بعد معركة العقاب التي انهزم فيها الموحدون، تناثر عقد الدولة الموحدية وانقضت الممالك الإسبانية على حصون ومدن الأندلس واحدة بعد أخرى، وأعلنت معارك الاسترداد داخل أوربا المسيحية بدعم من البابوية، كل ذلك خلق أجواء من الكراهية تجاه الموحدين، ودفع سكان الأندلس إلى معاداتهم وتحميلهم مسؤولية الحملة الصليبية المستعرة ضد الوجود الإسلامي على أراضيهم، وهكذا سيدب الخلاف بين المسلمين، وسيتولى ابن محمد بن يوسف بن هود قيادة الحملة المناهضة للوجود الموحدي في عدوة الأندلس، غير أنه لم يكن الوحيد الذي يطمح لقيادة الأندلس من خلال مناهضة الموحدين فسينازعه محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر الزعامة، وستنشأ بينهما منافسة حادة استغلتها الممالك الإسبانية لتحقيق مزيد من التوغل في الأراضي الخاضعة للمسلمين، وسينكمش الوجود الإسلامي تبعا لذلك إلى أن ينحصر في غرناطة، وفي تلك الفترة كان نجم المرينيين قد بزغ في المغرب الأقصى واستطاعوا في ظرف وجيز أن يعيدوا الاستقرار إلى ربوع المغرب، وحيث إن قضية الأندلس كانت حاضرة على الدوام في قلوب المغاربة، فما هي إلا فترة قصيرة بعدما استتب لهم الأمر حتى اشرأبت أعناقهم نحو العدوة الأندلسية، لا سيما وأن السفارات الواردة عليهم من حكام غرناطة كانت تحمل أخبارا سيئة، وظلوا يتحينون الفرص للقيام بواجبهم تجاه إخوانهم إلى أن وردت رسل ملك غرناطة المعروف بالفقيه، تحثهم على الجواز إلى غرناطة للدفاع عنها. التفرغ للعدوان الإسباني حين وصلت سفارة ابن الأحمر إلى الملك المغربي يعقوب المنصور المريني، كان المغرب يعيش على وقع اضطرابات سياسية خطيرة، فقد شن يغمراسن حربا ضروسا على أطراف الدولة المرينية من الجهة الشرقية، ولم تكن الظروف بالأندلس نفسها ملائمة لعبور المرينيين، إذ شب خلاف حاد بين ابن شقيلولة صاحب مالقة وابن الأحمر وكان من المرجح أن ينضم الأول إلى الإسبان متى جاز المنصور برجاله لنصرة غريمه، غير أن حنكة المنصور ستذلل كل تلك الصعاب، إذ سيراسل يغمراسن ليطلعه على مستجدات الوضع بالأندلس وسيضعه أمام مسؤولية تاريخية جسيمة، فلا معنى آخر لاستمرار حملاته على المرينيين غير أنه يفتل في حبل الإسبان أعداء ملته، وقد استجاب يغمراسن للصلح ليفرغ بذلك المنصور للقضية الأندلسية بكليته، وستظهر حنكة المنصور العسكرية حين قرر إرسال جيش من خمسة آلاف مقاتل تحت إمرة ولده أبي زيان لسبر غور الخصوم ولاختبار صدق الأندلسيين في الحرب على عدوهم، إذ لم يشأ الدفع بكل قواته إلى ساحة المعركة وفي نفس الوقت راسل أبا القاسم العزفي صاحب سبتة ليسهل عبوره نحو الجزيرة الخضراء، فأعد له المراكب وأعانه في تجهيز الجيش لتكون بقية القوات في حالة طوارئ قصوى. لم تنقطع المراسلات بين المنصور وولده وصار يتابع تحركاته داخل بلاد الأندلس لحظة بلحظة، ويجس نبض غريمه يغمراسن صاحب تلمسان في نفس الوقت، ليتأكد من مدى التزامه بالصلح، وحين وردت عليه أخبار انتصارات أبي زيان المتتالية، قرر العبور إلى الأندلس ليخوض معركة الحسم ضد الملك الإسباني ألفونسو وصهره «دون نونيو»، الذي تواترت الأنباء عن جمعه لحشود ضخمة لمواجهة الحملة المرينية. ومن الجدير بالذكر هنا أن مناورات أبي زيان وإن لم تحقق انتصارات عسكرية كبيرة، إلا أنها حققت ما هو أهم من ذلك بكثير، لقد رفعت الروح المعنوية للأندلسيين، وهؤلاء ظلوا لعقود طويلة يعتقدون ألا خلاص لهم إلا بتقديم المزيد من التنازلات لعدوهم والتخلي عن المزيد من الحصون، وبمجيء المرينيين تهاوت أمام أعينهم أسطورة الجيوش الصليبية التي لا تقهر، وفضلا عن ذلك سيؤدي ظهور العنصر المريني على مسرح الأحداث الأندلسية إلى تقارب الفرقاء الأندلسيين، ومع وصول المنصور إلى الجزيرة الخضراء في الحادي والعشرين من شهر صفر من سنة 674ه سيحرص على صيانة هذا التقارب وسيشرف بشكل شخصي على عقد الصلح بين ابن الأحمر وابن شقيلولة. الإسبان يهرولون إلى الصلح على مقربة من قرطبة يوم 15 ربيع الأول من سنة 674ه، سيلتقي المنصور بالجموع التي حشدها العاهل الإسباني، وسيكون نصره عليها ساحقا إذ سيلخص إلى قائد الجيوش دون نونيو نفسه وسيقتله، ومن المؤسف أن الرسالة التي كتبها المنصور ووجهها إلى أقطار العالم الإسلامي ليصف للناس مجريات الأحداث في معركة «استجة» قد ضاعت من ضمن ما ضاع من وثائق تلك الحقبة، غير أن المصادر التاريخية ستحفظ وثيقة لا تقل عنها أهمية، وهي عبارة عن رسالة كتبها أبو القاسم العزفي عن وقائع المعركة، وفيها يصف أحداث استجة بإسهاب ويذكر فداحة الخسائر الإسبانية، ومن المفيد أن نذكر أنه بعد هذه المعركة التي ردت الاعتبار للمغاربة، سيتلقى المنصور سفارة هامة من طرف ملك قشتالة يترأسها كبار القسيسين والرهبان، وقد حملت إليه رغبة الإسبان في الصلح، إلا أن السلطان المغربي رفض توقيع الصلح ووجه السفارة لابن الأحمر كنوع من المجاملة، مذكرا الوفد الإسباني أنه ضيف على ملك غرناطة، فكان أن استأذنه ابن الأحمر في قبول الصلح فأذن له المنصور، ومن المثير للدهشة أيضا أن نذكر أنه بعد هذا النصر المشهود، سترد على المنصور سفارة هامة من ابن شقيلولة صاحب مالقة يطلب منه فيها أن يستلم منه إمارته ويخيره بين ذلك وبين تسليمها للإسبان، لأن الخصومة بينه وبين ابن الأحمر استحكمت ولا يمكن بحال أن يسلمه الإمارة، وما كان من المنصور إلا أن قبل عرضه على مضض وكان دخوله إليها عام 676ه0 لقد استعاد المغرب مكانته بين الدول بعد معركة استجة واسترجع دوره في التأثير في محيطه الإقليمي، والأهم من هذا وذاك أنه وظف هذا التأثير في رفع الحصار الإسباني عن غرناطة وأعاد لأهلها الأمن والسلام، بعد أن صارت حملات الاسترداد قاب قوسين أو أدنى من تقويض أركانها.