لأن النهار طويل ومليئ بالزغب، يقضي الحلاق وقته في الثرثرة وهو يحرث رؤوس العباد بالمقص والموسى و»الطوندوز». الأحاديث التي تسمعها عند «الحجّام» لا يمكن أن تعثر عليها في مكان آخر. يروي قصصا مسلية وأخرى مملة، نكتا مضحكة وسخيفة احيانا، يسأل دون ان ينتظر جوابا، وبعضهم ينشر «أعراض الناس» على وقع القهقهات وضربات المقص، يتعامل مع رؤوس الزبناء كما يتصرف بائع الخضار مع حبات البطيخ! لحسن الحظ، منذ ان فعل الزمن فعلته برؤوسنا وفرّق بين الزغبة وأختها بسنتيميترات محترمة، صارت المدة التي نقضيها في صالونات الحلاقة أقصر. دقائق معدودة تكفي كي يعالج المقص الرشيق زغباتنا الخفيفة. أيام كان الشعر يتبختر على الأكتاف، لم يكن ينفع مع سوالفنا الطويلة إلا «الطوندوز» في نسخته اليدوية، يمسك الحلاق بمفكيه ويشرع في جز خصلاتنا الكثيفة مثل خرفان صغار، يحرثه من الأعلى الى الأسفل ومن الأسفل الى الأعلى، محدثا ذلك الصوت الذي مازال يرن في آذان اجيال بكاملها، بالتناغم مع حركة «الطوندوز». احيانا تشد الآلة على الجلد او تجر بعنف كومة من الشعر لدرجة تطفر معها الدموع في العيون، كنا نعود دائماً ببثور حمراء على الرقبة، بسبب العتاد العتيق غير المعقم. كان الدخول عند الحلاق، أيام الطفولة، يشبه الذهاب الى حصة تعذيب. يقتادنا الكبار رغما عنا ونحن نبكي، وعلى سبيل التعويض يشترون لنا الحلوى وساعة مزيفة أو قطا من البلاستيك، «المش ديال الميكا»، بخدوده المنفوخة وعينيه الجامدتين، قط سخيف لا يتحرك ولا يفعل اي شيء كان يضحك به الكبار على الصغار في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم! في المراهقة صرنا نذهب لوحدنا عند «الحجام». تعطيك أمك النقود وتصرخ فيك: «سرْ زوّل عليا هاد الغوفالة»!في معظم الأحيان نذهب جماعة عند أرخص حلاق كي يتفنن في رسم خرائطه العجيبة على رؤوسنا الصغيرة. أرخصهم بدرهمين. نصل جماعة الى المحل ونجلس في انتظار دورنا، صامتين متوجسين كأننا في فصل دراسي. في النهاية نخرج من عنده بتسريحة سخيفة نسميها «تحسينة الزلافة»، ونسخر من بعضنا البعض، لكننا نوفر درهما او نصف درهم، وذلك اهم شيء لان الشعر سيكبر مجددا. كان ياسين شيطاناً حقيقياً وقرر ذات يوم ان ينتقم باسمنا جميعا من «الحجام» الذي نجد أنفسنا مضطرين الى تسليمه رؤوسنا، رغم عتاده الصدئ وخرائطه المزركشة، لا لشيء الا لسعره الزهيد. عندما أنهى الحلاق شغله على رأس ياسين، بدل ان يعطيه درهمين، وضع الشيطان في يده خمسين سنتيما وأطلق سيقانه للريح. تبعناه مثل عصابة لصوص، فرحين بالغنيمة. ذهبنا رأسا عند عبد الرحمان «الشفانجي» والتهمنا «شفنجات» ساخنة مازال طعمها الشهي في فمي، كلما تذكرته يسيل لعابي رغم كل هذه السنوات! الحلاق الذي أسلمه رأسي اليوم في باريسباكستاني، عثرت عليه بالصدفة في تقاطع الدائرتين العاشرة والثالثة، غير بعيد عن بيتي. صحيح ان باريس عاصمة الموضة وفيها أمهر الحلاقين، لكن أسعارهم مؤلمة ولم يعد عندي شعر يستحق أن أخسر عليه ربع الراتب. اعتقد انني أصبحت وفيا لهذا الحلاق بسبب»بطاقة الوفاء» التي سلمني إياها من اول يوم زرته، نعم «كارت فيديليتي»، مستطيل من الورق المقوى يشبه «الكارت فيزيت»، مرسوم عليه شاب بشعر كثيف، وخلفه مربعات صغيرة يضع عليها الباكستاني طابعا كل مرة أحلق عنده. أسلمه سبع أورو ومعها البطاقة العجيبة، وبعد أن يمهرها اخبئها بعناية في حافظة النقود، جنب بطائق البنك والهوية والصحافة والتأمين… الشخص المرسوم على «الكارت» يملك شعرا أشقر، رغم انني لم أصادف يوما في المحل جنسا آخر غير «كحل الراس»، لكن الشعر الأشقر المنسدل اكثر قدرة على جلب الزبناء من الأسود المجعد والمنفوش. صحيح أن الحلاق باكستاني لكن المحل فرنسي، ومارين لوبن شعرها أشقر و بنت اختها ماريون أيضاً، سوالفها شقراء ناعمة عكس خطاباتها العنصرية ضد المهاجرين، والفرنسيون لا يرون مستقبلهم الا مع اليمين المتطرف، يمين ابيض بشعر أشقر طويل، لم يتردد الحلا الباكستاني في رسمه على «الكارت فيديليتي»! عندما أكمل «الطبعة» العاشرة على «بطاقة الوفاء» اربح «تحسينة» مجانية. الحياة السعيدة. أخرج فرحا كأنني كسبت «الاورو-مليون». غريب امر بني آدم: يعشق كل ما هو مجاني، يموت على «الفا»… الفابور عند حلاقي الباكستاني لا يقتصر على «التحفيفة» العاشرة، بل يشمل حصة «الوان مان شو» التي يقدمها بالموازاة مع ضربات المقص، يحكي قصصا غريبة عن القاعدة وطالبان ونواز شريف، وعن محنة أهله الشيعة الذين يتعرضون لاعتداءات المتطرفين… شعره اسود فاحم ويتحدث فرنسية مكسرة، لكنها أفضل كثيراًمن فرنسية بني بلده الذين يبيعون الورد والبلوط أمام محطات المترو. الجمعة يذهب الى «حسينية» في شارع «فوبور سان دوني» كي يمارس طقوسه الدينية الحزينة، كما يصنع اي شيعي محترم! في الأسابيع الاخيرة اختفى صديقي الحلاق، لم أعد اصادفه في المحل، وأخبروني انه سافر الى باكستان. اصبح كل مرة يقص لي شعري شخص لا أعرفه. هكذا تناوب على رأسي حلاقون من تونس والجزائر والمغرب ومصر وسوريا… حتى صار رأسي أشبه بالجامعة العربية. آخر مرة وجدتني بين يدي شاب تونسي ثرثار وكذاب، ادعى دون مناسبة انه ورث المهنة عن أبيه، وهو حلاق في مرسيليا، قبل ان يقول إن أخاه أيضا يملك محل حلاقة في بوردو، وبعض عدة ضربات مقص أضاف لأملاك العائلة محلاً في نيس وآخر في كان… كانت يده متوترة، كأنه يخفي شيئا، عندما رأيته يهيء شفرة الحلاقة شعرت بالخوف. خشيت أن يمرر سكينه على رقبتي، عن قصد او غير قصد. لكنني انتهيت بان لعنت الشيطان، كما لعنت «بطاقة الوفاء» وحقارتي المتأصلة التي جعلتني اقصد محل حلاقة باكستاني في عاصمة الموضة العالمية!