قليلة هي تلك السير الذاتية التي تعكس التاريخ مثلما تعكس سيرة حياة عبد الباري عطوان أحداث زمانه. فقد ولد عبد الباري عطوان في مخيم للاجئين في غزة عام 1950، التي غادرها في السابعة عشر من عمره ليصبح أحد أهم المعلقين الصحفيين في قضايا الشرق الأوسط في العالم. عطوان يروي بصدق وروح عفوية في هذا الكتاب قصة رحلته من أوحال مخيم اللاجئين إلى رأس هرم صحيفة «القدس العربي». خلال رحلته يصور عبد الباري عطوان الرعب الذي سببته مذابح المخيمات والنتائج غير المتوقعة للتدخل البريطاني في المنطقة. كما يروي المآسي التي واجهته جراء تنقله من بلد إلى آخر، والصدمة الثقافية التي أحس بها عندما سافر إلى لندن في السبعينيات. ويحكي أيضا لقاءاته الصحفية مع شخصيات سياسية مهمة مثل مارغريت تاتشر وأسامة بن لادن وياسر عرفات والعقيد القذافي وشاه إيران. كما لا يخلو الكتاب من روايات عن تجارب شخصية وإنسانية كان أكثرها تأثيرا تجربة لقاء أولاده بريطانيي المولد مع عائلته في المخيم. كانت هناك مجموعة أخرى من المهاجرين الفلسطينيين مكونة أساسا من العمال الذين يعانون من البطالة. هؤلاء رحلوا إلى الخليج العربي للعمل هناك، لكنهم لم يحظوا بشعبية بين الفلسطينيين لأنهم اختاروا الثراء الشخصي على الوحدة الوطنية والمقاومة، كما أنهم لم يلقوا الترحيب من قبل الدول التي استضافتهم نظرا لطريقتهم العنيفة والمستفزة في مطالبتهم بحقوقهم. فقد كان الفلسطينيون، على سبيل المثال، نشطين جدا في إضرابات شركة أرامكو السعودية لتكرير النفط في عام 1950، مما جعل السعوديين يضعون قانونا يعاقب أي منظم لمظاهرة عمالية بسنتين حبسا. كما شكلت إرهاصات المقاومة الأولى المكونة من مقاتلي الشوارع موجة أخرى من الهجرة، خاصة بعدما اكتسبت هذه المجموعات زخما و قوة بعد حرب الأيام الستة. حينها بدأ الإسرائيليون في البحث عن قادة المقاومة الفلسطينية، وكان الكثير من المدنيين الفلسطينيين يسقطون ضحايا خلال عملية البحث هذه. كان والد زوجتي، ويدعى عبد الخالق أبو عطوان، أحد أفراد هذه المجموعات التي حملت السلاح ضد الإسرائيليين في أعقاب حرب 1967. وقد شارك في عدة عمليات على الحدود، مما جعل الإسرائيليين يضعون جائزة قدرها 3000 دولار أمريكي لمن يأتي برأسه، و هو مبلغ ضخم جدا في ذلك الوقت. لقد اضطر عبد الخالق الذي كان مدرسا حينذاك إلى أن يكابد الكثير وأن يختفي عن الأنظار قبل أن يتم تهريبه إلى الأردن حيث التحق بعائلته. وبغض النظر عن وضع اللاجئين الفلسطينيين أو عملهم قبل الاحتلال الإسرائيلي، فقد أجبر معظمهم على تجرع خسارة شيء ما من هذا الوضع، سواء كانوا في فلسطين أو في الدول العربية. فحتى أولئك الذين كانوا يمتلكون مؤهلات جيدة كانوا يكابدون الأمرّين لإيجاد وظائف في الدول المجاورة. ففي لبنان قامت الحكومة بالحد من عمالة الفلسطينيين، وفيما بعد منعتهم من العمل تماما. وفي الأردن كان التمييز ضد الفلسطينيين على المستويين العملي والرسمي، حتى أن الكثير من المهنيين الفلسطينيين لم يكونوا قادرين على العمل في مهن تعكس مؤهلاتهم، رغم أن الأردن استمر في استيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين، الذين أصبحوا اليوم يشكلون 55 بالمائة من تعداد سكانه (ولكي أكون أمينا كانت هناك عدة استثناءات لهذه القاعدة، منها شخصية طاهر المصري الذي أصبح رئيسا للوزراء وعضوا متحدثا في البرلمان الأردني). في لبنان منع اللاجئون بقوة القانون من شراء الأراضي الزراعية والعقارات. وخلال تلك الفترة كان العمل الشائع والمتوفر للمهاجرين هو العمل في قطاعي البناء والخدمات. وتقبل الفلسطينيون على مضض قدرهم، الذي حتم عليهم العمل في هذين القطاعين ليوفروا بعض المال ويرسلوه إلى أهاليهم، شرط أن يكون التعليم أولوية بعد توفير الطعام. لقد رأى الفلسطينيون في وقت مبكر أن التعليم هو الطريق الوحيد لخروج الأجيال القادمة من وحل المخيم. استثمار في العقول منذ وفاة والدي، كان أخي كامل يرسل لأمي المال من السعودية لكي يعفينا من شر العوز والجوع. كما كان يعين أخي عبد الفتاح على دراسته في مصر. وكان عمي إبراهيم الذي يعيش في رفح يزورنا بانتظام ويساعدنا بما يستطيع. كانت تربطني بعمي إبراهيم علاقة خاصة، وكان يتمنى أن أتزوج ابنته يسرا في وقت من الأوقات، لكنها توفيت جراء مرض غامض في سن 19. كانت التغطية الصحية في المخيم شبه معدومة حيث إن «الأونوروا» كانت تنفق في ذلك الوقت أقل من أربعة دولارات سنويا على التغطية الصحية للشخص الواحد في المخيم. كان عمي إبراهيم رجلا ذكيا قادرا على إضحاكنا حتى في أحلك اللحظات. في ذلك الوقت دفعت ثقافة المخيمات سكان المخيم إلى تقييم أبنائهم ممن يملكون المواهب والملكات وفقا لما يمكن أن يحققوه مستقبلا في سوق العمل. كان عمي إبراهيم يخبر أمي ممازحا بأنني استثمار جيد للعائلة حيث يمكنها أن تستثمر في تعليمي وتسمين عقلي وحينها يمكنني أن أعمل طبيبا أو مهندسا. قلت له يومها إنني أريد أن أكون صحفيا، فضحك وقال لي: «صحفي! لا يوجد مال في الصحافة. عليك أن تفكر في أمك الآن يا سعيد». قال هذه الجملة وهو يربت على كتفي بحنان. كان المخطط حينها أن أترك فلسطين و أنهي دراستي الثانوية في الأردن، التي كانت في ذلك الوقت تعطي جواز سفر معتمد لكل اللاجئين الفلسطينيين. وقبل أن ألتحق بالجامعة في مصر للدراسة كان علي أن أرى طريقة مناسبة لمساعدة عائلتي ماديا. وفعلا بدأت بالتحضير للرحلة ولكنني أحسست بحيرة شديدة عندما لم أجد حذائي الوحيد، الذي كنت ألبسه في المناسبات الخاصة فقط. كان الحذاء أمرا ضروريا في سفري. سألت أمي عن مكان حذائي ظنا مني أن أحد إخوتي قرر الاحتفاظ به بعد رحيلي. فطمأنتني أمي و قالت لي إن حذائي سيكون هنا في الغد. وفي اليوم الموالي حضر عمي إبراهيم ومعه رزمة بنية اللون يحملها تحت ذراعه وبدأ هو وأمي في التهامس. سألتهما في توتر: «ماذا هنالك؟ هل هذا حذائي؟ إنه لا يحتاج إلى تصليح، إذ بالكاد كنت ألبسه!» أخذت الرزمة من عمي وفتحتها وكان هناك حذائي كما تركته آخر مرة. كان عمي وأمي يتبادلان النظرات ويضحكان. قال لي عمي: «سأقول لك لغزا يا سعيد وعليك أن تحله. إن ثروتك في هذا الحذاء!» ذهلت من هذا اللغز وحاولت أن أحله أنا و إخوتي بدون أي فائدة. كان أسوأ تخمين في حل هذا اللغز هو تخمين أختي فاطمة، التي قالت إنني سأستغل الحذاء للذهاب إلى الأردن مشيا حتى أوفر ثمن تذكرة الحافلة. عند ذاك طرقت أمي على كعب الحذاء و قالت لي إن عمي جعل الإسكافي يخبئ كل مدخراته في كعب الحذاء. وما إن سمعت هذا حتى قمت إلى عمي وحضنته وأخذت أشكره، مؤكدا له أنني سأرد له المبلغ كاملا حالما أستطيع إلى ذلك سبيلا. قمت بفك كعب الحذاء وعددت ثلاثين جنيها مصريا كان عمي قد جمعها من خلال عمله الشاق طوال السنوات الماضية. مقارنة بقيمة المبلغ اليوم كان هذا مبلغا ضئيلا، إلا أنه كان ثروة عمي كاملة. يوم الرحيل حان موعد الرحيل وقمت بتوديع أفراد عائلتي في فجر ذلك اليوم. لم أكن أعرف ماذا سيحصل لي وكنت أتساءل هل ستكون عائلتي في مأمن في مخيم رفح وقد احتله الإسرائيليون؟. كنت قلقا جدا على أهلي وأخذت على نفسي عهدا بأنني سأدعمهم ماديا وأوفر لهم كل ما يلزم حتى تغدو حياتهم أفضل. صحبني عمي إبراهيم إلى محطة الحافلات، وكان علي أن أذهب أولا من غزة إلى الضفة الغربية ومن ثم إلى عمان في الأردن. عندما بدأت في التلويح لعمي مودعا من نافذة الحافلة عبر الطريق الممتلئ بالأتربة و الغبار، أحسست أنني أصبحت وحدي على الطريق وأن الحياة تفتح ذراعيها أمامي لأغدو ما أصبو إليه. كان الأمر مثيرا وشاقا في آن معا. وفي نقطة تفتيش في طريقنا خارج غزة قطع صوت مدافع ستة جنود إسرائيليين وهم يدقون على زجاج الحافلة حبل أفكاري حول المستقبل. كان الجنود يفحصون بأعينهم وجوه المسافرين القلقة وكنت ضمن أولئك الذين طلب منهم أن يخرجوا من الحافلة. كنت مرعوبا وكانت يداي ترتجفان من شدة الخوف لدرجة أنني لم أكن قادرا على الانصياع لمطالبهم التي كانوا يصرخون بها بعربية ركيكة.