نجحت الضغوط الإسرائيلية، المدعومة من دول مثل فرنسا وهولندا وألمانيا، في إحباط مشروع القرار المقدم إلى وزراء خارجية الدول الأوربية من السويد الذي ينص على أن القدسالشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة، واستبداله بقرار غامض مائع مغرق في عموميته، ينص على أن القدسالمحتلة عاصمة للدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. النجاح الإسرائيلي جاء بسبب غياب أي تحرك عربي فاعل في أوساط الاتحاد الأوربي، ليس فقط من أجل دعم القرار السويدي، وإنما أيضا لدفع أوربا إلى مواقف أكثر حزما في مواجهة الممارسات الإسرائيلية المكثفة لتهويد المدينة المقدسة، وهدم بيوت أهلها فوق رؤوسهم، والزج بهم في العراء، ناهيك عن استمرارها في خنق قطاع غزة، وتجويع مليون ونصف المليون فلسطيني. إسرائيل تضغط على الأوربيين والأمريكان، والحكومات العربية تضغط على الفلسطينيين للتخلي عن عنادهم، والقبول بالتوجيهات الأمريكية بالعودة إلى المفاوضات دون شرط تجميد الاستيطان. في الماضي، كانت الحكومات العربية تدفع ثمن وقوفها إلى جانب الثوابت الفلسطينية، وعدم الاعتراف بإسرائيل، حصارا أمريكيا وعقوبات اقتصادية، وأحيانا اعتداءات وقصفاً جوياً (الهجوم الأمريكي على ليبيا). الآن، تستخدم الحكومات العربية قضية فلسطين لتحقيق مصالح محلية، وحل مشاكلها مع الولاياتالمتحدة والعالم الغربي، عبر بوابة التنازلات، والتقدم بمبادرات سلام للخروج من محنة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، مثلما فعلت المملكة العربية السعودية. والموقف الفلسطيني ليس أفضل حالا من موقف الحكومات العربية، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه أكثر سوءا، فالبعض يريد أن يحصر النضال الفلسطيني في الذهاب إلى الأممالمتحدة ومجلس أمنها لاستصدار قرار بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وحدودها، وكأنه لا يوجد أكثر من 65 قرارا صدرت بهذا الخصوص، من بينها قرارات التقسيم وحق العودة، والبعض الآخر يريد الكفاح المسلح دون أن يمارسه، وثالث يريد حل السلطة، ورابع يتحدث عن تفجير انتفاضة، كلها «جعجعة بدون طحن» للأسف الشديد. الرئيس الفلسطيني محمود عباس أكد يوم أمس (الثلاثاء)، أثناء لقائه برجال الصحافة في لبنان، أنه جاد في رفضه الترشح لأي انتخابات رئاسية قادمة، وقال إنه لا يناور أو يمثل، ونحن نصدقه، ولكنه لم يقل لنا متى ستجرى هذه الانتخابات بعد عام.. عامين.. عشرة، ووفق أية ظروف، وهل سيستمر رئيس تصريف أعمال إلى الأبد، وما هي خياراته المقبلة؟ مجلة «التايم» الأمريكية نقلت عن الرئيس عباس في عددها الأخير في زاويتها الأسبوعية «اقتباسات» قوله للأمريكان والأوربيين: «حان الوقت لأن تجدوا لكم حمارا آخر»، في إشارة إلى رغبته في الانسحاب من الرئاسة. المجلة لم تقل لنا أين قال الرئيس عباس هذه العبارة، وفي أي مناسبة، ولكننا لا نستبعد قوله إياها، فالرجل يعيش حالة من الإحباط غير مسبوقة بعد وصول خياراته السلمية إلى طريق مسدود، وتنكر الأمريكان والإسرائيليين والعرب له. أحد المقربين من الرئيس عباس أكد لنا أنه قرر عدم ترشيح نفسه إثر مواجهته ثلاثة مواقف مهينة على الصعيدين السياسي والشخصي: الأول: تعاطي السيدة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، معه بأسلوب وقح، أثناء لقائها معه في مدينة أبوظبي في الشهر الماضي، ومطالبتها إياه بالعودة إلى مائدة المفاوضات مع إسرائيل دون تجميد حكومة بنيامين نتنياهو للاستيطان، وتأكيدها على هذه الوقاحة والازدراء التام بردة فعلها الأولية والسريعة على إعلانه عدم ترشيح نفسه في الانتخابات، بإعرابها عن الاستعداد للتعاطي معه في أي موقع آخر يختاره. الثاني: إصدار الحكومة المصرية تصريحات على لسان السيد أحمد أبو الغيط، وزير الخارجية، ترحب فيها بعودة المفاوضات وفق مرجعية تؤكد على قضايا الحل النهائي، مثل القدس واللاجئين والمستوطنات والمياه والحدود. هذا الموقف المصري شكل صدمة بالنسبة إلى الرئيس عباس، وتحولت هذه الصدمة إلى جرح نفسي غائر عندما قال له السيد أبو الغيط، في لقاء ساده العتاب، إن إصرارك على رفض العودة إلى المفاوضات دون تجميد الاستيطان تجاوباً مع الطلب الأمريكي يعني «أنك انتهيت يا سيد عباس». الثالث: ذهاب أحد أحفاد الرئيس عباس إليه متكدراً باكياً، ومطالباً بمغادرة العائلة رام الله فوراً إلى أي بلد آخر، وعندما سأل الرئيس عباس حفيده عن السبب قال له إن زملاءه في المدرسة يعايرونه بأن جده (أي الرئيس عباس) «خائن وباع فلسطين»، فكانت هذه الكلمات الأكثر تأثيراً في نفسيته، وزادت من عزمه على اتخاذ قرار بعدم الترشح، والانسحاب من الحياة السياسية. هذه الحالة الفلسطينية المزرية، ونظيرتها العربية الرسمية الراكدة اللامبالية، هي التي تعزز الموقف الإسرائيلي دولياً، رغم وجود حكومة يمينية متطرفة باتت تصرفاتها تضع العالم الغربي في حرج كبير، وتهدد مصالحه في العالمين العربي والإسلامي، بتشجيع التطرف في الضفة الأخرى. أوربا لا تخسر شيئاً، ولن تغضب أي عاصمة عربية إذا ما عدلت المشروع السويدي، وأصدرت كلمات إنشائية حول ضرورة رفع الحصار عن قطاع غزة، ووقف بناء المستوطنات وهدم البيوت في القدسالمحتلة، ولكنها تخسر إذا ما فعلت العكس واتخذت إجراءات عقابية ضد إسرائيل، فهناك قوى يهودية وإسرائيلية ستحرض ضد حكوماتها. المصالح الأوربية جميعها في البلاد العربية، وتكفي الإشارة إلى أن أزمة إمارة دبي المالية الأخيرة أحدثت زلزالاً في البورصات الأوربية والقطاعات المصرفية، ويعلم الله ماذا كان سيحدث لو جرى التلويح بتجميد الاستثمارات الأوربية الأخرى في دول خليجية، مثل قطر والسعودية وأبوظبي وسلطنة عمان. أوربا تستفيد منا أسواقا واستثمارات ووظائف (150 ألف بريطاني يعملون في دبي وحدها)، وتضرب بنا وبمصالحنا عرض الحائط، ولا تعيرنا اهتماماً أو احتراماً، بينما ترتعد فرائص حكوماتها أمام ليبرمان ونتنياهو ومن لف لفهما. مماحكات كروية بين مشجعين مهووسين أثارت اهتماماً غير مسبوق في ثلاث دول تشكل، في مجموع سكانها، نصف سكان العالم العربي (الجزائر ومصر والسودان)، بينما لم نر أي تحرك، شعبي أو رسمي، تجاه الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى (الذي يهم ملياراً ونصف المليار مسلم) ومحاولة المستوطنين إقامة كنيس يهودي في باحته. الأوربيون معذورون إذا ما رضخوا للابتزاز الإسرائيلي، واستجابوا لطلب نتنياهو بتعديل مشروع القرار السويدي، ومعذورون أكثر إذا منعوا بناء المآذن بل وحتى المساجد، وزادوا من احتقارهم للعرب والمسلمين، فنحن نستحق إذلالا أكثر من ذلك.