لم يكن أحفاد يوسف بن تاشفين في مثل زهد جدهم وعلو همته، وقد استشرت في أيامهم الكثير من مظاهر الانحلال فكان من البديهي أن يدب الوهن في أوصال دولتهم وأن تميل شمسهم للمغيب، وقد خلفهم الموحدون في حكم المغرب والأندلس وبلاد السودان، وكان الأساس الذي قامت عليه دعوتهم منذ بدايتها تقويم الانحراف الذي اعترى عصبة المرابطين في أواخر أيام حكمهم، وكان لهذه الدعوة صدى عميق في نفوس المغاربة، الذين تكتلوا حول الموحدين وأسلسوا لهم القياد فلم يلبثوا غير يسير من الوقت حتى دان لهم المغرب بالطاعة. الموحدون يخططون لغزو الممالك الإسبانية من الجدير بالذكر أن بلاد الأندلس سرعان ما عادت إلى سيرتها الأولى بعدما سرى الضعف في جسد الدولة المرابطية، وبعد أن انشغل الموحدون ببناء دولتهم عن الأحداث التي تدور في عدوة الأندلس، ولعل ذلك ما أغرى بعض وجهاء الأندلس بالانقضاض على بعض الحصون والمدن، يعينهم على ذلك أمراء الممالك الإسبانية الذين كانوا يتربصون الدوائر بالوجود الإسلامي. لقد قاد ابن سعد، أمير بلنسية، معارك طاحنة بمساندة قشتالة وأراجون ضد العنصر المغربي بالأندلس ومُني بالهزيمة في موقعة «مرج الرقاد» وموقعة «السبيكة» ولم يحل ذلك دون مواصلة الصليبيين تأليبه على إخوانه، وتمويل حروبه، كل ذلك سيدفع عبد المومن بن علي الكومي الموحدي إلى التحرك لاستئصال شأفة الصليبيين بعد استفحال خطرهم، ولتحقيق هذه الغاية سيحشد جيشا جرارا قوامه ثلاثمائة ألف فارس ومائة ألف راجل وأسطولا لم يشهد له المشرق ولا المغرب مثيلا، مؤلفا من أربعمائة سفينة ضخمة لمحاصرة شواطئ الإسبان، وإعادة الاستقرار إلى المنطقة، غير أن الحملة لم تحقق أهدافها بسبب مرض عبد المومن ووفاته في مرضه ذاك عام 558 هجرية، فأعلن خليفته عن تأجيل العمليات العسكرية إلى أن تستقر الأوضاع. ويبدو أن الحملة رغم فشلها في تحقيق أهدافها الميدانية، إلا أنها حققت مجموعة من المكاسب للموحدين وأهمها وقف الأطماع الصليبية بالأندلس ولو بشكل مؤقت، فالدولة القادرة على تجنيد أربعمائة ألف مقاتل وتمويل حركتهم وتدبر وسائل نقلهم من خزينتها، لا شك وأنها دولة يحسب لها ألف حساب، وقد رغب خليفة عبد المومن الملك يوسف بن عبد المؤمن في السير على نهج والده، غير أنه سيخفق وسيقتل في مواجهة بطولية مباشرة مع الصليبيين، بعد أن خلصت إلى خيمته كتيبة من الجنود بسبب خطأ تكتيكي قاتل ارتكبه أصحابه أثناء انسحابهم من حصار شنترين، فتصدى للكتيبة بنفسه وجند عددا كبيرا من فرسانها قبل أن يسلم الروح لباريها بسبب طعنة في بطنه. الإسبان يستفزون العاهل المغربي مع توالي الثورات في إفريقيا، سيصرف الموحدون جهودهم لإعادة الاستقرار في البلاد الخاضعة لنفوذهم، وسيؤجلون قضية الأندلس إلى حين إحكام قبضتهم على باقي البلدان، وقد شكل انشغالهم بأوضاعهم الداخلية فرصة سانحة للممالك الإسبانية كي تعاود الظهور على مسرح الأحداث وكي توحد صفوفها من أجل شن حملات الاسترداد من جديد ومع تعيين «مارتن دي بسيرجا» مطرانا لطليطلة، بدأ الإعداد لحملة شاملة على بلاد الأندلس، وانطلق فرسان النصارى يعيثون في الأرض فسادا فخربوا القرى واعملوا السيف في رقاب النساء والصبيان دون تمييز وقطعوا الأشجار والكروم، ويبدو أن أهواء المطران مارتن وافقت أهواء الملك ألفونسو الثامن، فاتحدا على هدف طرد المسلمين من الأندلس. كان الملك ألفونسو يعلم يقينا أنه لا يحارب أمراء الأندلس الضعفاء، كما أن أسلافه قبل الزلاقة لم يقيموا لهم وزنا، وكان يدرك أن المغاربة سيهبون للدفاع عن الأندلس مع أول بادرة هجوم على أقاليمها الإسلامية، ولهذا سيوجه سفراءه إلى خصمه مباشرة وسيقرأ أتباعه رسالته التي شحنها بكل عبارات الاستفزاز داخل بلاط المنصور الموحدي، وكل غايتهم جر الموحدين إلى معركة فاصلة يحدد على ضوئها مصير الأندلس، ومما كتب في رسالته «فإنه لا يخفى… أنك أمير الملة الحنيفية كما أني أمير الملة النصرانية، وقد علمت الآن ما عليه رؤساء أهل الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية، وإخلادهم إلى الراحة وأنا أسومهم بحكم القهر وجلاء الديار، وأسبي الذراري وأمثل بالرجال، ولا عذر لك في التخلف عن نصرهم إذا أمكنتك يد القدرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، فالآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا، لا تستطيعون دفاعا، ولا تملكون امتناعا. ها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك وأعتذر لك وعنك، على أن تفي بالعهود… وترسل إلي جملة من عبيدك بالمراكب وأجوز بجملتي إليك، وأقاتلك في أعز الأماكن لديك». ويبدو أن اختيار الكتابة بهذا الأسلوب لم يكن اختيارا عابثا بل كان اختيارا ذكيا حاول ألفونسو من خلاله فرض توقيت معين للمعركة على المعسكر المغربي، فالموحدون كانوا منشغلين بإخماد الثورات، وما إن وصل خطاب العاهل الإسباني إلى البلاط الموحدي، حتى استشاط المنصور غضبا وأمر أن يكتب على ظهر رسالة ألفونسو ما يلي: «((ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون)) الجواب ما ترى لا ما تسمع» وكان جواب المنصور بمثابة إعلان للحرب من الجانب المغربي ردا على الاستفزاز الإسباني.