حينما اعتقد الجميع أن صفحة جيش التحرير المغربي، بكل تناقضاتها، قد طويت إلى الأبد، ظهر رجل اسمه زكي مبارك، قادته الصدف إلى أن يضع يده على أخطر وثائق جيش التحرير حساسية. في سيرة زكي مبارك الكثير من الأحداث والشخوص. يقول إنه كان دائما يشتغل بجبة الأكاديمي، لكن خصومه من أحزاب الحركة الوطنية كانوا يعتبرونه «مؤرخا للمخزن». على كرسي «الاعتراف» يحكي مبارك قصة صراعه العنيف مع حزب الاستقلال، ويتذكر كيف خاطبه علال الفاسي يوما بلغة حازمة: إذا لم تبتعد عن هذا الموضوع -يقصد جيش التحرير- «تلقا راسك مليوح فشي بلاصة». على مدار حلقات طويلة يسرد زكي مبارك أحداثا عاشها مع المحجوبي أحرضان، علال الفاسي وإدريس البصري، ويشرح، بإسهاب شديد، كيف أصبح صديقا لعبد الله الصنهاجي، علبة أسرار عباس المساعدي، وكيف أخفى لمدة طويلة وثائق حساسة حول «ميليشيات حزب الاستقلال» والصراع العنيف بين محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية.. – قلت إنك وزعت كتاب «الإسلام أو الطوفان» ووضعت نسخة منه على مكتب الخطيب دون أن يعرف بالأمر. ما قصة هذا الكتاب؟ لا بد أن تعرف أني كنت من الأوائل مع إبراهيم الشرقاوي، الذين وزعوا الكتاب في المغرب، وقد حصلت على 15 نسخة منه، ولم أكن إطلاقا أدرك خطورة مضامينه. الكتاب طبع بمراكش ووزع بشكل سري، وقد أرسلت بعض النسخ إلى الأساتذة الجامعيين داخل كلية الأدب بالرباط. الآن، أتذكر الأمر وأبتسم: كيف يمكن أن تحمل كتابا ضد الملك الحسن الثاني وتضعه في مكتب الخطيب دون أن يكون هو حاضرا. في تلك الفترة كان كل شيء محاطا بالسرية التامة، ولم يكن يعرف بالأمر سوى مجموعة من المقربين من الشيخ عبد السلام ياسين. – ألم يتصل بك الخطيب؟ لا، لم يتصل بي، لكن بلغني أن الدهشة تملكته ولم يستطع أن يخفي استغرابه، ولن أخفيك سرا أن كتاب «الإسلام أو الطوفان» لم يكن الوحيد الذي كنا ننوي نشره، وهنا أتذكر أن الشيخ عبد السلام ياسين ألف كتابا باللغة الفرنسية بعنوان «La révolution à l heure de l islam «، أو «الثورة زمن الإسلام». وقد اتفقت معه على أن يطبع الكتاب بفرنسا، بمساعدة صديق لي يتوفر على مطبعة. وبالفعل، تم طبع الكتاب، بيد أن المخابرات الفرنسية حجزت على الكتاب ورأيت بعيني الرسائل المتبادلة بين مدير المطبعة وياسين حول الموضوع. مع ذلك، ظل ياسين هادئا. لا أعرف حقا كيف أصف الرجل، لكنه كان نبيلا جدا، وكان يكره أن يأتي إليه أحد ويقول له إن فلان سيء أو فعل شيئا سيئا. – يبدو لي غريبا أن لا تعتقلك السلطات، إذا كنت قد أفلتت المرة الأولى، من المستحيل أن تفلت في الثانية، لأن المخابرات الفرنسية، في كل الأحوال، كانت تنسق مع نظيرتها المغربية، ولاشك أنها عرفت بقصة توسطك لطبع الكتاب؟ لا ، ولم يسألني أحد. – وما الذي حدث مع الكثيري بالضبط؟ كنت حينها عضوا فاعلا في الجمعية المغربية للتبادل الدولي التي أسسها مصطفى الكثيري، وكان من بين أهم أنشطتها تنظيم شهر صداقة الشعوب بالجديدة. ومن بين أهم المؤسسين الطاهر المصمودي، الذي كان وزيرا للمالية، ومصطفى الساهل وزير الداخلية الأسبق، وحسن المنيعي والمهدي لمنبهي وبولال التازي… كانت جمعية ذات صيت كبير، واكتسبت شهرة وطنية ودولية، لكن سرعان ما طفت الكثير من المشاكل على السطح، حيث استاء الأعضاء من تصرف الكثيري، الذي كان يبحث، في نظرهم، عن الشهرة، وبدأ يدبر الجمعية بنوع من الاستبداد. – ماذا تقصد بتدبير الجمعية بنوع من الاستبداد؟ كان يتخذ القرارات بشكل انفرادي ولا يستشير أعضاء المكتب، وأتذكر جيدا أنه اكترى الفيلا التي كان يوجد بها مقر الجمعية دون علمنا. أفهم من كلامك أنه تورط في اختلالات مالية. لا، لم أقل ذلك، فقط كان يفعل ذلك دون علم المكتب. – بعد أن كنت وراء تنظيم أول ندوة ثقافية يؤطرها عبد السلام ياسين، هل بدأ يثق فيك «الشيخ» أكثر؟ نعم كان يحبني كثيرا لدرجة لا تتصور، والدليل أنه كان يشاطرني أمورا في غاية الحساسية والسرية. ولن أنسى كيف أنه قدمني إلى حمزة، شيخ الزاوية البودشيشية، بمدينة الدارالبيضاء. ربما لا تتمثل ما معنى أن تلتقي الشيخ حمزة في تلك الفترة، إذ كان الجميع يريد اللقاء به وزيارته، وقد قال لي بالحرف: سيكون لك شأن كبير في هذا البلد. ورغم أن عبد السلام ياسين كان مصرا أن أنضم إلى الزاوية، لكني لم أكن مقتنعا بتاتا، وقلت له وقتئذ إني سأكون مفيدا لو اشتغلت من خارج الطريقة.