للكسكس تقاليد وأعراف خاصة، من دونها يبقى مجرد وجبة سريعة تؤكل لقتل الجوع. أحد هذه الأعراف: الأكل باليد، عدم تجاوز المساحة المخصصة، عدم الاستيلاء على اللحم،.. إلخ. لكن يبقى التحلق الجماعي حول «الكصعة» أهم خصلة تميز هذا الطقس. وينطبق على مشاهدة مباراة كرة القدم ما ينطبق على أكل الكسكس، فهي تشترط حضورا جماعيا. في الأربعاء الماضي، التقينا بمجموعة من الأصدقاء في بيت قويدر، المعروف بكنية Kader، جزائري الأصل، والذي لا تربطه بالجزائر سوى ريحة الشحمة في الشاقور! يتنكر علنا لسياسة السياسيين، يكره الحكام، لكن الشيء الذي صالحه مع البلد هو إنجازات الفريق الوطني الجزائري. رتبت سوزان زوجته، الفرنسية أبا عن جد، على الطاولة قنينات من الشراب، الحلال منه والحرام، ومنوعات من المقبلات، الطازج منها واليابس. وقبل أن تبدأ المباراة، وكان قويدر قد أردف كؤوسا محترمة، أطلق العنان لتعليقات نابية في حق الفريق المصري من نوع: «روحو تاكلو لفول... غادي نحبسو فيكم التفرعين... يا الله يا الخضراء». ولما طالبته سوزان بتهدئة أعصابه أجابها: «غادي نشوفو آش دير فرنسا نتاعكم». ولما سجل عنتر هدف الفوز، نوض صاحبنا قربالة في العمارة وهو يصيح: «عنتر بن شداد، والفراعنة في الواد»! ثم أمسك بالراية الجزائرية ليطلب منا مرافقته إلى الشان-إيليزيه. أجبته: «اقعد آخويا.. الشان-إيليزيه ديال باك؟». فيما تأبط قويدر رايته متوجها إلى جادة الشان-إيليزيه، قصدت رفقة باقي المدعوين أقرب بيتزيريا لمتابعة مباراة فرنسا- إرلندا. على الشاشة المسطحة، أهم شيء أثار انتباهي هو خضرة ملعب ستاد دو فرانس. لو رعت فيه أغنام مديونة لأصبحت، تبارك الله، فيها ما يتكال. مسحت الكاميرات الآلية ُالملعبَ مركزةً على الشخصيات السياسية التي حضرت المباراة وعلى بعض النجوم التي أصبحت عارضة في مجال الإشهار بأثمنة خيالية، مثل زيزو، بارثيز.. رفعت الأعلام الفرنسية والإرلندية. الجمهور المغاربي الذي يحضر في مثل هذه المناسبات للصفير على العلم الفرنسي لم يكن موجودا. ومنذ ال15 دقيقة الأولى، أبانت إرلندا عن لعب محكم وذكي على كافة المستويات، فيما بقي المنتخب الفرنسي يجرجر محاولاته الفردية والجماعية من دون نتيجة. في المطعم، انطلقت التعليقات لتتحول إلى شتائم في حق اللاعبين، وبخاصة في حق المدرب، رايمون دومينيك، الذي وصف ب«الخروف»، «التافه» الذي «يجب أن يقفل عليه في السجن». وفي الدقيقة ال104 ، لما سجل وليام غالاس بعد تمريرة من تييريه هنري باليد، اهتز المطعم بالفرحة قبل أن تنطفئ حماسة الزبناء لما شاهدوا إعادة للقطات حركة اليد. وكان صاحب البيتزيريا، وهو إيطالي خاتر، أول من فتح النار: «قلتها دائما: الفرنسيون غشاشة». رد عليه أحد الزبناء: «قالها المافيوسي». على أيٍّ، حصل إجماع على أن الفرنسيين لم يكونوا في المستوى اللائق وعلى أنهم لا يستحقون التأهل، وفكرت أنه تصدق في حقهم قولة: «كوّر وعطي لعور»! وهكذا «احتل» الفرنسيون من أصل جزائري جادة الشان-إيليزيه وأحياء، مثل باربيس وبيلفيل التي تقيم بها أكبر جالية جزائرية، حيث أطلقوا العنان لأبواق سياراتهم وللزغاريد، قبل أن تطيش بعض العناصر لتكسر واجهات المحلات أو تحرق حاويات القمامات.نستنتج، على ضوء هذه الوقائع، أن أشواط الصراع الفرنسي-الجزائري لم تستنفد كل حلقاتها. وكل الفرص متاحة لكي يعبر اللاوعي، بغض النظر عن الأجيال، عن لغته ومنطقه الدفين الذي يتلخص في «الثأر الرمزي» من المستعمر القديم. وفي حالة ما إذا التقى الفريق الجزائري بنظيره الفرنسي في إحدى المباريات بإفريقيا الجنوبية، فسنعاين عودا أو تكرارا للتاريخ. في الغد وأنا أتناول وجبة الفطور، رن النقال. أجبت لأسمع صوتا خائفا تعرفت منه على صوت سوزان. لم تترك لي الفرصة لأشكرها أو أسألها عن خاتمة الأمسية، بل أخبرتني بأنKader دخل، في حدود الخامسة صباحا، مخمورا، ثم بدأ يهذي ويهدد بأنه سيفرغ كل الحسابات البنكية لحجز فندق وتذكرة إلى إفريقيا الجنوبية لمتابعة المباريات التي سيخوضها الفريق الجزائري.