سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مواطنون إسبان اتصلوا بالإذاعة وقالوا وهم يبكون «كيف يسمح ريال مدريد للرجاء أن تمرغ كرامة الإسبان في التراب» منتخب الكرة هو عنوان الكرامة الوطنية حين يتعذر الحصول على هذه الكرامة بوسيلة أخرى
ما الذي يفرق بين السياسة وكرة القدم؟ إنه خيط رفيع مثل ذلك الذي يفصل بين الإبداع والحمق، أو تلك اللحظة القصيرة الفاصلة بين انصراف الليل وانبلاج الصبح. إن السياسيين يجعلون من الكرة واجهة سياسية بامتياز. ومنتخب الكرة هو عنوان الكرامة الوطنية حين يتعذر الحصول على هذه الكرامة بوسيلة أخرى، لذلك يستقبلون منتخباتهم المنتصرة وهم يلبسون أقمصة عليها رقم 10 كأنهم مهاجمون حقيقيون. الحرب الكروية بين مصر والجزائر تستحق أن تتحول اليوم إلى مادة يتم تدريسها في معاهد وكليات العلوم السياسية والعلاقات الدولية وليس فقط في المعاهد الرياضية وكليات الصحافة. إنها حرب بكل المقاييس، ولو كانت حدود مشتركة تجمع البلدين لما تأخر «الشعبان الشقيقان» في الهجوم على بعضهما البعض، وربما يركب السياسيون والقادة العسكريون أسرجة الحمق الكروي ويدخلون في حرب مفتوحة، كما حدث مرة في مثل هذه المناسبة قبل 40 عاما، يوم تواجهت السلفادور والهندوراس عسكريا في حرب خلفت آلاف القتلى والجرحى، والسبب هو مخلفات مباراة شبيهة بمباراة مصر والجزائر. الحرب بين الهندوراس والسلفادور حدثت سنة 1969 في آخر مباراة في مجوعتهما مؤهلة لنهائيات كأس العالم في المكسيك. وبعد تلك المباراة دخل البلدان مباشرة في حرب مفتوحة بسبب شيء اسمه «الكرامة الوطنية». والغريب أن نفس العبارة ترفع اليوم من جانب المنتخبين المصري والجزائري، وخصوصا من جانب المصريين الذين يبدو أن كرامتهم الوطنية مجروحة أكثر من اللازم بعد هزيمتهم في «موقعة أم درمان» بالسودان، فتحولوا إلى بشر يصفون غيرهم بالذباب والحشرات والهمج والبرابرة. وفي كل الأحوال فإن السياسة والمشاكل الداخلية لأي بلد لا يمكن أن تغيب عن مباريات الكرة، لكن ذلك يحدث بجرعة معقولة، وليس مثلما يحدث اليوم حيث حولت مصر فضائياتها إلى حيطان مباك في هستيريا جماعية غير مسبوقة في التاريخ. المغرب والجزائروإسبانيا.. الحساسيات الكروية والسياسية تحدث في الغالب بين الجيران، وعندما يلتقي المغرب والجزائر في مباريات الكرة، تقفز السياسة إلى الواجهة وتجلس في المنصة الشرفية ويبقى على لاعبي البلدين التقرير في شيء واحد: إما أن الصحراء مغربية في حال انتصار المغاربة، أو أنها عكس ذلك في حال انتصار الجزائر، أو يبقى الحل في يد الأممالمتحدة في حال نهاية المباراة بالتعادل. لكن ورغم الحل العصي لقضية الصحراء، إلا أن مباريات المنتخبين المغربي والجزائري لم تصل أبدا إلى مستوى الكراهية مثلما هو الحال بين الجزائر ومصر. صحيح أن الهزيمة الصاعقة التي تلقاها المنتخب المغربي أمام نظيره الجزائري قبل حوالي 30 عاما، بخمسة أهداف لصفر، تركت وقتها ندوبا غائرة وأدت إلى ثورة كبيرة في المنتخب المغربي، لكنها لم تترك ندوبا كبيرة في علاقات الشعبين. المغاربة والجزائريون يتنافسون بقوة في الكرة، ويتناقرون في السياسة، لكنهم لا يتباغضون. للمغرب بلد جار آخر، وهو إسبانيا، وبين البلدين مشاكل وتاريخ معقد، لكن المنتخبان لا يلتقيان في مباريات الكرة، لا في المباريات الرسمية، لأنه لا يوجد جامع قاري بينهما، ولا في المباريات الودية، حيث يبدو أن المغرب وإسبانيا معا يتجنبان دعوة بعضهما البعض للعب مباريات ودية لأن إثمها أكبر من نفعها. وحين التقى المنتخبان المغربي والإسباني سنة 1965، فإنه لم تكن هناك الكثير من المشاكل بين البلدين، ولو التقيا اليوم فستمتلئ المدرجات بالهجرة السرية والحشيش والسمك وجزيرة ليلى وسبتة ومليلية والجزر الجعفرية والصحراء وجزر الخالدات والمياه الإقليمية وتفجيرات 11 مارس ومشاركة المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية ومحاكم التفتيش وسقوط غرناطة والغازات الكيماوية في شمال المغرب. وعندما لعب فريق الرجاء البيضاوي قبل سنوات ضد ريال مدريد الإسباني في كأس أندية القارات بالبرازيل، فإن الفريق المغربي كان على وشك الفوز، وهو ما جعل الإسبان يحسون بالصدمة، وقال مذيع إسباني على أمواج الإذاعة الوطنية الإسبانية، «إن مواطنين إسبان اتصلوا بالإذاعة عبر الهاتف وهم يبكون، وقالوا كيف يمكن لريال مدريد أن يسمح لفريق مغربي بتمريغ كرامة الإسبان في التراب». هكذا تصبح الكرة علامة تفوق شعوب معينة على شعوب أخرى، لذلك لا يسمح للشعوب «الضعيفة» أن تتساوى مع الشعوب «القوية». وحين لعب الوداد البيضاوي ضد فريق مرسيليا الفرنسي مباراة ودية في الدارالبيضاء، بصق الحارس بارتيز على الحكم المغربي، عبد الله العاشيري، وأشبعه شتائم لأن الفريق الفرنسي كان منهزما، وركل اللاعبون الفرنسيون اللاعبين المغاربة، ورد بعض المغاربة الأشاوس بلكمات محترمة، وانتهت المباراة قبل وقتها مع أنها ودية لا غير. لكن لا ودّ تكنه فرنسا لمستعمراتها السابقة التي عليها أن تنهزم فقط حتى في كرة القدم. لذلك اعتذر مسؤولو الوداد لفريق مرسيليا واستدعوهم لعشاء فاخر في وقت لم يجف وجه الحكم المغربي من بصاق بارتيز. حتى عندما يعتدي الأقوياء على الضعفاء في مباريات الكرة، فإن الضعفاء هم من يجب أن يعتذروا. في أوربا أيضا.. لا تخلو أوربا أيضا من الكثير من الحزازات الرياضية بين منتخباتها، ورغم أن هذه البلدان يجمعها حاليا أكثر مما يفرقها، إلا أن المدرجات عادة ما يكون لها رأي آخر. وفي المباريات التي تجمع بين إنجلتراوإسبانيا في مدريد يهتف الجمهور الإسباني: «جبل طارق لإسبانيا»، وتتوتر أعصاب اللاعبين والجمهور ويدافع اللاعبون الإنجليز عن إنجليزية جبل طارق، بينما يدافع الإسبان عن إسبانيته. المباريات الكروية بين إسبانياوإنجلترا عادة ما تنتهي بالتعادل، كما هو الحال في المفاوضات السياسية بين الطرفين التي تنتهي بلا غالب ولا مغلوب، لتبقى صخرة جبل طارق كما هي عليه. وفي المباريات بين اسكتلندا وإنجلترا يرفع الأسكتلنديون شعارات حرب الاستقلال ويستعيدون وجه البطل «والاس» الذي مرغ كرامة الجيش الإمبراطوري البريطاني في التراب، قبل أن يموت على المشنقة كمحارب حقيقي. إنجلترا لها أيضا حساسية مفرطة في مبارياتها الكروية مع منتخب إيرلندا الجنوبية. ولا يمكن مطلقا أن يلتقي المنتخبان في آيرلندا من دون أن تتحول المدرجات إلى حلبة للمشاحنات السياسية ورفع الشعارات التي تطالب بأيرلندا «حرة وموحدة». فرنسا مازالت تلعب ضد ألمانيا بكثير من عقد الحرب العالمية الثانية، مازال الفرنسيون ينظرون إلى الألمان على أنهم ذلك الجنس المتعجرف في كل شيء، ويتذكرون طبعا كيف وصلت الدبابات الألمانية إلى قلب باريس في ظرف 24 ساعة. فحين يلتقي الفرنسيون والألمان على ملاعب الكرة يتذكر الألمان كيف اقتحموا باريس ذات يوم في ساعات معدودة ومرت دباباتهم تحت قوس النصر. بينما يتذكر الفرنسيون نابليون وحروبه في كل أرجاء أوروبا. وهكذا تصبح مباريات الفريقين مباريات البحث عن مجد ضائع. وحين لعب المنتخب الفرنسي مباراة ودية مع المنتخب الجزائري قبل بضع سنوات في باريس، نزل الجمهور الجزائري إلى الملعب وأوقف المباراة التي كانت فرنسا تتقدم فيها بأربعة أهداف. الكرامة الجزائرية لا تحتمل. ثورة المليون ونصف المليون شهيد لا تقبل الهزيمة أمام المستعمر السابق. بعد ذلك شهدت شوارع باريس ومرسيليا ومدن أخرى اضطرابات احتجاجا على هزيمة لم تكتمل. المهم أن الجمهور الجزائري منع الهزيمة من دخول التاريخ رسميا. الأرض والكرامة.. والتاريخ في المباريات بين الشيلي وبوليفيا يرفع الجمهور البوليفي لافتات تطالب بحق بلاده بالتوفر على منفذ على البحر، بينما يستميت اللاعبون الشيليون في إبقاء بوليفيا من دون بحر، وغالبا ما تنتهي المباريات بإبقاء البوليفيين بين الجبال في انتظار زمن آخر يستعيدون فيه «حقهم» في استرجاع أراضيهم الشاطئية التي «نهبتها» الشيلي في الأيام الغابرة وفي حروب سريعة وخاطفة. وفي مباريات قطر والبحرين تحضر قضية جزر صغيرة جدا يغشاها الماء في كل عملية مد يتهم كل طرف الآخر بمحاولة الاستيلاء عليها. وفي مباريات إيران والإمارات يطالب الإماراتيون باستعادة «الأخوات طنب»، الصغرى والكبرى وما بينهما. وفي مباريات سورية ولبنان كان اللبنانيون يطالبون بخروج القوات السورية، ويطالب جزء آخر من الجمهور نفسه ببقائها. وبعد انسحاب سوريا من لبنان يطالب الجمهور السوري لاعبيه بتسجيل أهداف كثيرة تنتقم لكرامة القوات السورية المنسحبة. وفيما مضى كان العراقيون يلعبون مع الكويت بامتعاض، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي رفض فيه المنتخب العراقي منازلة المنتخب الكويتي في نهائيات منافسة إقليمية بحجة أنه «نزال بين الإخوة لا يرضاه العراقيون لأنفسهم». بعد ذلك بوقت قصير اكتسحت القوات العراقية الكويت وفهم الناس أن العراق رفض فقط اللعب «مع المحافظة 19» من محافظاته الكثيرة. وعندما كان حزب البعث في سوريا على شقاق دائم مع حزب البعث في العراق، فإن مباريات الكرة بين البلدين كانت تتميز بتشويق مثير، وفي كثير من الأحيان كانت التغطية الصحافية لمباريات منتخبيهما تتم عبر وسائل إعلام عالمية، ليس لأن الكرة في سوريا والعراق متقدمة، بل لأن مباراة واحدة للكرة كانت وقتها كفيلة بأن تشعل الحرب بين بلدين يتوفران على آلاف الكيلومترات من الحدود المشتركة، مع أن الحزب الحاكم في كل منهما كان في الأصل حزبا واحدا، لكنه انشق إلى نصفين، واستحكمت العداوة بين النصفين كما تستحكم العداوة بين شطري «فولة».