قبل ظهور «الإنترنيت» و»فايسبوك» و»يوتوب» و»الطابلات» و»سمارتفون» وغيرها من «البدع» التي «يَجيب» بها الشباب «المغرب» هذه الأيام. كنا نقضي نهارات رمضان في «الكولفازور». بمجرد ما نستيقظ نذهب إلى «البيار». نصفّف الكرات المرقّمة داخل مثلث ونقصفها بكرة بيضاء، قبل أن نشرع في مطاردتها بعصي طويلة، كي ندخلها في الحفرة واحدة واحدة بعد «بانضا» أو «جوج بانضات».. الجولة الواحدة بدرهمين. إذا لم يكن عندك ما يكفي من نقود تكتفي ب»البايبي فوت» مع «بوزبال»، وكنا نسميه «البيّار». الكرات من «الفرشي»، مصبوغة بالأبيض، تتفتت مع مرور الأيام، لكن ذلك لا يمنع المواجهات من أن تكون ساخنة، خصوصا حين يكثر «التفرفير» و»التزلاق» و»القرص» و»العض»… وكلها تسميات عدوانية لطريقة التحكم في الكرة، التي يتفوق فيها أبناء الأحياء الشعبية، ولا يعرف عنها «كيليميني» أي شيء. في النهاية تكتشف أن يديك أصبحتا مثل شباط، عفوا مثل «الميكانيسيان»، سوداوين بسبب «لاغريس»، فتضطر إلى غسلهما في أول «سقاية «عمومية. كنا نلعب «البينغ بونغ» أيضا. ربع ساعة بدرهمين… كثير من المواطنين كانوا يعيشون من هذه الألعاب التي انقرضت، ومن صالات الرياضة وكمال الأجسام، التي كان يتقاطر عليها الشباب بالآلاف، خصوصا في المدن الصغرى والأحياء الشعبية. كان المغاربة في الثمانينيات يقضون مراهقتهم في تربية العضلات وتعلم «الكاراتي» و»التيكواندو». الكل يريد أن يصبح سيلفيستر ستالون وشوارزينغر وجاكي شان وبروس لي. الشاب المثالي هو الذي يمشي نافخا صدره إلى الأمام، ويعطي الانطباع بأنه يحملا سطلا ثقيلا في كل يد، ويقوم ببعض الحركات الخطيرة في الشارع دون سبب. البعض كان يلجأ إلى التهام حبوب تساهم في نفخ الجسد بسرعة. نوع من المنشطات الرخيصة، التي تكبّر العضلات وتقصّر الحياة، ولا أحد كان يدرك خطورتها. آخرون كانوا يدهنون أذرعهم وصدورهم بمراهم غريبة كي تصير بارزة ولامعة. بالموازاة مع التداريب اليومية والمنشطات الرخيصة، كان المهووسون بعضلاتهم يتبادلون مجلات «كمال الأجسام». مجلات مصورة، بلغات لا يفهمها أحد، الإنجليزية أو الألمانية أو الروسية، على صفحاتها الملونة رجال ونساء بأجساد مخيفة، يستعرضون عضلاتهم البشعة ذات النتوءات المقززة في ملتقيات دولية. العالم كان غابة، في تلك الثمانينيات البعيدة، والعيش فيه يحتاج إلى عضلات! أذكر ذلك الصيف الرمضاني، الذي قضيته في «البيار» رفقة صديقيْ الطفولة محمد وياسين. كنا ننام إلى العصر وحين نستيقظ نذهب رأسا إلى قاعة الألعاب، وفي الليل نلعب «الكارطا» أو «الرامي» حتى الساعات الأولى من الصباح… ولعل أكثر شيء كان يؤرقنا هو هاجس الحصول على نقود لتأمين جولات محترمة من «الكولفازور». الدراهم التي نحصل عليها من آبائنا تتبدد بسرعة. كنا دائماً نحتاج إلى نقود. ذات يوم، أراد محمد أن يحلق شعره فأعطاه جده عشرة دراهم. بدل أن يهدر هذه الثروة المحترمة لدى الحلاق، اقترحنا عليه أن نحول الدراهم إلى خمس جولات من «الكولفازور»، ونتكفل، نحن الاثنين، بقص شعره المجعد. بدا متوجسا لكننا استعملنا كل الأساليب كي نقنعه بأن الفكرة جهنمية. في المساء، بعد الإفطار، كنا في الغرفة التي بناها ياسين بيديه على سطح بيتهم، وقد حولناها بالمناسبة إلى صالون حلاقة. كل العتاد هنا: مقصات بأحجام مختلفة، أمشاط مستديرة ومستطيلة، «سيشوار»، «طوندوز»، «رازوار» من نوع «مينورا» كي تكون «الفينيسيون» على مستوى احترافي، مثلما ظل يردد ياسين، الذي زركش قنينة ماء معدني بالثقوب كي يرش الماء على رأس «الزبون» كما يفعل أي حلاق محترف. وضع ياسين على صدر محمد «طابلية» بيضاء قديمة، تعود لوالده الذي كان يشتغل ممرضا، وأشهر «الطوندوز» مبتسما: «إيوا كيجيتك؟ حلاق ولا ماشي حلاق؟» ثم تعالت قهقهاتنا… بعد «الطوندوز»، بدأ يسدد ضربات مقص رشيقة تتناقص معها شعكوكة محمد بشكل لافت. كانت في الغرفة خزانة، بها كتب مشتتة، أخذت واحدا بعد أن أغراني غلافه الذي يحمل صورة شاب وفتاة على دراجة نارية ضخمة، عنوانه»La mort sans bruit»:. انهمكت في القراءة. رواية بوليسية تافهة، لكنها مشوقة وبفرنسية سهلة، ما جعلني أغرق في مغامرات البطل، الذي دخل إلى الثانوية بمسدس وأخذ المدير رهينة وطالب بأن يحضروا له الفتاة التي يحب، وحين جاءت أركبها معه في دراجته النارية وفر بعيدا، وتعقبته الشرطة… تشوقت لمعرفة مصيره، وفكّرت بالمناسبة أن اصنع الشيء ذاته مع الفتاة التي أعشق منذ ثلاث سنوات، غير أن ياسين الحقير أوقف مخططاتي، فجأة خطف من يدي الكتاب وسلمني المقص طالبا مني أن أكمل الحلاقة بدعوى أنه يريد الذهاب إلى المرحاض، دون أن أستوعب لماذا كان يتمايل من الضحك. أبديت اعتراضا بحجة أنني أريد أن أنهي الكتاب، فقال لي وهو يكتم قهقهاته: «خذه معك، غير كمّل ليه الحسانة»… وجدت العرض مغريا، انصرف ياسين إلى «بيت الماء»، وشرعت في تأمل رأس محمد كي أعثر على الزاوية التي سأسدد منها ضربة المقص، استوقفتني «حفرة» يظهر منها جلد رأسه بوضوح وسألت محمد بعفوية: «عندك شي تفليقة هنا؟»… فوجئ المسكين ووضع يده في «الحفرة» وهو يردد بنبرته المضحكة: «فارّاها؟ فارّاها؟» (أينها؟ أينها؟) عندها فقط فهمت لماذا أصرّ ياسين أن أكمل الحلاقة بدلا عنه، ولماذا كان يضحك: لقد استعمل «الرازوار» أثناء «الفينيسيون» وصلّع للمسكين جزءا من الرأس ثم غطاه بالزغب وانصرف وهو يضحك. حاولت أن أهدئ محمد، لكن ملامحه تبدلت وتطاير الشعر من رأسه والشرر من عينيه ثم غادر الغرفة وهو يشتم ويتوعد وعلى رأسه خريطة اليابان… وضاعت خمس جولات من «الكولفازور»!