عاما واحدا فقط على تأسيسه، لم يدع تنظيم «الدولة الإسلامية» المناسبة تمر دون أن يوقع عليها بالدم والدموع.ففي عمليات كبرى لاستعراض قوته، هز أتباع التنظيم ومناصروه مواقع مدنية بثلاث عمليات انتحارية في ثلاث قارات الجمعة الماضية، مخلفين عشرات القتلى ومئات الجرحى. والأكثر إثارة للرعب أن داعش لم يعد يكتفي بمفاجأة العالم بعملياته، بل دشن أسلوبا جديدا في العمل الإرهابي من خلال الاعلان عن مكان وزمان عملياته القادمة لإبراز قوته، ما جعل أمريكا تحذر مواطنيها من عمليات إرهابية محتملة في يوم عيد الاستقلال الذي يحل بعد أيام. يأتي ذلك فيما أطلق التنظيم في صباح يوم السبت الموالي عملته النقدية رسميا على كامل التراب الذي يسيطر عليه، في خطوة رمزية على أنه ماض في استكمال بناء «الدولة»، وحتى يثبت للعالم أن الضربات الجوية التي يقودها التحالف ضده لم تنل منه. فمن أين يستمد هذا التنظيم الأخطبوطي قوته؟ وإلى أين يسير بالعالم؟ لقد حققت داعش انتصارات، وتعرضت لهزائم ولقصف بلا هوادة، إلا أنها لا تبدو أضعف. هكذا تلخص مجلة «تايم» الأمريكية.الوضع وبالفعل، فبينما تراجع بريق «القاعدة» بين الجهاديين عبر العالم، تبدو أسهم داعش في ارتفاع متواصل. ولعل الضربات القوية للجمعة الماضي في ثلاث قارات، والتي يشتبه في أن تنظيم الدولة يقف وراءها جميعا [اعترف فقط بعمليتي الهجوم على منتجع سوسة في تونس، وتفجير المسجد الشيعي بالكويت]، مع ما تلاها من تداعيات خطرة تكشف بما لا يدع مجالا للشك أن التنظيم الإرهابي آخذ في حبس أنفاس العالم، على الرغم من الضربات الجوية التي يتلقاها من طائرات التحالف الدولي. فصل من حرب «داعش» المفتوحة وفي تحليل الحدث، قالت مجلة «تايم» الأمريكية في تقرير أوردته على موقعها الإلكتروني يوم السبت الماضي، إن أحداث الجمعة تأتي عقب أيام فقط من مناشدة المتحدث باسم تنظيم «داعش»، أبو محمد العدناني، مؤيدي التنظيم في جميع أنحاء العالم لتحويل شهر رمضان المبارك إلى «وقت كارثة للكفار.. الشيعة والمسلمين المرتدين». وأوضحت المجلة الأمريكية نفسها بأنه منذ أن رسخ «داعش» أقدامه في سوريا عام 2013، ظل مقاتلوه يركزون على كسب مزيد من الأرض وفرض سيطرتهم عليها ، على عكس تنظيم القاعدة ، الذي تجنب شن هجمات خارج مسرح عملياته المباشر، وربما في سياق ذلك يندرج هجوم الأسبوع الماضي على مدينة كوباني الكردية المنكوبة، عندما تسللت مجموعة من مقاتلي «داعش» إلى البلدة الكردية، التي كانوا قد اضطروا للخروج منها في وقت سابق من هذا العام، وربما لم يكن هجوم «داعش» على كوباني محاولة لاسترجاعها، بل كان فقط هجومًا عقابيًا على فقدان التنظيم للمدينة. وهو هجوم أسفر عن مقتل أكثر من 120 مقاتلًا ومدنيًا كرديًا. وتطرح مصادر إعلامية غربية تبعا لتسلسل الأحداث افتراضا مفاده أن الهجمات على كل من كوباني وفرنسا وتونسوالكويت لا يبدو أن لها أي غرض عسكري، بل لعلها تشير فقط إلى أن «داعش» قرر مواصلة حربه من أجل توسيع تواجده على الأرض بالموازاة مع حربه ضد «عالم الكفرة» الذي يشمل الجميع تقريبًا. أما الصحافة الفرنسية فقد استنتجت بأنه مع هجوم الانتحاري ياسين الصالحي الجمعة على مصنع للغاز قرب مدينة ليون، «لن يعود سكان القرى [الفرنسية] من الآن فصاعدا في مأمن». في إشارة إلى أن العمليات الإرهابية كانت تستهدف في العادة المدن الكبرى، وخصوصا العاصمة باريس حيث تتركز المصالح الحكومية والبعثات الدبلوماسية والمنشئات الهامة؛ فصارت يد الإرهاب منذ ضربة الجمعة تطول كل شيء وفي كل مكان. إن التطورات المتسارعة للأحداث تدعو المتتبع إلى التوقف عندها يتمعن من أجل كشف سر قوة هذا التنظيم الذي تغول على العالم في زمن قياسي، بحيث بات الجميع عاجزا عن دحره رغم أنه ─ عكس تنظيم القاعدة، مرة أخرى ─ له «دولة» تتواجد فيها قواته على الأرض. خصوصا في ظل احتفاظ الولاياتالمتحدةالأمريكية بقواعد عسكرية فوق التراب العراقي. من أين يستمد «داعش» قوته؟ قبيل سنة واحدة مرت، بدا تنظيم داعش وكأنه خرج من حيث لا أحد يعلم. ففي 29 يونيو 2014، أعلن زعيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أبو بكر البغدادي نفسه خليفة على المسلمين، يترأس «خلافة على منهاج النبوة» على أرض الدولة المسلمة التي تمتد بين سورياوالعراق. كان البغدادي يتحدث حينها من مدينة الموصل، التي كانت قواته قد انتزعتها أسابيع.قليلة من قبل من الجيش العراقي الذي تم إنفاق 25 مليار دولار أمريكي على تدريبه وتجهيزه. ولا تزال داعش تحتل الموصل حتى اليوم رغم أن تحالفا دوليا يفترض أنه يخوض عليها حربا لا هوادة فيها. واليوم، بعد انصرام عام على لحظة التأسيس تلك، أصبحت أسباب القوة العسكرية لداعش أكثر وضوحًا بحسب مصادر إعلامية غربية مطلعة،فقد بات من المكشوف أن 25 من كبار ضباط صدام حسين البعثيين السابقين من السنة يشكلون العمود الفقري للتنظيم.ويعني ذلك أنه عوض أن يعتمد داعش في قيادة معاركه على جماعة غير مدربة من رجال الدين كما قد يعتقد البعض، فإنه يعتمد على ضباط جيش مدربين يتوفرون على عقود من الخبرة العسكرية الكبيرة، وهو ما يعني كذلك أن القيادة العسكرية للتنظيم منضبطة ومتمكنة من عملها. ولولا ذلك لما تمكن داعش من الاستيلاء على مساحات شاسعة من أراضي كل من سورياوالعراق، على الرغم من جهود قوات التحالف الذي تقوده الولاياتالمتحدة لتحجيم التنظيم. ولا تزال الموصل، وهي كبرى المدن التي استولى عليها داعش، تحت سيطرته بالكامل، على الرغم من أشهر طويلة من تدريب قوات الأمن العراقية، ووضع تواريخ عديدة لعملية عسكرية مفترضة لاسترجاعها. إن عامل القوة الحاسم لدى داعش يتمثل في خفة حركة قواته البالغ تعدادها زهاء 25000 مقاتل، يوجد بينهم عدد هائل من الانتحاريين، وفقًا لخبراء أمريكيين قريبين من ساحة المعركة. وبرأيهم أيضا، فإن ما أسهم به الضباط البعثيون المساندون لداعش هو معرفتهم بالتضاريس والبيئة المحلية، وكذا اطلاعهم الواسع على أسلوب التخطيط الاستراتيجي والتكتيكي وفي القتال لدى الجيش العراقي.وبفضل ذلك استطاع داعش هزم جميع من حاربهم تقريبًا. على أن خبرة التنظيم في استعمال وسائل الاتصال لفائدة قضيته تعتبر عامل قوة لا يستهان به. فقد بات معروفا اليوم أن لدى داعش منتجين ماهرين يقومون بصناعة أشرطة فيديو عالية الاحترافية تواكب نشاطات أتباعه. يصورون مجريات العمليات الحربية وعمليات الإعدام التي ينفذها التنظيم. وفي أحدث فيديوهاته، قدم داعش طرقًا مروعة جديدة لإعدام ضحاياه؛ حيث أغرق أفراده خمسة رجال محبوسين في قفص داخل مسبح، وذبحت مجموعة أخرى من رجاله أسرى من خلال وضع قلادات من المتفجرات لهم. وفي شريط آخر وضع رجال داعشيون أسرى مقيدين داخل سيارة متوقفة ثم ضربوها بصواريخ ! وتساعد هذه الدعاية في جذب المجندين الأجانب والمحليين لصفوف التنظيم، في الوقت نفسه الذي تهدف إلى بت الرعب في صفوف أعدائه عبر العالم. وبالنظر إلى مجريات الأحداث تبدو حملة البروبغاندا الداعشية ناجحة في الاتجاهين. داعش ماض في بناء «الدولة» في غضون ذلك، يسارع «داعش» الزمن من أجل تثبيت أسس «دولته» على الأرض التي يستولي عليها. وهكذا وفي خطوة رمزية لكنها بالغة الدلالة، قرر التنظيم البدء بالتعامل بعملته رسمياً اعتبارا من صباح السبت الماضي في مجموع المناطق التي يسيطر عليها في العراقوسوريا. لكن هذه الخطوة الهامة لم تحظ بعد بما يكفي من المتابعة والتحليل رغم أهميتها الكبرى في فهم تطور مسار «الدولة الإسلامية»، إذ غطت عليها تداعيات العمليات الإرهابية الأخيرة. وتشمل العملة المعدنية التي صكتها «الدولة» 7 قطع بثلاث فئات نقدية: دينار ذهبي، ودرهم فضي، وفلس نحاسي. وذكرت مصادر إعلامية بأن التنظيم نشر ملصقات في الأسواق ومحلات الصاغة، داخل مناطق نفوذه، للترويج لعملته الجديدة لدى الأهالي الذين سوف تفرض عليهم. كما نشر عناصره على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي صوراً للعملة نفسها. وأظهرت الصور اعتماد التنظيم رسمي الكرة الأرضية وسنابل القمح شعارين لقطع عملاته. وبحسب خبراء غربيين، فإنه رغم أن لتنظيم الدولة الإمكانيات لصك عملة خاصة به، إلا أنها لن تحوز اعترافاً عالمياً بها في غياب احتياطي في المصارف الدولية. وعليه سيواجه المتعاملون خسائر كبرى لن تظهر نتائجها إلا عند قيامهم بعمليات الاستيراد أو التصدير، أو عندما يحاول المتعامل صرف العملة خارج مناطق نفود التنظيم ولا يعترف بها بنك أو محل صرافة. لكن مختصين آخرين لهم قراءة مختلفة، إذ يرون في اختيار التنظيم للذهب والفضة في سك عملته رسالة يريد من خلالها التأكيد على مدى قوته التنظيمية والاقتصادية، من حيث أن عملته ستحتفظ بقيمتها النقدية من خلال قيمة تلك المعادن النفيسة التي صنعت منها، ولن تتأثر بالتالي بتداعيات الحرب التي يخوضها العالم ضده. ومن مظاهر تلك القوة أن تنظيم «الدولة» رصد ما قيمته نصف مليار دولار من الذهب لصنع عملته الجديدة، إضافة إلى 100 مليون دولار أخرى لمسكوكات العملة من الفضة والنحاس، فضلا عن نفقات تصنيع العملة. وكانت تصريحات لمسؤولين عراقيين قد أكدت أن تنظيم «داعش « حصل عند سيطرته على الموصل قبل عام بالضبط، على نحو 400 مليون دولار أمريكي، من فرع البنك المركزي العراقي والمصارف الحكومية الأخرى بالمدينة. وبرأي صحيفة واشنطن بوست الأميركية،فإن إصدار العملة يمثل خطوة أولى لتأكيد سيادة التنظيم على الأراضي الواقعة تحت حكمه، لكنها لا تعني بالضرورة نجاحه في بناء دولة. أما في التفاصيل فقد كشف محللون من جانب آخر بأن العملة الداعشية تشبه العملة الصادرة إبان الحكم العثماني في القرن 17 [عملة الخلافة العثمانية]، والتي كانت تحمل رسوماً لخريطة العالم وسبع سنابل قمح، وطبعت على نفس العملة الداعشية العبارات نفسها مثل «خلافة على منهاج النبوة». وكان السلطان العثماني حينها يعتبر نفسه «خليفة المسلمين» في الأرض. لكن بمنظور الواقع لا العاطفة، فإنه ليس الجميع يكرهون العيش في ظل «الدولة الإسلامية»، إذ بالنسبة إلى بعض مواطني الدولتين الفاشلتين العراقوسوريا، يعتبر الشعور بالنظام في ظلها أحسن من الفوضى والحرب التي سبقتها. إن داعش ماض بجد في جهد بناء دولة حقيقية على الأراضي التي يستولي عليها، يُشَرع ويسير ويدبر كل شيء في أدق التفاصيل. وهكذا فمن مناهج التعليم والكتب المدرسية إلى أنظمة الغرامات، إلى سن ما هو حلال وما هو حرام وكل ما يرتبط بمناحي الحياة اليومية، وضع داعش قوانين ولوائح تعد – بحسب مراقبين – أكثر تفصيلًا حتى من قوانين بعض الدول المعترف بها في العالم. وما وراء التفاصيل الدقيقة للتشريعات أنه بات لدى «نظام الخلافة» بنية مؤسسية تحاكي بنية الدول الحديثة، حتى وإن اختلفت لديه المسميات. وتشمل هذه الهياكل نظامًا اقتصاديًا يتعامل مع مصادر متعددة للدخل. وبينما استهدفت الولاياتالمتحدة البنية التحتية للنفط لدى التنظيم، رفع هذا الأخير الضرائب في بعض الأجزاء من "الدولة" وباع الآثار من أجل امتصاص تداعيات تضرر قطاعه النفطي. ويشير مراقبون إلى أن كل تلك العمليات الإدارية ساعدت داعش في الحفاظ على السيطرة، والإبقاء على الجماعات الإسلامية المنافسة خارجًا، وكذلك إحلال "شعور بالنظام" بين سكان المناطق الواقعة تحت سيطرته. ومن الإشارات الدالة على حالة التعافي التي يعيشها الاقتصاد في المناطق التي يحتلها التنظيم رغم حالة الحرب، ما نقل عن مدير بنك كابيتال الأردني، باسم السالم، الذي قال في تصريح صحافي الشهر الماضي، بأن فرع مصرفه في مدينة الموصل يواصل نشاطه البنكي «بشكل اعتيادي». موضحا بأن أحوال المدينة «ليست بالسوء الذي يصوره الإعلام الدولي». إلى أين؟ كان يوم الجمعة الماضي تاريخيا في سجل الحرب بين داعش والعالم، إذ دشن معه التنظيم الإرهابي أسلوبا جديدا في شد أنفاس العالم من خلال الإعلان عن زمان ومكان عملياته المقبلة. فقد صرح القيادي في تنظيم «الدولة» تركي البنعلي البحريني الأصل في تحد بأن العملية الموالية لتفجير مسجد الكويت سوف تكون في البحرين يوم الجمعة المقبل. لقد بدأ الصيف ساخنا قبل الأوان، ولم تشفع قدسية شهر رمضان في حقن دماء المسلمين حتى وهم خاشعون في صلاتهم داخل بيوت الله. ونجح التنظيم مؤقتا في تخويف العالم إذ غادر آلاف السياح تونس التي بالكاد كانت تسترجع عافيتها كوجهة سياحية مطلوبة، بينما أعلن عدد من بلدان العالم تعبئة كبرى تحسبا لضربات إرهابية جديدة ينفذها داعشيون. لكن في حين حذر مجتمع المخابرات الأمريكي من أن داعش تشكل تهديدًا جديا للولايات المتحدة، لم يعلن داعش من جانبه لا عن تخصيص مورد مالي ولا مقاتلين لتنفيذ هجمات على الأراضي الأمريكية. بل ما زال يكتفي بتشجيع مناصريه الذين ينبثقون من صفوف المغتربين في الغرب ومباركتهم. يجري ذلك في الوقت الذي أنفقت الولاياتالمتحدة 3 مليارات دولار في تمويل آلاف الضربات الجوية ضد داعش، منذ أن أعلن الرئيس أوباما الحرب على التنظيم في الصيف الماضي، لكن من دون أن تنجح في قصم ظهره. والظاهر أن داعش ─عكس تنظيم القاعدة ─ منشغل أكثر بتوسيع مساحة «دولته» على الأرض وتنظيم مفاصلها أكثر من انشغاله بالضربات المدوية التي يتكفل بها متعاطفون معه. وعلى الأرض، يبدو أن ما يجري من حروب تتغذى على الأحقاد الطائفية في كل من العراقوسوريا سوف ينتهي إلى اشتعال حروب أهلية طويلة الأمد في البلدين، ما سوف يساعد في انتشار التنظيم وبقائه طويلا، برأي خبراء. إن أهم سبب يوفر لداعش مبررات البقاء والقوة هو وجود بيئة مذهبية حاضنة. فبالنسبة لملايين العراقيين السنة الذين يهمشون ويضطهدون منذ سنوات من قبل حكومات العمائم السود الشيعية في بغداد، يعد العيش في ظل «الخلافة" تحسنًا لأوضاعهم. ولذلك لا عجب أن يكسب داعش ثقة العراقيين السنة، ما يرجح معه أن يحافظ التنظيم على قاعدته الشعبية طالما استمر الفرز الطائفي بالمنطقة، وذلك على الرغم إقراره لقوانين صارمة وأساليب عنيفة وجد متطرفة. ثم هناك عامل أخير يلعب لصالح التنظيم الإرهابي، ويتمثل في كون فكرة العودة إلى «دولة الخلافة» متجذرة في عقول المسلمين السنة منذ أن سقط آخر خليفة في 1922 وهو السلطان العثماني عبد الحميد. ولذلك فإنه رغم كون 99 في المئة من المسلمين لا يوافقون على النسخة الداعشية للخلافة، إلا أن فكرة الخلافة نفسها تمثل بالنسبة إليهم البديل المنشود عن حال الضعف الذي يعتري العالم الإسلامي، في رأيهم.