تشهد بريطانيا هذه الأيام «زحمة» تحركات قانونية وسياسية متصلة بالحرب على العراق قبل ست سنوات ونيف، وتحاول التعرف على مدى «مصداقية» الأسباب التي أدت إلى التحاق رئيس حزب «العمال اليساري» طوني بلير بقافلة «المحافظين الجدد» اليمينيين الذين تحكموا كلياً في القرار الأمريكي طيلة عهد بوش الابن، وما زالوا يتحكمون فيه جزئياً اليوم في عهد باراك أوباما. فبعد اللجنة المستقلة التي جرى تشكيلها قبل أسابيع للتحقيق في أسباب الحرب ومبرراتها، والتي وقف وراء تشكيلها أكثر من 137 عائلة (هي عائلات الجنود البريطانيين القتلى في العراق)، سعت إلى محاكمة طوني بلير وأركان حكومته على دخولهم في الحرب غير المشروعة وغير القانونية وغير المبررة على العراق، تأتي تصريحات غولد سميث، المستشار القانوني السابق للحكومة البريطانية، حول رفض بلير القاطع لملاحظات قدمها إليه حول أن تلك الحرب تخالف القانون الدولي، وأن لا مبرر قانوني أو شرعي لقيامها، بل وإخفاء هذه الملاحظات عن حكومته ومجلس العموم، لتكشف أننا أمام كرة ثلج تتدحرج لتفتح ملف الحرب الاستعمارية اللعينة على العراق. وإذا أضفنا إلى هذه التحقيقات والتصريحات سيل المعلومات التي تتردد يومياً عن حجم الكارثة الصحية والبيئية في العراق التي تحولت إلى «قاتل لا ينتبه إليه أحد»، كما ورد في وسائل إعلام عربية وغربية، لأدركنا حجم جرائم الحربين اللتين شنتهما دول التحالف بقيادة الولاياتالمتحدة ضد العراق عامي 1991 و2003، بالإضافة إلى جريمة الحصار والإبادة الجماعية التي ارتكبها «المجتمع الدولي» في حق العراق منذ عام 1990 وحتى الآن، متذكرين أن أول العقوبات الأمريكية على العراق صدرت قبل غزو الكويت في 2 غشت 1990. إن جرائم الحرب الاستعمارية ضد العراق لم تفرق بين أهل الفلوجة، حيث تشهد ارتفاعاً كبيراً في حالات المواليد الذين يولدون موتى أو مشردين أو مصابين بالشلل بسبب استعمال الأسلحة المحرمة دولياً في معركتي الفلوجة عام 2004، وفي مقدمتها الفوسفور الأبيض، ولا بين أهالي البصرة، ثاني أكبر مدينة عراقية، حيث تتكاثر التشوهات بين المواليد والمشاكل الصحية، ناهيك عن أنواع من السرطان لم تسجل في العراق قبل حرب 2003 مثل أنواع سرطان الألياف والعظام، وحيث يرتبط انتشار هذه الأمراض باستخدام القوات الأمريكية لليورانيوم المستنفذ منذ حرب 1991. وإذا أضفنا إلى هذه الجرائم كلها جرائمَ القتل الجماعي على أيدي قوات الاحتلال، وجرائم التعذيب، وجرائم الإعدام في ظل محاكمات صورية، بما فيها إعدام الرئيس الشرعي للعراق صبيحة أول أيام عيد الأضحى، واتساع نطاق التفجيرات الدموية التي إن لم يكن الاحتلال وأعوانه وراءها، فهم، حسب الاتفاقيات الدولية، مسؤولون عنها. نستطيع أن ندرك كم هو كبير ملف جرائم الحرب، والحرب ضد الإنسانية في العراق، وكم يحتاج إلى لجان تحقيق دولية نزيهة ومحايدة تفتح الطريق لمحاكمات تشبه محاكمات نورمبرغ لأركان النازية الألمانية، فجرائم الاحتلال الأمريكي في العراق وأفغانستان، وجرائم الاحتلال الصهيوني في لبنان وفلسطين، لا تختلف لا بالنوع ولا بالكم عن جرائم النازية في الحرب العالمية الثانية. إن إطلاق حملة قانونية وسياسية وإعلامية لمحاكمة مجرمي الحرب في العراق والمنطقة وقيام مؤسسات للمتابعة من قبل حقوقيين وقانونيين يبدوان اليوم مهمة وطنية وقومية ودينية وإنسانية على حد سواء، وإن الفرص باتت متاحة لخوض معركة في هذا الإطار. بالأمس، كشف غولدستون المستور في حرب غزة. واليوم، يمكن الانطلاق مما كشفه غولد سميث عن المستور في حرب العراق لبدء معركة قانونية واسعة النطاق. فهل لدينا مسؤول عربي واحد يجرؤ على قرع الجرس؟ بل هل لدى المؤسسات العربية والدولية إرادة مستقلة وشجاعة تمكنّها من فتح الباب أمام محاكمة لا بد منها لمجرمي حروب لم تشهد لهم البشرية مثيلاً.