كيف كان ينظر الفرنسيون إلى المغرب والمغاربة في نهاية القرن السابع عشر؟ كيف كانوا يرون سلطان المغرب آنذاك؟ وكيف كانت نظرتهم كمسيحيين إلى المغاربة بوصفهم مسلمين؟. قبل أزيد من قرن لم يكن المغرب معروفا على نطاق واسع في الخريطة العالمية، خاصة لدى العواصم الأوروبية التي كانت ما تزال تتصارع فيما بينها لأسباب دينية وسياسية وترابية في وقت واحد. أما الكتابات عن المغرب في تلك الفترة فكانت نادرة جدا، مما كان يفتح المجال أمام انتشار الشائعات التي تقرن المغرب تارة بإفريقيا السوداء، وتارة بالعالم «البربري»المتخلف، وأخرى بمشاكل الدول الأوروبية مع أعمال القراصنة في البحر المتوسط. وعلى الرغم من أن المغرب كان قد عرف إبان نهاية القرن الخامس عشر ونهاية القرن الموالي، بسبب هجرات المسلمين من غرناطة وشروعهم في مناوشة إسبانيا الكاثوليكية عسكريا أو عبر القرصنة في مياه المتوسط، إلا أن صورته ظلت غير واضحة من الداخل، من حيث مكوناته البشرية والثقافية وحياته السياسية. وتعتبر رحلة السفير الفرنسي فرانسوا بيدرو دي سانت أولون من الأعمال الأولى التي سجلت مشاهدات مسؤول فرنسي زار المغرب في تلك المرحلة. لكن السفير الفرنسي، الذي زار المغرب مبعوثا من ملك فرنسا لويس الرابع عشر، لم يكن ينوي تأليف كتاب حول الزيارة التي قام بها، بل اكتفى بتسجيل مشاهداته وبعض مذكراته لتكون مجرد تقرير يرفع إلى أنظار الملك، قبل أن تصبح الرحلة كتابا تم نشره عام 1695 تحت عنوان «علاقة بإمبراطورية المغرب». في رواية السفير الفرنسي بعض المبالغات التي يبدو أنها كانت منتشرة عن المغرب وعن سلاطينه في تلك الفترة في أوروبا المسيحية، إلى درجة أنه يسقط في بعض التناقضات فيما يتعلق بوصف سلطان المغرب، حيث يقدمه في مكان باعتباره حاكما متسلطا كما كان الحال في أوروبا في ذلك الوقت، وفي مكان آخر يقدمه على أنه «متقيد بالشرع»، أو حينما يشير إلى أن السلطان شره إلى المال محب للجاه والأبهة، لكن في مكان آخر يتحدث عن أن السلطان يجلس على الأرض مباشرة دون فراش. من هو بيدرو دي سانت أولون؟ ولد عام 1640 بتورين، وتوفي بباريس عام 1720. تولى العديد من المهام الديبلوماسية في بلاط لويس الرابع عشر، من بينها ترؤس البعثة الديبلوماسية إلى المغرب عام 1689، في مهمة من الملك إلى السلطان المغربي المولى إسماعيل. فقد كان لويس الرابع عشر يريد توقيع اتفاقية تجارية مع المغرب، وفي نفس الوقت طرح قضية تحرير الأسرى الفرنسيين الذين أسرهم القراصنة في البحر الأبيض المتوسط، الذين كان يطلق عليهم «قراصنة سلا». وقد تكررت زياراته للمغرب، ففي عام 1690 زار السفير الفرنسي مدينة سلا، لزيارة القنصل الفرنسي جون بابتيست إيستل، وبعد ثلاث سنوات زار مدينة مكناس حيث قابل السلطان المولى إسماعيل في قصره، لكن السلطان ومستشاريه رفضوا بندا من الاتفاقية كان ينص على أن يكون بين البلدين المغرب وفرنسا تنسيق في تحرير أسرى القراصنة، حيث برر المولى إسماعيل رفضه ذاك بأن تلك المهمة يمكن أن يقوم بها أي تاجر من التجار الذين كانوا يعملون في مجال الوساطة لإطلاق سراح الأسرى الأجانب. وخلال هذه الزيارة الأخيرة، التي مكث فيها السفير الفرنسي ثلاثة أسابيع متنقلا بين أرجاء المغرب، كتب مذكراته وشهاداته عما رآها. مهمة تنصيرية؟ يبدأ بيدرو دي سانت أولون مذكراته برسالة وجهها إلى الملك لويس الرابع عشر، يذكر فيها بالأهداف التي جاء من أجلها إلى المغرب. ويقول السفير الفرنسي إنه، خلال لقائه بالسلطان المغربي المولى إسماعيل لم ينس الوصايا التي وجهت إليه، للإشادة بالسلطان والثناء عليه ومدحه، بهدف إنجاح المهمة التي حضر من أجلها، وهي «تحرير رعاياكم العبيد وضمان مصالحكم التجارية». ولكن السفير يضيف ما يفيد بأنه دخل في حوار أو نقاش مع بعض المغاربة حول الديانة المسيحية والدين الإسلامي، ويتيح لنا أن نفهم كيف أنه كان يعتبر الإسلام ديانة قديمة تعود إلى إمبراطورية قرطاجنة، إذ يشير إلى محاولات قام بها من أجل «قلب ذلك الإيمان القرطاجني الذي يمارس اليوم بشكل عريض، بهدف اقتلاع فسيلته التي أصبحت أكثر قوة من ساقها، بل الأكثر من ذلك سأشير إلى أن جهودي كانت ستكون كافية لاقتلاعها، ولم يكونوا قادرين على زعزعتها». صراع السلطة يقدم السفير الفرنسي لرحلته بالتعريف بالدولة المغربية، فهو يكتب بأن السلطان «الشهير» المولى رشيد، سلطان تافيلالت، وشقيقه المولى إسماعيل، الذي سيكون خليفته المباشر، قد تمكنا من توحيد ممالك مراكشوفاس وتافيلالت وسوس وإقليما واسعا من درعة، تحت سلطة مركزية واحدة، هي التي تشكل اليوم ما نسميه المغرب، الذي يسود فيه المولى إسماعيل. ويرجع السفير الفرنسي إلى البدايات الأولى، فيسجل في مذكراته أن المولى الشريف، سلطان تافيلالت ووالد المولى إسماعيل «يعودان بأصولهما الأولى إلى محمد الذي يرتبطان به من خلال ابنته فاطمة». وبعد وفاة المولى الشريف تولى الرشيد خلفا له ابنه المولى أحمد، أكبر إخواته البالغ عددهم أربعة وثمانين ابنا من الذكور، وأربعة وعشرين من الإناث، اللواتي عشن. ولكن المولى أحمد، أحد هؤلاء الأبناء، لم يقبل الخضوع لسلطة شقيقه، فشق عليه عصا الطاعة، وتحالف مع مجموعة من القواد وضع معهم خطة للاستيلاء على الحكم، لكن السلطان اعتقل أولئك القواد وقام بإعدامهم وسجن أخاه. بيد أن المولى أحمد تمكن من الفرار من السجن، وحاول الكرة مرة ثانية للإطاحة بأخيه ونيل الحكم، إلا أن السلطان تمكن منه في المرة الثانية أيضا وقام بوضعه داخل السجن. وفي هذه المرة أيضا نجح المولى أحمد من الفرار من السجن، بمساعدة عبد أسود كان مكلفا بحراسته، اختاره السلطان حارسا على السجن لكونه أكثر العبيد الأوفياء. وقد تمكن المولى أحمد من التأثير على ذلك العبد بعد التوسل إليه وإمطاره بالوعود، وأشركه في وضع مخططاته المستقبلية. وبعد أن فتح له باب السجن وغادراه معا، قرر المولى أحمد التخلص من العبد الذي خان سيده، خوفا من تكرار خيانته معه، فقتله بضربة على رأسه. قصد المولى أحمد الزاوية الدلائية التي كان يرأسها محمد بن أبي بكر، وخدم عنده كمريد بسيط مثل باقي أتباعه دون التعريف بهويته الحقيقية، فقربه شيخ الزاوية وبدأ يكلفه ببعض المهام التي كان ينجزها السجين الهارب حرفيا، مما جعل محمد بن أبي بكر يوليه اهتماما زائدا. لكن في يوم من الأيام جاء أحد التجار الذين يحملون التمر، فرآه فسلم عليه باعتباره واحدا من إخوة السلطان، فارتاب سكان الزاوية الدلائية في أمره، وشككوا في كونه يدبر أمرا طالما أنه جاء إلى الزاوية متنكرا في صفة شخص عادي، فقرروا أن يقتلوه ونصبوا له كمينا، لكنه نجا منه وهرب إلى مليلية. وهناك قصد حاكم المدينة ونال ثقته، لكنه بعد فترة من الزمن استولى على أملاكه وعلى سلطته وجيشه، فقرر استئناف المعركة مع شقيقه، فتقاتل الاثنان في معارك طاحنة انتهت بهزيمة المولى أحمد، لكي يعود إلى السجن مرة ثالثة، لكن خشيته من قسوة أخيه عليه ومن التعذيب جعلاه يفارق الحياة(السفير الفرنسي لا يتحدث عن السبب). وبعد وفاته وجد السلطان المولى الرشيد الطريق ممهدة أمامه لمواصلة فتوحاته، بعد أن زالت العقبة التي كانت تحول بينه وبين السير فيها قدما. وهكذا استعاد مدينة سلا وفتح مدينة فاس ومنطقة سوس، وكانت هذه المنطقة تستسلم له إما «بقوة الأسلحة أو بالخوف من الرعب الذي كان ينشره». إلا أن المولى الرشيد انتهى هو أيضا نهاية مأساوية. وحصل ذلك في أحد الاحتفالات، فبعد أن جمع حاشيته وبالغ في تناول الخمر مع أصدقائه المقربين، بدا له أن يقوم بدورة داخل حديقة القصر المليئة بأشجار الليمون على ظهر فرسه، لكن الفرس ركض به بقوة زائدة فارتطم رأس السلطان بغصن من تلك الأشجار كسرت جمجمته، ومات بعد ثلاثة أيام من إصابته، سنة 1672. سر التفاحات الذهبية يصور السفير الفرنسي السلطان المولى إسماعيل كملك قوي كان يتميز بالسطوة وركوب المخاطر ومحب للسلطة والمال. فأثناء حديثه عن مدينة مراكش، التي لم يكن عدد سكانها يتجاوز آنذاك الخمسة آلاف نسمة، يذكر أن من خصوصيات المدينة قصر السلطان والمسجد الكبير الذي كان قد بناه يعقوب المنصوب الموحدي، ثم أعيد بناؤه بعد الانفجار الذي ضربه عام 1569، وكان يسمى»مسجد التفاحات الثلاث» لأن منارته ركز فيها عمود به ثلاث تفاحات من الذهب تزن كل واحدة منها مائة وثلاثين ألف مثقال. وحسب الحسن الوزان المعروف ب«ليون الإفريقي» صاحب «وصف إفريقيا»، فإن بعض ملوك المغرب أرادوا أن يزيلوا هذه التفاحات ويصنعوا منها نقودا، عندما اشتدت حاجتهم إلى المال، ولكنهم في كل مرة كانت تحدث لهم حادثة غريبة تدفعهم إلى ترك التفاحات في محلها. ويظهر أن السفير الفرنسي الذي ربما اطلع على كتاب الوزان ربما تأثر بهذه الحكاية، فهو يقول إن تلك التفاحات الثلاث كانت تفاحات مسحورة، ذلك أن زوجة السلطان المنصور تبرعت بحليها الذهبية من أجل بناء تلك المعلمة، لكي تبقى للأجيال المقبلة شاهدة على تلك المرحلة التي عاشتها، وأن تلك التفاحات «وضعت بطريقة معينة تحت السماء بحيث لا يمكن نزعها من مكانها، وأرغم المهندس الذي وضعها الشياطين، مستعملا بعض التعازيم، على حراستها»، لكن المولى إسماعيل لم يعبأ بما يقال على ألسنة العامة وقرر نزع تلك التفاحات من مكانها، بسبب «قوة شراهته إلى المال» حسب السفير الفرنسي، وخبأها مع ممتلكاته، رغم أن الناس كانوا يتناقلون بعض الحكايات التي تقول بأن الشيطان كان يقطع عنق كل من تجرأ على الاقتراب منها لانتزاعها. صورة المولى إسماعيل يرسم السفير الفرنسي صورة مثيرة للسلطان المولى إسماعيل عندما قابله لأول مرة، بعد أن كان قد قضى عشرين عاما في الحكم. إنه رجل يقع عمره ما بين التاسعة والاربعين والخمسين عاما «أسمر، نحيل، له شعر أسود بدأ يغزوه الشيب، ذو قامة متوسطة ووجه بيضوي، وجنتاه غائرتان، وكذلك عيناه السوداوان المليئتان بالنيران(...) بخيل وقاس جدا، وهو قادر على فعل أي شيء من أجل المصلحة والشره إلى المال، ويحب كثيرا أن يريق الدماء بنفسه، بحيث يقال بأنه طيلة العشرين عاما التي قضاها في السلطة قتل بيديه أكثر من عشرين ألف شخص». بل إن السفير الفرنسي يضيف بأن المولى إسماعيل قتل بيديه سبعة وأربعين شخصا، فقط خلال الأيام الواحد والعشرين التي قضاها السفير نفسه في القصر، وبأن السلطان استقبله، في آخر لقاء، أمام اسطبل خيوله راكبا ظهر حصان وجميع ثيابه ويديه ملطخة بالدماء لأنه كان قد قتل لتوه اثنين من عبيده بالسكين. ويقول إن الخوف من السلطان يكون أشد عندما يرتدي لباسا أصفر اللون، فهو نذير شؤم بالنسبة لكل من يقابلونه في تلك اللحظات، وفي تلك اللحظة التي قابله فيها كان يرتدي قميصا أصفر اللون، لذلك كان في أكثر لحظاته دموية. وحسب مذكرات السفير فإن»جميع الأمم تستغرب للخضوع والصبر اللذين يتحلى بهما هذا الشعب الذي يعاني من مثل تلك القسوة البالغة، ولكن يجب أن نعرف بأنه علاوة على العجز العام وعدم القدرة على مواجهة السلطان، فإنهم يتنبؤون بأن الموت الذي يأتيهم على يد السلطان الشريف الذي ينحدر من النبي الذي يؤمنون به، يقودهم قدما إلى الجنة». وعن المولى إسماعيل وعلاقته بالرعية يقول:«إنه غير مهتم سوى بأن يكون مصدر خوف من طرف رعاياه، ولا يأبه إلا قليلا جدا بأن يكون محبوبا منهم، ولا أحد يقترب منه إلا وهو مضطرب، وحسب الواجب، ولكن ليس بدافع المحبة إطلاقا، كما أن لا أحد يتقدم أمامه بدون تلقي أمر بذلك، أو بدون الحصول على إذن به، ولا يمكن أن يتقدم أمامه أحد دون أن يكون حاملا معه هدية». ويصف السلطان بأنه نشيط جدا ولا يتعب أبدا، وممارس جيد لجميع الألعاب والرياضات مثل رمي النبال وركوب الخيل، لكنه لا يشرب الخمر إطلاقا، لأن دينه يمنع عنه ذلك، لكنه عندما يتناول الأفيون، الذي يعده باليانسون والقرنفل والقرفة وجوز الطيب «فويل لمن يتعرض لأدخنته». أما عن علاقة المولى إسماعيل بالنساء فالكاتب يقول إنه كان يملك أربع مائة منهن في قصره «لحاجته الخاصة»، وفوق هذا العدد كان هناك عدد مماثل لخدمتهن. أما الأولاد فهناك مائة وثمانية عشر ابنا من الذكور الأحياء«دون ذكر البنات اللواتي لا يمكن عدهن، واللواتي يمكن أن يصل عددهن إلى مائتين»، وعن سلوكه مع محظياته في حالة الإنجاب يقول«إنه لا يأخذ من محظياته، اللواتي يغيرهن باستمرار، سوى الأولاد، ويترك لهن البنات حتى من دون أن يعطيهن ما يعشن به». لكن السلطان مع ذلك لم يحتفظ من كل أولئك النسوة سوى بأربعة، عملا بشريعة الإسلام، أما الباقي فهن إما محظيات أو إماء «وهو خاضع لحكم واحدة من نسوته الأربع، سوداء اللون، وتفتقد للجمال، وأم لواحد لأولاده الذي يبدو أنه يعده لخلافته، وهو المولى زيدان». وعن علاقته بالممالك الأخرى يقول السفير الفرنسي إن المولى إسماعيل «يتصرف وفق الحكم المطلق، ويقارن نفسه دائما بإمبراطور فرنسا، الذي يقول عنه إنه الوحيد الذي يحكم مثله ويضع قانونا نابعا من إرادته، وهو يستشهد دائما برسالة وجهها النبي محمد إلى هرقل، ويضيف بأن كل المجد الذي يتميز به ملوك فرنسا سببه عنايتهم الدينية بهذا القانون، أما الملوك المسيحيون الآخرون فهو يصفهم دائما بأنهم غير مستقلين، ولا يتحدث عنهم إلا بكل احتقار». الاستقبال السلطاني حظي السفير بيدرو دي سانت أولون باستقبال السلطان المولى إسماعيل له في قصره بمكناس يوم 11 يونيو عام 1693، في الحادية عشرة صباحا كما يسجل في مذكراته، في الوقت الذي كان السلطان في أوج حملاته على رأس حوالي إثني عشر خيالا. ويذكر بأنه طيلة المدة التي قضاها ضيفا على السلطان داخل القصر، في الجناح الذي خصص له، منع من الخروج وحتى من استقبال أي شخص، في انتظار موعد الاستقبال. وعندما حان الموعد حضر لديه القائد أحمد عبدو الريفي، قائد منطقة العراش والقصر، مصحوبا ببعض المسلمين المغاربة وبعض العبيد السود الأفارقة المكلفين بحراسة السلطان. ويذكر السفير أنه كان مرفوقا باثني عشر من العبيد الفرنسيين الذين كانوا مكلفين بحمل الهدايا العينية التي سوف يقدمها للمولى إسماعيل، وتتشكل من بعض الأسلحة الجميلة وعدد من الساعات الفاخرة وبعض الأثواب الحمراء والزرقاء، وبعض حمر الوحش، وبساطين ناصعين. ويرسم السفير الفرنسي لحظة دخوله القصر، من بابه الأكبر الذي تزينه من الجانبين ساريتان من الرخام، يقف على جانبيه صفان من العبيد السود المكلفين بالحراسة. وبعد أن أصبح في بهو القصر وقفت القافلة لإعلام السلطان بمجيئه، حيث حضر بعد حوالي ربع ساعة، يتقدمه عدد من العبيد الذين كانوا ينحنون له كلما مر بجانبهم، وكان السلطان يمسك في يديه رمحا قصيرا وحربة «مرتديا لباسا بسيطا يشبه أقل رعاياه شأنا»، وفي يده أيضا منديل متسخ. وبعد أن سلم الرمح إلى واحد من عبيده السود جاء ليجلس دون بساط أو ظفيرة على عتبة مدخل أحد البيوت. العبيد المسيحيون حسب السفير الفرنسي في مذكراته فإن المولى إسماعيل كان يعيد هدم وبناء قصره باستمرار، والهدف من ذلك فقط هو جعل رعاياه وعبيده يشتغلون باستمرار ودون توقف. أما الأسرى المسيحيون فقد كان لهم نظام خاص، فهم يشتغلون في كل وقت دون أن يستريحوا، خاصة في البناء، حيث يخضعون للضرب بالعصي، ولا يستفيدون طيلة اليوم سوى من كسرة خبز أسود وماء، وينامون في المطامير، تحت الأرض مفترشين التراب. أما الأسرى المسيحيون الذين يعتنقون الإسلام، والذين يطلق عليهم المؤلف اسم«المرتدين»، فهم يعفون من الأعمال الشاقة، لكنهم يظلون عبيدا يستعملهم السلطان في حراسة أبواب قصره، أويرسلهم إلى قواده في الأقاليم لكي يعينوهم في مهام تناسب طاقتهم وكفاءتهم. كما أن السلطان يصطحبهم معه في حروبه، حيث يسيرون على رأس قواته العسكرية المقاتلة، وإذا تأخروا قليلا فإن السلطان يقطعهم إلى أشلاء. العبيد الأفارقة أما العبيد المقربون من السلطان فهم العبيد السود المجلوبون من إفريقيا السوداء، سود البشرة. ويعتبرهم المؤلف «ثقاة السلطان، والمنفذون الدائمون لتعليماته وأوامره، التي يقومون بها بطريقة إجبارية وقاطعة، بحيث إنه حتى القواد، بمن فيهم الأكثر قوة وصلابة منهم، يرتعشون من النظر إلى أقلهم شأنا». وهؤلاء العبيد هم الذين يرافقون السلطان خلال خرجاته الحربية، إذ يرافقه ما بين سبعة آلاف وثمانية آلاف عبد منهم، راكبين أو خيالة «فهم خيرة المحاربين، الذين يقاتلون إلى جنب السلطان بالأسلحة النارية». كيف يحصل السلطان على هؤلاء العبيد السود؟، يجري ذلك بطريقتين، إما من خلال شرائهم من تجار العبيد أو من خلال»اختطافهم من داخل بلدانهم عبر العنف أو عبر الخداع، ثم يقوم بتزويجهم ويمنحهم بعض المواشي ويرسلهم إلى أماكن خالية غير آهلة بالسكان، بحيث يصبح ذلك المكان بمثابة مستنبت لهم، في انتظار الحاجة إليهم». أما من ناحية العلاقة مع الجزائر فالسلطان غير مرتاح لذلك، كما هو الحال مع الأفارقة، بسبب السهولة التي يجدها الجزائريون في دخول مملكته كلما شاؤوا، مما يجعله في حالة حذر دائم تجاههم. لكن السلطان يتابع المؤلف لديه المهارة والاطمئنان بسبب القدرة على الحيلولة دون ذلك من خلال توظيف الدين والأضرحة والمزارات، التي دخل السلطان معها في صراعات دموية على أساس ديني. السلطان غير مطمئن للجزائر حسب السفير الفرنسي فإن مملكة السلطان المولى إسماعيل تحد من ناحية بالسود، ولعله يقصد إفريقيا السوداء وأساسا نهر النيجر حيث كانت تنتهي مملكة السلطان العلوي. أما من الناحية الثانية فتحد بالجزائر. ويشير إلى أن المولى إسماعيل مطمئن على حدوده مع الأفارقة، لكنه غير مطمئن للجوار مع الجزائر القريبة. فبينه وبين الأفارقة البحيرة العظمى، التي ربما يعني بها نهر النيجر، وسلسلة من الجبال المرتفعة، والمملكة المغربية توجد على علاقات تجارية قوية مع هذه المناطق حتى غينيا، خاصة في مادة الملح، وهناك علاقة طيبة بين سكان هذه المناطق وبين سلطان المغرب»الذي يعاملهم معاملة طيبة، من خلال الاعتبار الذي يولونه له كما لاحظت ذلك بسبب سماحه لهم بأن يكونوا في بلاده، بحيث يعاملهم كما لو كانوا رعاياه الحقيقيين». يهود المملكة يتوقف السفير الفرنسي عند الأقلية اليهودية الموجودة في تلك الفترة بمدينة مكناس، عاصمة الإمبراطورية المغربية، فيقول بأنها تعيش في حي متسخ جدا، مقارنة بأحياء اليهود في بعض المدن الأخرى. ويقدر عدد اليهود في المغرب كله آنذاك بنحو ستة عشر ألفا، يرأسهم زعيم الطائفة اليهودية الذي يدعى»مايموران»، وهو مكلف بجمع الغرامات التي يؤديها اليهود للسلطان. وبفضل هؤلاء اليهود نسج المولى إسماعيل علاقات تجارية وسياسية جيدة مع جميع الدول، الصديقة والعدوة. وبينما يعيش رئيس الطائفة اليهودية معيشة مريحة يوجد باقي أفراد الطائفة في وضعية اجتماعية واقتصادية سيئة. لكنه يلاحظ بأن اليهود في المغرب، رغم الأدوار الهامة التي يقومون بها بالنسبة للدولة، فهم يعيشون نفس الأوضاع السيئة كما في البلدان الأخرى»فهم يتم اختيارهم دائما لأداء الأعمال الحقيرة، ولا يتلقون رواتب عما يقومون به من أعمال سوى الأكل، وهم خاضعون لأداء الإتاوات، ويتعرضون للشتم والضرب». كما يسجل بأن اليهود لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم حتى في مواجهة الأطفال الدين يسيئون معاملتهم أو يضربونهم بالحجارة، ومهم متميزون عن المسلمين بواسطة الطواقي الصفراء التي يضعونها على رؤوسهم، بينما يحمل المسلمون طواقي حمراء اللون. وهم يقيمون في أحياء معزولة، يقوم بحراسة أبوابها حراس معينون من طرف السلطان، حيث يمكنهم ممارسة دينهم بكل حرية، لكنهم لا يستطيعون التنقل إلى البوادي مثلا دون أن يكونوا مصحوبين بواحد من المسلمين», لأن العرب والبرابرة يذبحونهم بكل بساطة». مداخيل السلطان يشير السفير الفرنسي في مذكراته إلى أنه حاول الحصول على معلومات تخص مصدر مداخيل السلطان المولى إسماعيل، والقيام بعملية حسابية لمداخيله، لأنه لا يتوفر على أملاك عقارية. ثم يذكر بأن مداخيل السلطان تأتي من الإتاوات والغرامات التي يحصل عليها من رعاياه، فكل فرد يهودي ذكر تجاوز الخمس عشرة سنة من العمر عليه أداء عشر أوقيات، لكن إضافة إلى هذا يدفع ضرائب مثله مثل المسلمين، ويخضع ذلك لمزاج السلطان وحده دون أي مقاييس محددة معمول بها، بحيث قد يفرض على سكان مدينة معينة مثلا أداء ضريبة معينة في فترة معينة دون باقي المدن. لكن المؤلف يعطي صورة مثيرة عن المولى إسماعيل فيما يتعلق بهذه النقطة المتعلقة بجمع الإتاوات والغرامات والضرائب من رعاياه. فالسلطان يدفن الأموال التي يحصل عليها في خزائن تحت الأرض، حيث يدفن كنوزه، ويقتل جميع الوزراء أو المقربين الذين يطلعون على ذلك السر، خوفا من سرقة ممتلكاته، الأمر الذي يدفعه أحيانا إلى أن يتكلف هو نفسه بحفر خزائنه السفلية ودفن أمواله في غياب الشهود. الحكم الفردي والسلطة الدينية يحكم السلطان المولى إسماعيل البلاد من خلال قواده الكثيرين المنتشرين في الأقاليم. فهو يتخلى لهم عن كل شيء في مواقع نفوذهم، لكن مقابل الهدايا السنوية التي تصل إليه منهم، خصوصا في العيد الكبير الذي هو عيد الكبش. ويفرض هؤلاء القواد على الرعايا ضرائب قد تتجاوز مداخيلهم أحيانا، مما يعني أن سلطتهم لا تقل عن سلطة السلطان في المركز، ويجعلهم مستبدين حقيقيين. يحكم هؤلاء القواد المغرب بكامله تحت سلطة أميرهم، الذي هو السلطان «فهو لا يتوفر على برلمان ولا على محكمة ولا على مجلس خاص أو وزير، إنه الحاكم وحده، الكاتب والمترجم القاضي الأعلى الذي يوجد فوق القوانين التي يضعها، ما عدا تلك القوانين التي وضعتها نبيه». لكن هذه السلطة التي يتوفر عليها السلطان والتي تجعل منه حاكما مستبدا ولا تضع فوقه سلطة يخضع لها، توجد فوقها سلطة أخرى يتوجب على السلطان الخضوع لها، وهي سلطة «المفتي»(قاضي القضاة) وقضاته الذين لا يستطيع السلطان زحزحتهم عن مواقعهم، رغم أنه هو من يقوم بتعيينهم. فهو نفسه يخضع مثله مثل الآخرين لهذه العدالة، ولا يمكنه التحكم فيها أو التهرب منها إذا أراد أي واحد من رعاياه مقاضاته، لكن أي واحد يقدم على مثل هذه الخطوة يجب أن يضع في اعتباره إمكانية التعرض للانتقام لاحقا، وتعريض نفسه لخطر القتل. لكن رغم أن قاضي القضاة لديه قضاة تابعون له فإن هؤلاء يستطيعون أن «يبيعوا» الأحكام لمن يدفع المال، ويجدون الطريق سهلا أمام ذلك بسبب وجود شهود الزور المنتشرين بكثرة والذين يقدموا شهادات مزورة بثمن بخس. ويوجد في كل إقليم قاض تابع لقاضي القضاة، واثنان من الأعوان يعينهما القائد، لكن القائد بإمكانه أن يعفي هذين العونين، بينما لا يستطيع إعفاء القاضي الخارج عن سلطته. الأول هو الخليفة، وهو المكلف بكل ما يتعلق بالإقليم مثل المنازعات التي تقوم بين المسلمين واليهود، وفي حالة الحكم يكون ذلك عبر فرض دفع ضريبة محددة، لكن أيا من الخليفة أو القائد لا يستطيع أن يصدر حكما بالقتل، لأن السلطان هو وحده المخول بالتوقيع على حكم من هذا النوع. كما أن الخليفة هو المكلف بجمع الضرائب والإتاوات من الرعية، وبعد جمعها يرسل السلطان عبدا أسود لأخذها. أما العون الثاني فهو المقدم، أو»قاضي الشرطة»، ودوره هو وضع قائمة بأسعار المواد الغذائية وغيرها من المواد التي تهم الناس والتي تباع بالموازين، وذلك بشكل يومي.