مواقع تنظيم الدولة الإسلامية إلا نادرا، بل ركزت هجماتها على كتائب الجيش السوري الحر. والمعروف أن تركيا لعبت دورا كبيرا في بناء هذا الفصيل المسلح المعارض، منذ بداية الثورة السورية. وأنه يعد بالتالي بمثابة ذراعها وأداتها الضاربة في سوريا، تخوض من خلالها حربا بالوكالة ضد نظام بشار الأسد. ولذلك السبب، فإن استهداف الضربات الروسية للجيش السوري الحر تحديدا، يعني ضمن ما يعنيه، أن نفوذ ومصالح تركيا في سوريا باتت مهددة بشكل مباشر. وأن روسيا دخلت في مواجهة غير مباشرة حتى الآن مع تركيا. ويقود تحليل الموقف السياسي والعسكري القائم إلى الاعتقاد في أن العمليات الروسية، التي سبقها الإعلان عن إقامة حلف بين كل من موسكووطهران وبغداد ودمشق، تحت ذريعة محاربة الإرهاب الداعشي، إنما تستهدف تركيا ضمن من تستهدفهم من اللاعبين الكبار في الملف السوري. فالواضح أن تلك البلدان جميعها ليست على علاقة جيدة مع تركيا. وتشترك معها في الوقت نفسه في الحدود البرية. وبالنتيجة يثير الوضع مخاوف تركية من ظهور حلف شيعي روسي ضاغط على حدودها الشاسعة. حرب سعودية-إيرانية بالوكالة من جانب آخر، ومنذ اشتعال الحرب في اليمن قبل سبعة شهور، لم تتوقف لهجة التهديد عن التصاعد بسرعة بين كل من السعودية وإيران. تهدد السعودية بأن في وسعها «محو» إيران من الخريطة في لحظات، فترد طهران بأن لديها ألفَيْ صاروخ موجهة نحو السعودية وجاهزة للإطلاق في أي وقت. ثم يخفت التوتر الإعلامي بسرعة أيضا. لكن على الأرض، تعتبر سوريا ساحة المواجهة الأولى (قبل اليمن) التي تتواجه فوقها في حرب بالوكالة السعودية، التي تعتبر نفسها زعيمة الجزء السني من العالم الإسلامي، مع إيران زعيمة الجزء الشيعي. تريد السعودية رأس النظام السوري لأنه من أقوى حلفاء إيران في الشرق الأوسط، وإسقاطه يعني بالنسبة إليها إلحاق الهزيمة بنظام الملالي في طهران. كما يضمن لها تحقيق تفوق على الجبهة اليمنية المشتعلة. ومن جانبها تعتبر إيران بأن دعم نظام بشار الأسد مسألة بالغة الحيوية لنفوذها ووزنها الإقليمي والدولي. ولذلك دفعت أولا بحليفها (حزب الله اللبناني) في أتون الحرب الأهلية السورية، ثم لاحقا بقواتها وخبرائها لدعم النظام السوري المتهاوي. وخلال الأيام القليلة الماضية، ومع الضربات القاسية التي كبدها الطيران الروسي للمعارضة السورية المسلحة، قررت السعودية أن تمد فصائل الجيش الحر المدعومة عربيا وغربيا، بعدد من الأسلحة المتطورة عالية التقنية، والتي تشمل مضادات للدروع، حسب إفادة مسؤول سعودي عالي المستوى لوسائل إعلام غربية. وأوضح المسؤول ذاته بأن الفصائل المستهدفة بالمساعدات العسكرية السعودية لا تشمل تنظيم الدولة الإسلامية ولا جبهة النصرة، اللتين تعدان منظمتين إرهابيتين. بل سيستهدف الدعم السعودي ثلاثة تحالفات ثورية هي: جيش الفتح، والجيش السوري الحر، والجبهة الجنوبية. وكشف بأن قطر وتركيا كانتا دولتين أساسيتين في تأمين الدعم للفصائل «السنية»، التي تقاتل الأسد ومتطرفي تنظيم الدولة، في وقت تصف فيه روسيا كل أعداء الأسد بالإرهاب، بمن فيهم المعارضة المعتدلة المدربة أمريكيا وتلك التي تدعمها السعودية وبلدان الخليج. ولم يستبعد المسؤول السعودي نفسه تقديم صواريخ مضادة للطيران للمعارضة السورية، في خطوة طالما عارضتها البلدان الغربية التي تخشى وقوعها بأيدي تنظيم «الدولة الاسلامية، الذي قد يستخدمها لإسقاط مقاتلات التحالف الذي تقوده أمريكا، أو حتى لتدمير الطائرات المدنية. ولعل أبرز مستجد يسجل في صفوف حلفاء السعودية بتزامن مع التدخل الروسي، هو الفتور العلني في العلاقة مع مصر. فالموقف المصري انقلب 360 درجة. فإذا كانت السعودية تصر بقوة على إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد ولا ترى له أي دور في مستقبل سوريا، فإن الموقف المصري تغير وبات متطابقا مع روسيا بوتين، التي ترى عكس رؤية السعودية تماما، وتعتبر أن البديل عن النظام السوري لن يكون سوى الفوضى بعد وصول الجماعات الإسلامية المتطرفة إلى السلطة في دمشق. ولا تكتفي مصر بالاقتراب أكثر من الموقف الروسي والسوري، بل إنها تحاول جر الإمارات العربية المتحدة إلى تبنيه. استفزازات روسية للمسلمين وبالعودة إلى التدخل العسكري الروسي، يلاحظ أنه إذا كانت السياسة الغربية في سورياوالعراق تتوخى الحذر الشديد في إعطاء أي بعد ديني كان للحرب على داعش، فإن تهور الروس في هذا الصدد يبدو بلا حدود. وهكذا، وبعد أن أعطى تدخل كل من إيران وحزب الله اللبناني (الشيعيان) منذ البداية بعدا طائفيا مذهبيا للحرب ضد تنظيم داعش المحسوب على السنة، أتى التدخل الروسي المدعوم من الكنيسة في روسيا ليصب مزيدا من الزيت على النار. فقد شكل وصف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لتدخل موسكو في سوريا ب «الحرب المقدسة» صدمة للمسلمين، عكستها ردود الفعل الغاضبة المسجلة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ والتي تأرجحت بين من رصد أموالا مقابل أسر جندي روسي، ومن وصفها ب «الحملة الصليبية ودعا إلى الحاجة إلى صلاح الدين الأيوبي جديد، وبين من دعا المسلمين بكل بساطة إلى الجهاد. وعلى هذا النحو، وبسبب التهور الروسي كسبت «الدولة الإسلامية»، من دون أن تسعى إلى ذلك، مزيدا من التعاطف معها. لا فحسب من جانب الجهاديين عبر العالم، بل وفي صفوف خصومها أيضا. فقد رصد المسؤول الشرعي في جبهة النصرة «الموالية للقاعدة، أبو حسن الكويتي» جائزة حدد قيمتها في مليون ليرة سورية لكل من يأسر جنديا روسيا، بينما ذهب مسؤول آخر بجبهة النصرة نفسها التي تحارب داعش، إلى رصد مليون ليرة أخرى لأي فصيل مسلح يتمكن من أسر جندي روسي. وانتقلت روح الحمية الدينية إلى كبار فقهاء السنة وأبرزهم الشيخ يوسف القرضاوي، الذي كان عنيفا في تقريع موقف الكنيسة الروسية. كما دعا أكثر من 55 عالم دين وداعية سعوديين في بيان مشترك الدول الإسلامية إلى «دعم المجاهدين» في سوريا و«سحب سفرائها من روسياوإيران، وقطع جميع العلاقات والتعاملات معهم»، منددين بالتحالف الغربي- الروسي، الذي يشن «حربا حقيقية ضد أهل السنة» في سوريا، وذلك بعد أسبوع على بدء موسكو غارات جوية في سوريا. وأضاف علماء الدين في بيانهم بأن «المجاهدين في الشام اليوم يدافعون عن الأمة جميعها، فثقوا بهم ومدوا لهم يد العون المعنوي والمادي، العسكري والسياسي، فإنهم إن هُزموا -لا قدر الله ذلك- فالدور على باقي بلاد السنة واحدة إثر أخرى». وتابع البيان أن «الدور الأكبر في نصرة الشعب السوري يقع على كاهل الدول السنية المجاورة لسوريا، وعلى الدول التي أعلنت بقوة وصراحة وقوفها إلى جانب الشعب السوري. وأنه لا مكان للقاتل في أي حل مقبل، وعلى رأس هذه الدول بلادنا المملكة العربية السعودية، وتركيا وقطر». وناشد الدعاة هذه الدول «اتخاذ مواقف عملية قوية نصرة لإخوانهم السوريين؛ مواقف تتحقق بها حماية الشام أرضا وشعبا من نفوذ الفرس والروس». وهاجم الدعاة في بيانهم الولايات المتحدة متهمين إياها بأنها تغض الطرف عن كل ما يجري في سوريا بما في ذلك التدخل العسكري الروسي الأخير. وإذ ذكر الدعاة بغزو أفغانستان من قبل الاتحاد السوفياتي السابق، فإنهم لم يفتهم أن يذكروا بأن «وريثته روسيا الصليبية الأرثوذكسية تغزو سوريا المسلمة لنصرة النظام النصيري، وحمايته من السقوط (…) لقد أعلنها رؤساء كنيستكم الأرثوذكسية حرباً مقدسة». والغريب أنه بدل أن تنأى القيادة الروسية بنفسها عن تصريحات الكنيسة الأورثوذوكسية، تمادت في تواطئها معها. ونتيجة لذلك تناقلت مواقع التواصل صورا لقساوسة أورثوذوكسيين وهم يرشون الطائرات الروسية ب»الماء المقدس»، لمباركتها قبل أن تطير للإغارة على مواقع المعارضة السورية. والواضح أن تلك الاستفزازات الدينية سوف يكون لها من العواقب الوخيمة على روسيا ما بعدها… حرب روسية-شيشانية ثالثة وفي سياق متصل، توجه 700 مقاتل شيشاني خلال الأيام القليلة الماضية، لمنطقة سهل الغاب في محافظة حماة السورية، من أجل قتال القوات الروسية المتواجدة في سوريا. وكشفت مصادر إعلامية متطابقة بأن أولئك المقاتلين الشيشان الذين حضروا من العراق ومناطق أخرى بسوريا، يملكون خبرات عالية في قتال الجيش الروسي في الشيشان. ويرى متابعون للنزاع السوري بأن التدخل الروسي لدعم نظام الأسد هو في جانب منه حرب ثالثة بين الروس والشيشان تدور على الأراضي السورية، بدليل أن الضربات الجوية الروسية تتركز في مناطق يتواجد فيها المقاتلون الشيشانيون بكثرة. ووقعت حرب أولى مع الشيشان في روسيا للتذكير، بين العامين 1994 و1996. وتلتها حرب ثانية خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، ضد التمرد الإسلامي وامتدت إلى كامل القوقاز الروسي، وخصوصاً أنغوشيا وداغستان. وفي سوريا، ظهر أوائل المقاتلين الآتين من القوقاز في صيف العام 2012، وخصوصاً خلال معركة حلب. وكان معظم هؤلاء قاتلوا في وقت سابق في العراق وأفغانستان. وهم معروفون بشراستهم في الحروب وبقدراتهم القتالية العالية، ويسميهم العرب والأفغان ب»الشيشان»، حتى إن كانوا وافدين من مناطق أخرى من القوقاز الروسي. ويقدر المرصد السوري لحقوق الإنسان عدد المقاتلين الذين قدموا من الشيشان وداغستان ومناطق أخرى إلى سوريا بألفين على الأقل. بينما تذهب مصادر أخرى إلى تقدير أعدادهم في صفوف داعش لوحدها بحوالي 8 آلاف مقاتل. لكن المؤكد أن المقاتلين الشيشانيين يتمركزون على الخصوص في محافظات إدلب وحلب واللاذقية، وأنهم منضوون في صفوف جماعة «جند الشام» التي تقاتل إلى جانب «جبهة النصرة»، و»جماعة أجناد القوقاز» في محافظتي إدلب واللاذقية. وكان الرئيس الروسي بوتين قد صرح في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي استبق فيه العمليات الروسية في سوريا: «هناك روس يدربون ويتدربون في (الدولة الإسلامية)، ونحن لن نسمح لقاطعي الرؤوس أولئك بالعودة إلى بلدهم». وهي إشارة واضحة لأحد أهداف العمليات الروسية في سوريا. بوتين. وبفضل قدراتهم القتالية العالية، يشكل الشيشانيون حسب مراقبين، العمود الفقري لأي عملية هجومية في سوريا أو داخل روسيا نفسها، التي يشكل المسلمون خمس عدد سكانها. وبسبب ذلك يحذر الخبراء من احتمال إقدام إسلاميين متطرفين على مهاجمة محطات مترو موسكو مرة أخرى نتيجة التدخل في سوريا، وقد سبق أن كانت هدفا مفضلا لأعمال إرهابية في الأعوام 2002 و2004 وآخرها في 2010، وكان منفذوها رجالا ونساء انفصاليين من جمهورية الشيشان التابعة للاتحاد الروسي، وينتمون إلى ما يسمى بإمارة القوقاز الإسلامية. شبح حرب عالمية جديدة يبدو الموقف الأمريكي المتردد حيال التدخل مباشرة وبقوة في مجريات الأحداث في سوريا نتيجة لتضاؤل وانكماش النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط بشكل عام، وإلى ترك الساحة في المنطقة فارغة لكل من إيرانوروسيا ولاعبين آخرين يتطلع كل منهم إلى مد نفوذه وتحقيق مصالحه. فالرئيس أوباما لا يرغب في ما يبدو في التورط في الصراع الدائر بسوريا، خاصة عقب التركة الثقيلة التي ضغطت عليه والمتمثلة في النتائج الكارثية لغزو العراق. ومن باب «النصيحة» التي أملتها عليه التجارب الأمريكية المريرة في كل من أفغانستان والعراق، نجد أوباما يصرح مخاطبا بوتين بأن الحل العسكري الذي اختارته كل من روسياوإيران في سوريا لتعزيز قوة الرئيس بشار الأسد يمكن أن يوقعهما في مستنقع حرب طويلة الأمد؛ موضحا بأنه رغم أن التوتر والاختلاف في وجهات النظر سوف يستمر، « إلا أننا لن نجعل من سوريا ساحة حرب بالوكالة بين الولايات المتحدةوروسيا».. لكن رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ السيناتور ماكين، رد بسخرية على تصريح أوباما من أنه لن ينفذ حربا بالوكالة مع روسيا في سوريا، قائلا: «إذا نفى الرئيس ذلك، فإن هذا يعني أننا لا نملك إستراتيجية أصلا». لكن مجريات الأحداث التي أعقبت نفي الرئيس الأمريكي أكدت أن واشنطن تخوض بالفعل حربا أو حروبا بالوكالة في سوريا. فقد أعلنت وزارة دفاعها (البنتاغون) عزمها إرسال أسلحة ووسائل اتصال متطورة وذخيرة إلى بعض فصائل المعارضة السورية المسلحة، مع تقديم دعم جوي لها، من أجل مساعدتها على مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. ويجعل ذلك لاعبين كبارا يتشاركون رقعة جغرافية تضيق بنفوذهم العسكري جميعا، ما يرفع خطر حصول مواجهات مباشرة أمرا وارد الاحتمال. فالمخاوف باتت تزداد من حدوث مواجهات جوية بين طائرات كل من روسيا وطائرات التحالف الدولي، سيما بعد اختراق طائرات روسية أكثر من مرة المجال الجوي لتركيا -وهي العضو في حلف شمال الأطلسي، ورصد أنظمة صاروخية روسية منشورة داخل الأراضي السورية لطائرات تركية كانت تقوم بدوريات جوية عند الحدود التركية السورية. صحيح أن الولايات المتحدة دخلت في محادثات مع روسيا لضمان تنفيذ عمليات جوية آمنة، تمنع حصول حوادث جوية في الأجواء السورية التي تحلق فيها طائرات روسية وأخرى تتبع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، «عبر دائرة تلفزيونية مغلقة». لكن اللاعب الروسي معروف بتهوره إلى درجة الخطر. وقد سبق أن أبدى الأمريكيون استياءهم من أن الروس أبلغوهم قبل ساعة فقط ودون تفاصيل، ببدء سلاحهم الجوي غارات جوية على مواقع المعارضة السورية المسلحة. كما أن الضربات الروسية تفتقد الدقة، بدليل أن صواريخ روسية سقطت قبل أيام في إيران، في خط مرورها الذي كان من المقرر أن تعبر منه في طريقها نحو أهداف في سوريا. وكان الجيش الروسي نفى في البداية سقوط تلك الصواريخ في إيران. لكن مسؤولا أمريكيا كان سباقا إلى الكشف بأن 4 صواريخ عابرة للقارات أطلقت من روسيا باتجاه أهداف في سوريا، سقطت في إيران. وانتهت هذه الأخيرة إلى تأكيد نبأ سقوطها من دون ذكر أي تفاصيل، أو الحديث عن سقوط ضحايا في الحادث. فروسيا هي حليفة حليف إيران، وبالتالي لا مؤاخذة عليها. لكن ماذا لو كانت تلك الصواريخ أصابت العمق التركي بالقصد أو عن طريق الخطأ، على سبيل المثال؟؟ للتذكير فقط، ففي العام 1914 لم يكن أحد يتوقع بأن حادثا إجراميا معزولا من قبيل اغتيال أرشيدوق النمسا، في 28 يونيو في ساراييفو، بعيدا عن العواصم الأوروبية الكبرى، سوف يتسبب في قيام الحرب العالمية الكبرى. وهي للتذكير تعد واحدة من أكثر المذابح في تاريخ البشرية رعبا…