جمهورية أبي رقراق أو جمهورية سلا أو جمهورية قراصنة بورقراق، هي تسميات أطلقت في الحقيقة على ثلاث جمهوريات بحرية مستقلة عن بعضها وعن السلطان. ظهرت في منطقة مصب نهر أبي رقراق، بين عامي 1627 و1668، وعرف معها المغرب الوسيط عصره الذهبي للقرصنة؛ حتى أن الجرأة بلغت ببعض قراصنة سلا أن أغاروا على عاصمة إيسلندا في شمال غرب أوروبا، ونهبوا عاصمتها (ريكيافيك)! ومن غرائب التاريخ أن الأساطيل الأوروبية القوية وقفت عاجزة عن وقف أنشطة هؤلاء القراصنة الشرسين عقودا، إلى أن كسرت شوكتهم بسقوط جمهورية أبي رقراق، نتيجة صراعات داخلية طويلة. سقطت مملكة غرناطة آخر قلاع الوجود العربي الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية في 1492. وبعد عشر سنين على سقوطها تم توقيع أول مرسوم يقضي بطرد آلاف المسلمين واليهود من إسبانيا في 1502، سلكوا على الخصوص الطرق إلى تطوان وفاس وسلا. وبسقوط غرناطة المدوي، استعاد كل من البرتغال وإسبانيا زمام المبادرة وشرعا في إعداد العدة للانتقام من المحتل السابق [المغرب] من خلال احتلال الثغور المغربية. وهكذا فخلال أمد زمني يبلغ ربع قرن سقطت أغلب المدن الساحلية المهمة، ولم تستثن سوى تطوانوسلا. كان لهذا الانقلاب المفاجئ والصادم في ميزان القوى أثر عميق في نفوس المغاربة. فالتحم شعورهم الوطني الجريح بإيمانهم الديني. وظهرت نتيجة لذلك دعوات وفتاوى أصدرها متصوفة وفقهاء تدعو إلى الجهاد ضد الكفار النصارى من أجل استرجاع الثغور السليبة. ولمع على الخصوص من بين أبرز رجال المرحلة المجاهد محمد العياشي، الصوفي «الورع قليل الكلام المداوم على الصوم وتلاوة القرآن»، كما وصفته كتابات الإخباريين. فلبى وصية شيخه الولي الصالح عبد الله بن حسون بالخروج إلى أزمور، وأقام بها قاعدة للجهاد حارب انطلاقا منها، ثم لاحقا من سلا، كلا من البرتغاليين والإسبان على طول الساحل الأطلسي والمتوسطي الممتد من أزمور وحتى تطوان. وأعلن العياشي سلا إمارة مستقلة عن الحكم السعدي، فأصبح الدعاء في المساجد يتم للمجاهد «الولي الصالح سيدي محمد العياشي» بدل السلطان السعدي زيدان الناصر. وفي نفس الوقت الذي أعلن العياشي فيه سلا ثغرا للجهاد، نشط من جديد توافد المهجَّرين من إسبانيا على مدينة سلا على الضفة اليمنى لنهر أبي رقراق، ابتداء من 1609. وحتى 1614، عبر موجات متعاقبة من العرب واليهود. لكن سكان المدينة المحافظة الأصليين لم يلبثوا أن طردوا بعض الوافدين بسبب لباسهم الغريب وغير المحتشم وأساليبهم المتحررة. وضمن الوافدين استقر الهورناتشيون (المطرودون من مدينة هورناتشوس الإسبانية) ابتداء من 1610 على الضفة اليسرى داخل القصبة التي أصلحوا بيوتها الأقل خرابا، وسكنوا فيها مع أسرهم، ثم سموها قصبة سلا [هي قصبة الأوداية الحالية]. كما لجأ إليهم السلطان زيدان لبناء أسوار المدينة، وقد جلب استقرارهم بالمنطقة أندلسيين آخرين مهجرين أقاموا بسلاالجديدة [الرباط]، فتشكلت بذلك ثلاث مجموعات سكانية مستقلة عن بعضها، لم يلبث أعيانها أن بايعوا المجاهد العياشي على توفير الدعم له بعدما غادر أزمور في العام 1614 ليستقر بسلا. وفي هذه السنة نفسها احتل الإسبان المعمورة [المهدية الحالية]، فلجأ قراصنتها الموريسكيون إلى سلا وتابعوا ركوب البحر لحسابهم، فتحولت ضفتا مصب نهر أبي رقراق شيئا فشيئا إلى مركز جذب للغاضبين على الإسبان والراغبين في الانتقام منهم، الذين تذهب التقديرات بشأنهم إلى أنهم بلغوا حينها بين 3000 و4000 نسمة. فبعثوا أنفاسا جديدة في مدينة يعقوب المنصور التي كانت تسمى (رباط الفتح) و(سلاالجديدة)، وكانت قبل قدومهم مجرد خرائب. إعلان الجمهورية كان الهورناتشيون يكونون عشيرة متآلفة ومتعاضدة، حتى أنهم حين كانوا لا يزالون في إسبانيا حصلوا على ترخيص خاص من الملك فليب الثاني بحمل أسلحتهم معهم، واشتهروا هناك بأعمال السرقة وتزييف العملة. ولذلك فإنهم عندما استقروا عند الضفة اليسرى لأبي رقراق، حملوا معهم مهارتهم في استعمال السلاح الناري ونزوعهم إلى الاستقلال وحب الهيمنة. فأهلهم ذلك للسيطرة على جيرانهم. الذين كانوا يحملون اسم الموريسكيين واستوطنوا أسفل القصبة. وشيئا فشيئا تشكلت عند الضفة اليسرى ملامح مدينة قراصنية سعت إلى تحييد السلطان عن نشاطها، من خلال أداء ضريبة له كانت تمثل 10% من غنائم القرصنة، فالمؤكد أن الغاية من أدائها هي جعل السلطان شريكا في العمل القراصني دون أن تكون له عليه وصاية. بعدما شعر الهورناتشيون بتفوقهم على الأندلسيين أعلنوا أنفسهم سادة الضفة اليسرى وقادتها، وعلى غرار كل المدن القراصنية لذلك العهد، أسسوا نظاما جمهوريا. كان الأندلسيون المستقرون على الضفة اليسرى للنهر قبل مجيء الهورناتشيين يخضعون شكليا لسلطة القائد الذي عينه السلطان، ولم تكن له في الواقع سلطة حقيقية عليهم. لكنهم انتهوا سريعا إلى طرد القائد وأسسوا مجلسا للحكم، فتأسست جمهورية حقيقية في حوض أبي رقراق ابتداء من 1614م (1023 ه). بالمفهوم السياسي المعاصر، يمكن القول إن الجمهورية كانت تدار وفق نظام سياسي أوليغارشي جماعي التسيير ploutocratie – oligarchie . ومعنى ذلك بالكلام الواضح أن حكم الجمهورية كان يعود للأثرياء، وتحديدا للهورناتشيين الذين كانوا ينتدبون 12 عضوا يشكلون ديوانا يجتمع بقصر القصبة، وعلى رأسه رئيس كانوا يسمونه (الأميرال الكبير). وخلال شهر ماي من كل عام كانوا ينتخبون قائدين أحدهما يحكم سلا القديمة والآخر يحكم القصبة، ثم ابتداء من 1627 تولى القضاء في الجمهورية قاضيان من المهجَّرين من إسبانيا. وتمثلت مداخيل الجمهورية في واجبات الجمرك وضرائب المرسى وكذا الرسوم على الصيد ، ولم يكن يصل منها إلى السلطان سوى الفتات. لقد كان من أبرز نتائج الهجرات المتلاحقة على مدى قرن كامل أن تغيرت البنية السكانية لعدوتي أبي رقراق كثيرا، فتقلص عدد سكانها الأصلين في مقابل تزايد الموريسكيين والأتراك وخليط متنوع الأعراق والديانات وجد نفسه خارج تمثيلية «الديوان»، التي احتكرها الهورناتشيون لأنفسهم مثلما احتكروا الثروة . وكان بالتالي طبيعيا أن ينتفض المقصيون الغاضبون، وكانوا أكثر عددا ضد الهورناتشيين، مطالبين إياهم بعدالة تسع الجميع. العصر الذهبي للقرصنة عرفت القرصنة السلاوية انطلاقتها الفعلية في صيف العام 1617، كما تشير إلى ذلك رسالة بعث بها قبطان هولندي إلى وزارة البحر في بلاده، يحذر فيها قائلا: «قبل عام لم يكن لدى المغاربة سفينة واليوم أصبح لهم أربع سفن مبحرة. وفي حال لم نتخذ الاحتياطات اللازمة فإن قوتهم ستزداد. وحيث إنهم مستقلون عن ملك المغرب فإنهم سوف يخضعون كل ما يصلون إليه تحت سلطتهم.» ورغم الصراعات السياسية التي مزقت صفوف قاطني سلا القديمة وسلاالجديدة والقصبة، إلا أن القرصنة وحدتهم جميعا بفضل العوائد الكثيرة التي كانت مصدر العيش الوحيد، فتشكل حول العدوتين اقتصاد كامل عماده القرصنة، واستفاد منه وإن بشكل متفاوت، الجميع. كان توزيع غنائم القرصنة الجاري به العمل خلال فترة الجمهورية يتم وفق النظام التالي: 10% للسلطان [ممثَّلا في ديوان سلا]، 45% للمجهز أو الرَّيّس.الذي يمول الرحلة القراصنية أما الباقي (45%) فكان يوزع على طاقم المركب حسب نسب معينة متفاوتة. في البداية كانت عمليات القرصنة تتغذى من رغبة الموريسكيين في الانتقام من إسبانيا. لكن مع تعاظم إغراء العوائد المالية الطائلة التي كان يدرها افتداء الأسرى الأوروبيين وتجارة الرقيق الأبيض على القراصنة، تسترت القرصنة تحت قناع الحرب المقدسة (الجهاد) ضد الكفار وأصبحت كل المراكب والسفن المسيحية هدفا لها، ما دفع العقيد دي كاستري إلى أن يزعم في هذا الصدد بأنه «لولا الأرباح الطائلة التي كان القراصنة يجنونها لما عرف المغرب قرصنة. » وشيئا فشيئا امتد نشاط القرصنة السلاوية إلى البر فاستهدفت سكان القرى الإسبانية القريبة من الساحل والصيادين الذين لم يكونوا مسلحين، فكتب سيرفانتيس الشهير صاحب (دون كيشوت) في وصف ذلك يقول: «إن أكثر من صياد يرى شروق الشمس في تطوان بعد أن يكون رأى غروبها [في الليلة السابقة] في إسبانيا. » ومنذ بداية القرصنة السلاوية، كان كل ريس من رياس البحر مستقلا في عمله عن أي سلطة سياسية أخرى غير سلطة مجهز أو مجهزي مركبه. وكان التجار اليهود كبار ممولي الحملات القراصنية، حيث كانوا يمنحون تسبيقات مالية لتجهيز رحلات القرصنة بما يلزم من بارود وذخيرة للمدافع وتغذية لأفراد الطاقم، ويسترجعون مالهم أضعافا مضاعفة بعد عودة قراصنتهم مظفرين غانمين. وتحدد حوليات البحرية المتخصصة في المرحلة الرقعة البحرية التي احتضنت نشاط قراصنة سلا في شعاع يمتد بحرا بين 500 و600 ميل انطلاقا من مرسى سلا، من شواطئ إفريقيا الغربية جنوبا إلى جزر الآصور غربا وشبه الجزيرة الإيبيرية شمالا. وطبعا لم يكن الإبحار في المحيط الأطلسي متاحا للقراصنة طوال السنة، بل كان موسم القرصنة ينطلق في الربيع ويبلغ أوجه في الصيف لينتهي مع بداية الخريف؛ حيث يعود الأسطول القراصني في شهر أكتوبر إلى ملاجئه المنيعة بانتظار تحسن المناخ. كانت أفضلية قراصنة سلا تتجه نحو السفن القادمة من أمريكا وجزر الأنتي، لأنها تكون في العادة محملة بالتوابل والمعادن الثمينة التي يكون التجار الإسبان بانتظارها بلهفة وخوف. فكان القراصنة يترصدون لها عند مصب نهر التاج في لشبونةالبرتغالية. ورغم أن البابا أفتى بتحريم ومنع تجارة المسيحيين للسلاح والعتاد مع المسلمين، إلا أن قراصنة سلا كانوا يحصلون على ما يرغبون فيه من المراكب الحربية المجهزة والسلاح الثقيل والخفيف من خلال التجار الهولنديين الذين كانوا يكنون العداء لإسبانيا. فقد كان لهولندا خلال القرنين 16 و17 أكبر أسطول تجاري في أوروبا وكانت أكثر بلدانها ثراء من التجارة مع بلدان العالم، فكان قراصنة سلا من أفضل زبائنها ولم يكونوا لذلك يعتدون على مراكبها. ورغم أن حوض أبي رقراق كان معروفا لدى الملاحين والتجار في ذلك العصر بكونه بؤرة قرصنة من أخطر ما يكون، إلا أنه ويا للمفارقة، كان لا ينقطع عنه إقبال المراكب والسفن التجارية والمفاوضين المكلفين بافتداء الأسرى. وكان سوق الرقيق يقام في سلاالجديدة [الرباط الحالي] على ضفة نهر أبي رقراق اليسرى وأسفل القصبة، وكان البيع مفتوحا للعموم كما هو الشأن بالنسبة إلى أي بضاعة أخرى. وتفيد حوليات القرصنة بأن أزهى مرحلة من العصر الذهبي للقرصنة تحددت بين العامين 1636 و1638؛ إذ خلال يوم واحد من العام 1636 مثلا، أسر القراصنة السلاويون 200 نصراني واقتادوهم إلى سلا، حيث كان يقبع في مطاميرها الرهيبة ما لا يقل عن 3000 أسير آخرين. ونجد في كتابات شهود عيان غربيين صورا واضحة عن لحظات عودة القراصنة من غزواتهم البحرية.. فقد كانوا يهتدون إلى ساحل سلا اعتمادا على منارة صومعة حسان، وعندما تقترب السفينة القراصنية من مدخل المصب تطلق من مدفعها طلقة علامة على الفرح بالعودة إلى الديار. وعندما يدخل النهر يطلق أخرى تحت القصبة، فيتجمع الناس لاستقبال السفينة. وبعد إتمام إجراءات الرسو يشرعون في إنزال الأسرى مسلسلين، ويقتادونهم نحو المطامير التي يسجنون فيها قبل أن يأخذونهم إلى سوق العبيد ليباعوا مع باقي الغنائم الأخرى. سيرة الرعب كان لازدهار القرصنة في المحيط الأطلسي انطلاقا من مرسى سلا مع توافد الموريسكيين المطرودين من إسبانيا، في مطلع القرن ال17، تأثير سلبي كبير على ملاحي أوروبا وشعوبها واقتصادها بشكل عام. فالهجمات لم تعد تقتصر معهم على السفن في عرض البحر، بل تعدتها إلى الإغارة على التجمعات البشرية القريبة من السواحل الأوروبية، وحتى أحيانا التوغل عميقا في برها. فسكن قراصنة سلا طويلا نتيجة لذلك متخيل أمم البحر الأوروبية كمصدر لرعب ماحق، حتى كان الموت السريع أرحم بكثير من الوقوع في أسرهم. ورد في رسالة كتبها راهب مسيحي يلفت من خلالها الانتباه إلى معاناة إخوته في الدين على يد قراصنة سلا، وهي مؤرخة بالعام 1626، ما يلي: «لقد فقد 2000 بحار نصراني أسروا من طرف المغاربة [قراصنة سلا] والأتراك [قراصنة الجزائر]، فمات نصفهم من السأم والجوع والطاعون، أو جراء أشكال العنف المتنوعة التي تعرضوا لها. وقد دفعتهم أحوالهم السيئة الناتجة عن تركهم تحت رحمة هؤلاء البرابرة إلى البحث عن حلول، تمثلت في إطلاعهم الأعداء عن أسرار بلدانهم التي عرضوها نتيجة لذلك لأضرار فادحة، طمعا في أن يخفف عنهم القراصنة القساة معاملتهم السيئة. » لم يكن القراصنة يسجنون أسراهم في سجون على وجه الأرض، بل كانوا يحبسونهم في مطامير حفرت تحت الأرض، مع ما يعنيه ذلك من معاناة رهيبة قد تطول سنوات. وبالنتيجة مات كثيرون منهم في ظروف مأساوية دون أن يعانقوا الحرية ويعودوا إلى بلدانهم وذويهم. وقد وصف قبطان إنجليزي يدعى جون سميث معاناة عائلات الأسرى وكيف أنها بلغت بأقاربهم وأصدقائهم اليائسين من تحريرهم أن كانوا يقيمون صلوات مسيحية جماعية، يلقون خلالها خطبا وأدعية تتوسل العطف والرحمة للأسرى. وحيث إن قسوة قراصنة سلا جرت بذكرها الركبان فإن ركاب أي مركب صيد أو تجارة كان يفضلون الإلقاء بأنفسهم في البحر ليقضوا غرقا، على أن يسقطوا أسرى بين أيديهم. ولم يكن المسيحيون بأقل قسوة من قراصنة سلا، إذ تفيد شهادات أوروبية برمي سفن مسيحية مئات القراصنة السلاويين في البحر بعد هزمهم، ليأس الأوروبيين من أن المغاربة سيقبلون تبادل قراصنتهم بأسرى مسيحيين. وطبعا يكون مصير من يلقى في عرض البحر القضاء غرقا. لم يقف الحكام الأوروبيون مكتوفي الأيدي حيال تجاوزات قراصنة سلا في حق ملاحيهم وصياديهم ومواطنيهم العزل، إذ تسمح الرسائل والتقارير التي صاغها جواسيس ورجال دين ومفاوضون ومسؤولون أوروبيون من مختلف المستويات بالخروج باستنتاج مفاده أن البحث كان دائما قائما عن حل ينهي إلى غير رجعة الوجع الرهيب الذي كانت القرصنة السلاوية تسببه. وقد جربت أوروبا في سبيل ذلك كل الحلول دون فائدة.. فالمعاهدات التي كانت توقعها مع سلاطين المغرب بهدف حماية الملاحة الأوروبية في سواحل المغرب كانت تبقى بلا أثر في الواقع. والحملات الانتقامية الكثيرة التي كانت البحرية الحربية لبلدان أوروبا الغربية تشنها ضد مصب أبي رقراق لم تكن تنفع في وقف تسلل القراصنة دخولا وخروجا في مراكب خفيفة ليلا، وتحت أنف السفن الحربية المحاصرة لعرينهم. وهكذا أرسل أسطول حربي بريطاني لمهاجمة سلا في 1637 بغرض منع القراصنة من الاعتداء مجددا على صيادي الأرض الجديدة. ورغم ذلك استمر القراصنة المغاربة في الإغارة على السواحل البريطانية والإيرلندية وبحر المانش ربيع كل عام، فيوقعون في الأسر السفن التي يصادفونها ويرغمون ربابنتها على قيادتها بأنفسهم نحو مرسى سلا. على أن تلك الجرأة الشديدة لم تكن لتسعفهم لولا تواطؤ رجال أوروبيين معهم على الأرض، خصوصا من الإسبان والهولنديين، الذين كانوا يتجسسون لحساب القراصنة ويقدمون لهم ما يحتاجون إليه من مؤونة وحتى من السلاح في بعض الأحيان. وجندت إنجلترا من جهتها أفضل من لديها الأميرال الشهير روبرت بلاك، الذي قاد أسطوله نحو سلا في 1656 من أجل استرداد أسرى بلاده، وحمل قراصنة سلا على وقف الاعتداء على سفن بلاده. لكنه فشل في مهمته. وفي أعقاب أشهر عاد الأسطول الإنجليزي ليحاصر سلا 15 يوما، دون فائدة أيضا.. أفول الجمهورية بالعودة إلى العام 1624، فإن الهورناتشيين اغتالوا قائد سلا المعين من السلطان السعدي، وطردوا سكان المدينة الأصليين ثم كونوا فيما بينهم مجلسا للحكم سموه (الديوان) يتجدد انتخابه كل عام. وكانت إنجلترا أول بلد يعترف بهذه الجمهورية فرد لها القراصنة الجزاء بأن حرروا العشرات من أسراها لديهم. لكن صراع الموريسكيين من أجل تقاسم السلطة مع الهورناتشيين لم يتوقف، رغم أن الطرفين توصلا في 1630 إلى اتفاق يقضي بأن ينتخب ديوان جديد من وجهاء الطرفين يكون نصف أعضائه الستة عشر من الهورناتشيين، ونصفه الثاني من الموريسكيين، ويرأسه حاكم منتخب يقيم في قصر القصبة وتوزع مداخيل البحر والجمرك بالتساوي بين الطرفين. لكن الاتفاق لم يصمد وبدا منذ البداية أنه كان مجرد مناورة من الهورناتشيين، الذين كانوا يحتكرون الحكم على ضفتي مصب نهر أبي رقراق انطلاقا من القصبة. وبتجدد مظاهر الإخلال ببنود الاتفاق سعى العياشي من جانبه إلى الاستيلاء على قصر القصبة بزعم إعادته إلى وصاية السلطان. فضرب من حول القصبة حصارا وضربها بالمدافع انطلاقا من الضفة اليمنى، لكن القراصنة صمدوا للحصار فرفعه العياشي في 1632، وعاد إلى حربه على الثغور المحتلة بينما عاد القراصنة إلى غزواتهم البحرية. وفي 1636 تفجر الصراع من جديد بين الطرفين وكانت تغذيه روح الانتقام، فطرد الموريسكيون الهورناتشيين من القصبة ولجأ زعماء هؤلاء الأخيرين إلى قراصنة الجزائر وتونس. واغتر الموريسكيون بنصرهم الذي توج باحتلالهم للمرسى، فطمحوا إلى احتلال سلا القديمة على الضفة اليمنى. لكن الأسطول الانجليزي الذي كان يحاصر سلا تدخل وهاجمهم بقنابل مدفعيته الطويلة فأوقف مسعاهم.
الأسطول القرصاني يعود نجاح قراصنة سلا في غزواتهم دون شك إلى طبيعة المراكب التي كانوا يستعملونها في عملياتهم، وكانت شراعية بمجاديف من نوع الكارافيل والسنبك. ولضمان خفة هذه المراكب فإن أبعادها لم تكن تتجاوز 30 مترا طولا على ستة أمتار عرضا، بحمولة لا تزيد عن 250 طنا. وبهذا الحجم الخفيف يبدو واضحا أن ال 200 رجل الذين كان يحملهم مركب القراصنة في المعدل كانوا يكتظون داخله في ظل شروط صعبة. لكن في المقابل ساهمت خفة المراكب مقارنة مع السفن الأوروبية الثقيلة في منحها قوة أكبر في السرعة، بحيث متى تعرضت مراكب القراصنة للخطر تستطيع دخول الوديان والمصبات قليلة العمق فرارا من مطارديها. الذين يعجزون عن متابعة مطاردتها والتفوق عائد كذلك إلى قوة نيران مدافع مراكب القراصنة والتسليح الكبير لطاقمها، وهجومها على العدو في مجموعات سواء في عرض البحر أو في البر الأوروبي، وإلى حيل القراصنة التي لا تنتهي. ومن نقط قوة القراصنة الأخرى، أن كلا من القيادة والطاقم كانوا يقتسمون نفس حياة التقشف خلال الرحلات القرصانية، دون تمييز. بمنطق العصر الحالي، يمكن تشبيه السفن الأوروبية بجيش نظامي ظل يتعرض لحرب عصابات من قراصنة سلا. حتى أن مراكب الصيد البرتغالية والإسبانية كانت تعيش حال طوارئ دائما عندما تكون في رحلات صيد غير بعيد من مراسيها، مرعوبة من تعرضها لهجوم القراصنة في أي وقت. ونادرا ما كانت مراكب القراصنة تعمل منفردة، إذ كانت تخرج في مجموعات صغيرة من مركبين إلى ثلاثة مراكب تسند بعضها. من حيث الكم، لم يكن قراصنة سلا يملكون في البداية سوى أربعة مراكب. ثم.قفز عددها في العام 1626 إلى 60 مركب قرصنة، ثم عاد العدد للتقلص في 1637 إلى ما بين 40 و50، بينها عشرون مركبا كانت مجهزة بحوالي 20 مدفعا قويا. وفي 1647 تقلص العدد أكثر فبلغ 20 فقط. وخلال النصف الثاني من القرن السابع عشر وهو مرحلة أفول الجمهورية، تقلص عددها بشكل كبير وغريب إلى 6 مراكب قرصانية فقط. كان كل مركب قرصاني يحمل طاقم القيادة التي كانت تتشكل من علوج [مسيحيين ارتدوا عن دينهم ودخلوا دين الإسلام]، وتتكون من «الرَّيّس» ومساعده وقائد المركب وأفراد آخرين من طاقم القيادة. وإلى جانبهم يأتي في الدرجة الثانية البحارة المسلحون الذين يتم تجنيدهم من الأندلسيين أو من أبناء القبائل المحيطة بسلا، ويكونون بالمئات يتكدسون في المركب. وفي آخر التراتبية يوجد العبيد الأوروبيون الذين يدفعون مجاديف المركب، وتوكل إلى بعضهم مهمة العمل على الأشرعة. وكان أولئك الأسرى يقيدون عندما تشتعل المعارك حتى لا يتمردوا. وكانت أوراش صنع وإصلاح المراكب أقيمت بعيدا عن المصب وبالتحديد أسفل صومعة حسان. وأقيمت على جوانب النهر وحتى المصب أماكن خاصة بركوب الناس وشحن السلع.