بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    ميغيل أنخيل رودريغيز ماكاي، وزير الخارجية السابق لبيرو: الجمهورية الصحراوية المزعومة لا وجود لها في القانون الدولي    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    بريطانيا بين مطرقة الأزمات الاقتصادية وسندان الإصلاحات الطموحة    الجزائر والصراعات الداخلية.. ستة عقود من الأزمات والاستبداد العسكري    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    الوزير بنسعيد يترأس بتطوان لقاء تواصليا مع منتخبي الأصالة والمعاصرة    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء        التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة        "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مويط...أسير فرنسي في مملكة المولى إسماعيل
في خضم الجهاد البحري الذي أعقب طرد المسلمين من الأندلس
نشر في المساء يوم 27 - 04 - 2014

بعد سقوط غرناطة، آخر المدن الأندلسية، بيد الإسبان الكاثوليك عام 1492 للميلاد، لجأ العديد من الأندلسيين فارين بجلودهم إلى المغرب هربا من محاكم التفتيش. وقد استقروا في المدن الساحلية، وبشكل خاص في تطوان وسلا والرباط، حيث أنشأوا سلطة خاصة بهم عرفت باسم»جمهورية أبي رقراق»، نتيجة لأعدادهم الكثيرة ورغبتهم في أن يحكمهم واحد منهم. في المغرب بقيت المياه هي الحاجز الوحيد الذي يفصل هؤلاء الأندلسيين المهاجرين عن أعدائهم السابقين من المسيحيين، وعن ديارهم القديمة. وكانت الطريقة الوحيدة للانتقام من هؤلاء الأعداء هي تحويل المياه إلى ساحات حرب، بعد أن هزموا في البر داخل إسبانيا. وهكذا تحولت مدينة سلا إلى أقوى إمارات القرصنة في العالم في تلك الفترة، وخصوصا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بحيث إن فرائص بلدان أوربا كلها كانت ترتعد من بطش القراصنة المغاربة الذين فرضوا سطوتهم على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي لزمن طويل.
انتشرت كلمة قرصنة، للدلالة على أحداث تلك المرحلة، من المصادر التاريخية الأوربية التي كانت تطلق على تلك الأعمال التي يقوم بها المغرب تلك التسمية، التي تعني الخطف والاستيلاء والإغارة، لكن المغاربة آنذاك كانوا يعتبرون القرصنة جهادا بحريا في مواجهة الغطرسة الأوربية والإسبانية، بل إن تلك المرحلة سجلت بطولات نادرة في التاريخ. أما الأندلسيون المطرودون، الذين ظل الكثير منهم يحتفظ بمفاتيح سكناه وكأنه سيعود إليها يوما، فقد كانوا يعتبرون أعمال القرصنة علاوة على أنها جهاد ضد أعدائهم وخصومهم نوعا من استرداد ما ضاع منهم، من خلال السطو على ممتلكات السفن الأوربية والإسبانية، والانتقام من جلاديهم السابقين من خلال تحويلهم إلى عبيد وبيعهم في أسواق الرقيق بالرباط وسلا. وكانت العمليات التي تقوم بها جمهورية أبي رقراق تصل إلى عمق في مياه المحيط الأطلسي، وخصوصا في المنطقة الفاصلة ما بين السواحل الإسبانية والبرتغالية شمالا، وحتى جزر الخالدات (الكناري) جنوبا.
ومنذ القرن الخامس عشر، وإلى حدود بداية القرن الثامن عشر، تحول القراصنة المغاربة، ومعهم الجزائريون والأتراك والتونسيون، إلى ركاب مهرة للموج، وهاجموا السفن الأوربية في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، ساعدهم في ذلك كونهم على دراية دقيقة بالبحر وأحواله. كما هاجموا السواحل الإيبيرية، خصوصا وأن الكثيرين منهم كانوا يتوقون إلى العودة أو الانتقام، وكانوا يتحدثون الإسبانية بطلاقة وملامحهم تتشابه تماما مع ملامح الإسبان لأنهم إيبيريون في الأصل، وساعدهم في ذلك أندلسيون آخرون ظلوا في إسبانيا ونجوا من الطرد. وتحكي المصادر التاريخية أن القرصان، أو المجاهد البحري المغربي الأندلسي، سعيد دوغالي، الذي كان ينطلق من نهر أبي رقراق ما بين الرباط وسلا على متن مراكب يطلق عليها اسم «مراكب الجهاد»، تعود على محاصرة جزر الخالدات الإسبانية في عرض المحيط الأطلسي لأسابيع طويلة، يعود منها غانما الكثير من الثروات ومئات الأسرى من الأوربيين والإسبان.
لكن أعمال القرصنة كانت متبادلة بين الطرفين، فتارة ينتصر المغاربة وتارة ينتصر الأوربيون، فكان لدى كل طرف أسرى من الطرف الآخر، الأمر الذي حرك عجلة الدبلوماسية المتبادلة بين المغرب وبعض البلدان الأوربية وبالعكس، من أجل الإفراج عن هؤلاء الأسرى، يمكن أن نطلق عليها اسم»دبلوماسية الأسرى».
كان الأسرى الأوربيون والإسبان الذين يعتقلهم المجاهدون المغاربة بالآلاف، وهؤلاء كان يتم بيعهم في أسواق الرقيق للخواص، وفي بعض الأحيان كان بعض هؤلاء الأسرى العبيد ينتهي مصيرهم في قصر السلطان، الذي كان بدوره مهتما باقتناء العبيد.
اختطاف كاتب فرنسي
من بين هؤلاء الأوربيين الذين تعرضوا للأسر على يد المجاهدين المغاربة في عرض المياه كاتب فرنسي يدعى جرمان مويط، الذي ولد عام 1651 ومات عام 1691. فقد اختطف من قبل قراصنة سلا، وسجن في الرباط وسلا ومكناس، في عهد السلطان مولاي إسماعيل، لمدة إحدى عشرة سنة.
في 16 شتنبر 1670، كان مويط ضمن طاقم سفينة تجارية، أبحرت من ميناء دييب الفرنسي، في رحلة نحو الهند الغربية. وبعد شهر من انطلاق الرحلة، تمت قرصنة السفينة من طرف سفينتين سلاويتين، وأسر طاقمها (40 رجلا و 4 نساء) واقتياده إلى معقل القراصنة في مصب نهر أبي رقراق. تم بيع الأسرى في سوق النخاسة بالرباط، في الموقع المعروف ب»باب القنانط». وتناوب على ملكية مويط مجموعة من الأسياد، واشتغل لديهم كخباز وعامل إسطبل وبناء. كما اشتغل أيضا في مرسم أحد الأعيان المسلمين (الذي سماه بوجيمان في كتابه)، والذي كان يمتهن الرسم والنحت على الجبس، وهي الفترة التي تعلم فيها العربية والإسبانية، التي كانت لغة المهاجرين الأندلسيين المقيمين في المغرب.
وقد اشتغل مويط لسنتين كخادم في بيت أحد أسياده المغاربة بسلا، ثم في إسطبل حاكم القصبة، أي قصبة الوداية، التي كانت مركز ديوان القراصنة، وعند وصول مولاي إسماعيل إلى السلطة (1672)، قام بعزل الحاكم واستصفاء ممتلكاته، وضمنها جيرمان مويط. فانتقل هذا الأخير إثر ذلك للاشتغال بقصور المولى إسماعيل بفاس ومكناس، حيث امتهن البناء لمدة تسع سنوات، واشتغل خلالها أيضا في أوراش في القصر الكبير. في المجموع، ظل مويط 11 سنة في الأسر، قبل أن يتم تحريره سنة 1681 من طرف رهبان مسيحيين، ليعود إلى باريس، عبر تطوان وملقة وطولون وليون. وعند رجوعه إلى بلاده ألف مويط كتابا عن رحلته وأسره وحياته في المغرب تحت عنوان»قصة أسر السيد مويط في مملكتي فاس والمغرب، حيث بقي إحدى عشرة سنة». كما أنه ألف كتابا ثانيا عن فتوحات السلطان المولى رشيد الذي عاش مويط في الفترات الأخيرة من ملكه بالمغرب، وأخيه المولى إسماعيل الذي حكم المغرب من بعده.
في سوق العبيد بسلا
في مذكراته يروي مويط تفاصيل اعتقاله رفقة المسافرين الذين كانوا معه على متن السفينة التي كانت تبحر بهم إلى الهند الغربية الأمريكية، إذ تم أسرهم مع ما كان معهم من بضائع، ووضع السلاسل في أرجلهم واقتيادهم إلى مدينة سلا في سفينتين منفصلتين. ويقول عن مدينة سلا إنها عامرة بالتجار اليهود والمسلمين، الذين يعملون في مجال تجارة العبيد.
بمجرد وصولهم إلى سلا تم تسليمهم إلى رب السفينة، الذي احتفظ بهم إلى يوم عيد القديسين قبل بيعهم. ويصف مويط طريقة بيع العبيد في سوق النخاسة فيقول»وبعد ذلك أمسك الدلالون كل واحد منا بيده وأخذوا يسيرون بنا ورؤوسنا عارية على طول مساحة السوق، الذي يقام تحت قباب كبيرة، تسمى قنانيط، وهي قريبة جدا من النهر، في جهة القصبة. إن الذين يساومون الأسرى يحضرونهم أمامهم، يفحصون سنحنتهم وأيديهم، حتى يعلموا بذلك هل هم من العمال أم هم من الأسر الميسورة، فإذا رأوا أحدا حسن اللون ناعم اليدين عرفوا أنه غني، وتزايدوا في ثمن بيع ذلك البائس، على أمل أن يستخرجوا منه فدية ضخمة، إن كان من نصيبهم، وهذا ما يجعل الإفلات من أيديهم صعبا».
وحسب مويط، فإن الهدف من شراء العبيد الأوربيين ليس هو الاحتفاظ بهم أو تشغيلهم، بل المساومة بهم أمام بلدانهم وعائلاتهم من أجل الحصول على تعويض مادي أكبر مقابل الإفراج عنهم. وقد بيع هذا الكاتب الفرنسي بمبلغ ستين و 300 ريال، وكان سادته الذين اشتروه أربعة أشخاص، أحدهم حاكم قصبة أبي رقراق الذي يدعى أحمد بنيوكورت، والرابع تاجر يهودي.
وفي اليوم التالي أخذه أحد أسياده الأربعة، ويدعى محمد اليبوس، قال عنه إنه كان رجلا طيبا. أخذه هذا التاجر السلوي إلى بيته وسلمه إلى زوجته وحماته اللتين كانتا أندلسيتين، فأعطته الزوجة كيس قمح لطحنه في طاحونة يدوية، وهو عمل يقول عنه إنه كان شاقا وكان جل الأسرى المستعبدين يعملون فيه لدى المغاربة. لكن مويط لم يكن يحسن الطحن فكانت الطاحونة تصنع دقيقا غليظا لا يمكنه عجنه، فأعطته سيدة البيت ابنها الصغير لكي يتجول به في المدينة، كعمل يومي يقوم به. لكن الطفل ألف الأسير الفرنسي وأصبح لا يريد النوم إلا بجانبه، وعندما رأت صاحبة البيت ذلك أخذت تسمح له بالذهاب أينما يريد، وكانت تطلب منه دائما أن يعتنق الإسلام، كبرهان على محبتها له، لكي تزوجه من ابنة أخيها.
المسيح المنتظر
ويحكي مويط واقعة حصلت في مدينة سلا، عام 1671. ففي واحد من أيام تلك السنة وصلت إلى المدينة سفينة هولندية، قادمة من مدينة أمستردام، حاملة معها خبرا من يهود هولندا يهم يهود مدينة سلا، مفاده أن المسيح الذي كان هؤلاء ينتظرون ولادته منذ قرون طويلة سيولد بهولندا في العام المقبل، وعندما سمع يهود سلا تلك النبوءة السارة أقاموا عيدا ثانيا للمظال. وعيد المظال هو ثالث الأعياد السنوية الكبرى عند اليهود، حيث ينصب اليهود مظلات أثناء مدة العبادة مصنوعة من الأشجار الخضراء، ويستمر العيد مدة سبعة أيام.
وذات يوم اجتمع كبار يهود المدينة عند أحدهم، الذي يدعى يعقوب بونيو، فتراهن هذا الأخير وتاجر يهودي آخر وهما يشربان نخب المسيح، على أن يعطيه التاجر مبلغ أربعمائة درهم إذا ولد المسيح قبل نهاية العام، فمد التاجر اليهودي يده موافقا. وبعد نهاية العام ذهب يعقوب بونيو إلى بيت التاجر مطالبا إياه بأداء ما بذمته، فرد هذا الأخير بأنه كان يحسب الأمر مجرد مزاح، لكن الأول أصر على أخذ المبلغ المراهن به، فلما رفض التاجر ذهب يعقوب بونيو إلى عامل المدينة مشتكيا، وذكر له أسماء اليهود الذين كانوا حاضرين كشهود، فقضى العامل على التاجر بدفع المبلغ، وعندما غادر التاجر المكان اقتسم يعقوب بونيو والعامل الأربعمائة درهم فيما بينهما.
من سلا إلى فاس
بعد فترة قصيرة من حياته في بيت التاجر الذي يدعى اليبوس طالب به حاكم القصبة أحمد بنيوكورت، فانتقل مويط إلى بيت هذا الأخير الذي كان يعامله بقسوة شديدة، حيث كان يتعرض للضرب وكانت تتم مساومته لأداء مبلغ ألف ريال كفدية، وهو لا يملك منها شيئا. وفي هذه الأثناء اعتلى السلطان المولى إسماعيل عرش المغرب، خلفا لأخيه المولى رشيد الذي كان عائدا من إقليم مراكش منتصرا في إحدى معاركه هناك. وكان السلطان المولى إسماعيل قد غضب على حاكم القصبة بنيوكورت، لأن هذا الأخير كان قد احتقره مرة عندما كان السلطان مجرد أمير، فأرسل يطلب منه التوجه إلى فاس مع جميع جنوده، فارتاب بنيوكورت من نوايا السلطان تجاهه وتخوف من المعاملة التي سيعامله بها، واعتراه خوف شديد حتى صار كالمسعور. وفي الليلة التي كان سيسافر فيها إلى فاس بدأ ينزل غضبه على عبيده انتقاما منهم، فضرب أسيرا إسبانيا على رأسه فأرداه قتيلا، وضرب مويط ضربا شديدا أصيب بسببه بجروح بليغة، ثم غادر متوجها إلى فاس. وعندما وصل المدينة ورآه المولى إسماعيل هم بقطع رأسه، لكن بعض الشرفاء والقواد تشفعوا له فعفا عنه السلطان، لكنه أمر بتجريده من الجنود الذين يعملون تحت طاعته، وأمره بالبقاء في فاس القديم والعيش فيه كواحد من الناس العاديين، وأرسل أحد خدامه إلى سلا لنقل جميع ممتلكاته، وكان مويط واحدا من العبيد السبعة الذين انتقلوا إلى فاس وأصبحوا جزء من عبيد السلطان.
المسلم والكلب
ويروي مويط في مذكراته قصة طريفة حول تبادل الأسرى بين المولى رشيد وبعض البلدان الأوربية. فذات مرة طلب منه أهل مدينة تطوان أن يتدخل لكي يخلص أحد أشهر قراصنتهم، ويدعى السيد بن حدو، من السجن والأشغال الشاقة في جزيرة جنوة. فبعث المولى رشيد إلى أهل الجزيرة أسيرا يهوديا مقترحا عليهم الإفراج عن جميع الأسرى المغاربة المسلمين عندهم مقابله، لكن الجنويين طلبوا من السلطان أن يرسل إليهم كلبا مقابل إطلاق سراح القرصان التطواني، مظهرين بذلك أنهم يعتبرون المسلم مجرد كلب.
غضب المولى رشيد لهذه الإهانة إلى درجة أنه أقسم أن لا يحرر أي أسير مسيحي على الإطلاق، مهما كان الثمن الذي يدفع فيه. وبعث في الحين إلى أهل سلا وتطوان طالبا منهم استئناف غاراتهم البحرية على المسيحيين بأكثر ما يمكن من الحدة والحماسة، بل أمر بصنع سفينتين للغرض نفسه، كما أمر عاملي المدينتين بأن يرسلا إليه في فاس بجميع رياس السفن التي يأسرونها، مع ضباطها والمسافرين والتجار الذين على متنها، حتى يتركهم يموتون في سجونه بفاس في الأشغال الشاقة التي ينوي استخدامهم فيها.
السلطان يريد إحراق العبيد
بعد تلك القصة قرر السلطان المولى رشيد إحراق جميع العبيد الذين في حوزته، والسبب هو أن أحد الأشخاص المجهولين، يصفه مويط بالمشعوذ، تقدم إلى السلطان زاعما أنه عبد مسكين هرب من أيدي الإسبان، وأنه قاسى الويلات على أيد المسيحيين هناك، وقام باختراع أعاجيب من التعذيب والتنكيل التي يتعرض لها المسلمون في إسبانيا، فتأثر السلطان لذلك الاضطهاد وصاح قائلا:»أيجوز أن يعامل إخواني هكذا بأوربا، ويكون هؤلاء الكلاب المسيحيون في عيشة راضية معي إلى هذا الحد؟». وفي غمرة غضبه استدعى حرسه وأمرهم بتجميع كل العبيد في ساحة كبيرة خلف قصره وأن تشعل الأعواد لإحراقهم. وبينما الأسرى العبيد ينتظرون مصيرهم المحتوم جاء رجل إلى الملك وبين له أن إعدام العبيد بهذه الطريقة ظلم كبير، وقال إنه قضى في إسبانيا أكثر من عشرين سنة أسيرا دون أن يتعرض للمعاملة السيئة، وبين له أن الرجل الأول الذي حضر عنده وزعم له ما زعم مجرد كذاب. فأرسل السلطان في طلب ذلك الرجل فلم يجدوه، وعفا عن العبيد ولم يقم بإحراقهم.
المسيحي والأسود
ويحكي مويط قصة غريبة في مذكراته، واضح أنه يستهدف بها عقول المسيحيين البسطاء لكي يؤثر عليهم ويحثهم على دفع المال لافتداء الأسرى المسيحيين، باسم الدفاع عن المسيح، لكي يؤكد على أن الدين المسيحي هو الدين الحق وأن الإسلام ليس دينا صحيحا.
كان بين الأسرى المسيحيين في قصر السلطان المولى إسماعيل شاب عمره خمسة وعشرون سنة يدعى برنار بوصي، وكان مكلفا بحراسة ثياب غلمان السلطان وأسلحتهم، ومكلفا بحراسة المخازن في القصر المجاورة لباب الحريم، كما أنه كان يعلم اللغة الإسبانية لاثنين من أبناء السلطان. ولما كان السلطان يكن له المودة فقد دعاه إلى اعتناق الدين الإسلامي، لكن عندما رأى أن جميع الطرق لم تؤد إلى التأثير على فكر الشاب المسيحي، لجأ السلطان إلى العنف والمعاملة السيئة، كما يقول مويط.
ويزعم الكاتب الفرنسي أن المولى إسماعيل بدأ يبحث عن مبررات سخيفة لإيقاع العقاب بالشاب المسيحي في كل مرة، مثل أن يأخذ قشتين من التبن في الطريق ويتهمه بأنه لم ينظف الزقاق بشكل جيد، ثم يبدأ في ضربه ضربا مبرحا، ويدفعه إلى عبدين أسودين يجلدانه مئات الجلدات. وذات مرة طعنه السلطان برمح قرب عينه اليمنى وأمر عبيده بإلقائه في حديقة الأسود. وتقع تلك الحديقة بين أربعة أسوار عالية، محاذية لأسوار القصر، لا يفصلها عن البيت الذي يقيم فيه مويط والعبيد الآخرون سوى ثلاثة أشبار، يقول إن الأسود نبشته مرة حتى كادت تدخل ليلا إليهم.
لما سمع الشاب المسيحي ذلك الحكم القاسي برميه إلى الأسود لالتهامه صعد إلى السلم وعزم على أن يرمي نفسه بنفسه في حديقة الأسود بدلا من أن يتحمل ألم القذف فيها. فنزل المولى إسماعيل عن فرسه وصعد فورا على السلم طالبا منه أن يبدل دينه وإلا افترسته الأسود، لكن الشاب أجابه مطمئنا بأنه غير قلق لذلك، وأن الأسود لن تتسبب له إلا في ميتة شريفة»وهو يفضل أن يكون جسمه طعاما لها، من أن تصبح روحه فريسة للشياطين(الإسلام)». عندئد تقدم السلطان لكي يدفعه، لكن الشاب رمى بنفسه قبل أن يصل إليه، لكي يقع وسط أربعة عشر أسدا جائعا. وعندما رأت الوحوش الفريسة قامت وجعلت تزأر وتستعد للانقضاض على ذلك الشاب»الذي كان يذكر الله ويتوسل إلى سيدتنا حامية الأسرى وإلى سانت آن»، لكن الأسود عادت وجثمت مرة أخرى على الأرض كأن قوة سرية أمسكتها، ثم قام بعضها إلى الشاب لكي تأكله لكنها تراجعت، فمرت بجانبه دون أن تمسه بسوء. وهكذا استطاع ذلك الشاب المسيحي البقاء على قيد الحياة.
وبعد ثلاثة أيام من ذلك الحدث، أمر المولى إسماعيل برمي ثلاثة فقهاء مسلمين مغاربة في حديقة الأسود تلك، بعد أن غضب عليهم، فمزقتهم الأسود إلى أشلاء على الفور.
ويعلق مويط على القصة الأولى بطريقة تظهر الهدف من اختلاقها، وهو رفع الروح المعنوية للمسيحيين المبشرين، والتقليل من قيمة حالات الأسرى الذين كانوا يعتنقون الإسلام عن طواعية، والزعم بأن المغاربة كانوا يكرهونهم على اعتناق الإسلام بالقوة، إذ يقول»إن القصة السابقة كسائر محتويات هذا الكتاب تعرف بما فيه الكفاية بمحنة أسرى إفريقيا المساكين والخطر الذي يتعرضون له كل يوم، أو المروق من دينهم، والموت من جراء قساوة ساداتهم وحراسهم». بل إنه في مكان آخر من المذكرات يعترف بأن المغاربة كانوا يمنحونهم الكتب المقدسة المسيحية في أعياد الميلاد وعيد العنصرة وعيد الفصح وعيد ميلاد العذراء»فكنا نطلبها لتخصيصها لدعاء الله وترتيل الزبور والأناشيد الدينية، وكانوا يعطوننا إياها».
وفي مكان آخر يعود فيزعم أن المسلمين كانوا يحرقون الأسرى الذين يرفضون اعتناق الإسلام وترك المسيحية، وعادة الحرق لم تعرف سوى في أوربا، بينما لم يحدث هذا في تاريخ الإسلام، ويبدو أنه أراد ابتكار صورة قوية لإقناع المسيحيين، فلم يجد في ذهنه سوى تلك الصورة الموجودة في تاريخ المسيحية، باعتبارها أبشع طريقة لمعاقبة من يرفض ترك ديانته.
أسيران في مطمورة
حسب مويط كان المغاربة يحاولون تكليف الأسرى المسيحيين بعدة أشغال، مثل تنظيف الأزقة وحمل الأحجار، اعتقادا منهم بأنه إذا تركوهم عاطلين فسيفكرون في الفرار، أما إذا كانوا تعبين فلن يستطيعوا التفكير سوى في أخذ قسط من الراحة.
ووفق شهادته فقد كان نحو عشرين أسيرا يحاولون أن يجربوا حظهم في الفرار كل سنة، فكانوا يجمعون كسرات الخبز ويجففونها في الشمس كمؤونة، وعندما يجمعون ما فيه الكفاية كان زملاؤهم يدفنونهم في خنادق على طول الأسوار خارج قصر مكناس، باستثناء الرأس الذي كانوا يغطونه بالعشب حتى يتمكن الأسير المختفي من التنفس، وكان الأسرى الآخرون يتغوطون قرب ذلك المكان لكي يتقزز المغاربة فلا يستطيعون الاقتراب من ذلك المكان، وعندما يأتي الليل كان هؤلاء الأسرى يقومون من مكانهم ويغادرون المدينة ليلا. كان يوم الجمعة هو اليوم الأنسب للقيام بهذه العملية، لأن المغاربة المكلفين بالأسرى كانوا يتوجهون كلهم إلى المساجد للصلاة في وقت الزوال، ولا يبقى سوى اثنان أو ثلاثة في حراسة الأسرى.
وذات مرة دفن أسيران إسبانيان نفسيهما حيين كما هي العادة في مطمورة بعيدة عن الناس خلف الحريم الجديد، فأغلق أحد أصحابهما تلك المطمورة بخشبة، وكان الوحيد الذي يعرف سر الإسبانيين فيها، ثم وضع فوق الخشبة شيئا من التراب، تاركا ثقبا لدخول الهواء. ونظرا لشدة الحرارة لم يكن الهواء الذي يدخل عبر الثقب كافيا، فأضعف ذلك قوة الأسيرين حتى أنهما لم يستطيعا النهوض فاختنقا داخل المطمورة. وفي اليوم التالي ذهب صاحبهما إلى المكان لكي يتأكد من فرارهما، ولما رأى الثقب الذي في الخشبة ظن أنهما قد فرا ولم ينظر إلى داخل المطمورة. لكن بعد ثمانية أيام كان أحد المسيحيين يبحث عن الأعواد لطهي طعامه، فرأى تلك الخشبة فجرها فطلعت إلى أنفه رائحة كريهة، ولما نظر بالداخل وجد جثتين مغطاتين بالدود والفئران، فذهب لكي يخبر القسيس، وهو إسباني من جماعة الثالوث المقدس لحفاة مدريد كان مقيما مع الأسرى، فكان رأي هذا الأخير أن يهال عليهما التراب وأن يبقيا في مكانهما حتى لا يبحث المغاربة عما إن كان هناك آخرون تحت الأرض، منتظرين دورهم في الفرار.
وعندما كان يفر أحد الأسرى كان العامل يبعث على الفور بفرسان يجوبون البادية ليأمروا الأعراب وقواد الحاميات الموجودة قرب مراكز المسيحيين بالتوجه إليها، وتوقيف جميع من يصادفونهم هناك. وتستمر الحراسة مدة خمسة عشر يوما، ويقول مويط إنه كانت معجزة أن يفلت أحد الفارين، فإذا ألقي القبض على واحد منهم كان يعاد إلى مكانه لكي يتعرض للتعذيب، رغم أن السلطان لم يكن يريد أن يعامل السجناء الفارين بقساوة. فكان هؤلاء يقومون بالأشغال الشاقة، ويقول مويط إنه رأى في سلا أسرى قطعت آذانهم لأنهم حاولوا الفرار، وفي سلا رأى سجناء نزعت منهم قطعة من لحمهم الميت بعد أن تعرضوا للضرب في ظهورهم لأكثر من خمسمائة جلدة.
المولى إسماعيل سلطان يسير على رأس جنوده
يصف الأسير الفرنسي مويط السلطان المولى إسماعيل الذي يقول إنه طالما أتيحت له الفرصة لمشاهدته ومشاهدة حاشيته العادية، حيث يقول عنه»إن مولاي إسماعيل الحسني، ملك فاس ومراكش وتافيلالت، عمره سبع وثلاثون سنة، وهو طويل القامة إلى حد ما، لكنه نحيف جدا ولو أنه يظهر غليظا بسبب ثيابه. وجهه الكستنائي اللون الفاتح طويل شيئا ما، حسن الملامح، ذو لحية طويلة ومتفرعة قليلا، ونظره الذي يبدو عذبا إلى حد لا يدل على إنسانيته، بل بالعكس إنه شديد قاس إلى درجة أن رعاياه يقولون إنه لم يسبق لهم أن رأوا أميرا يضاهيه».
كان السلطان المولى إسماعيل يتصف بصفات الشجاعة والخبرة في الحروب، إذ يقول عنه الأسير الفرنسي:»ومن جهة أخرى فإنه خبير جدا بالحرب، شجاع عظيم في شخصه، يسير دائما على رأس جنوده، ويصففهم بنفسه عند المعركة. يكون دائما هو المهاجم الأول لأعدائه ولا يفر أبدا، وهو صبور في الشدائد، رغم أنه مرارا كثيرة كان على وشك فقد إمارته. له مهارة كبيرة في ركوب الخيل والطعن بالرمح، ولقد رأيته مرارا يمسك أحد أبنائه في ذراع والرمح في يده الأخرى، ويعدو مسافة طويلة دون أن يكبو فرسه. ويوجد دائما في حاشيته العديد من الشرفاء والقواد ينيف عددهم على مائتين، مرتدين الزي التقليدي برشاقة، ويرافقونه على ظهور الجياد صباح مساء عندما يذهب للتفسح، فضلا عن أربعة آلاف من حراسه السود العاديين، الذين يعيشون في خيام حول مدينة مكناس».
ويقول مويط في وصف قساوة السلطان المولى إسماعيل:»كان صعبا على من عصاه، ولا عجب في ذلك لأن عادة الأعراب تشوفهم دائما لنزع السلطان وتولية غيره، ولهذا كان المولى إسماعيل شديدا عليهم، وبهذا ثبت ملكه، ولم يسترح مدة ملكه من مواصلة الحركات والغزو ستة أشهر موالية، فلهذا السبب لم يتفرغ لدرس الشؤون البحرية ويهتم بالبحث عن العارفين بأمر البحر على قدر ما كان مهتما بداخلية البلاد، يدل على ذلك ما جاء في كتابه إلى جيمس ملك الانكليز –وهو يومئذ بفرنسا لنزاع جرى بينه وبين شعبه- : (والله لولا أننا أناس عرب لا معرفة لنا بالبحر، أو كان عندنا من يحسن معرفته أو نستوثق به في الجيش ونطلقه في يده، حتى نكاتب الانكليز ونبعث لك من الجيش ما تدخل به عليهم وتتولى به ملكك).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.