إذا كان من مواطنين في المغرب أولى بنعت «المنسيين» فأهالي آسفي. وهذا التصنيف، لا لسبب إلا لأن المدينة لا تَسمع عنها خبرا ولا حديثا ولا مشاريع أو آفاق مستقبلية تنتظر أجيالها، حتى إنه ليُخيل إليك أن آسفي تُسيَّر من قبل أشباح أو أن من يتخذون مكاتب تسييرها مساكن لهم مدى الحياة، وجدوا فقط ليملؤوا الشاشة حتى يستمر العرض وتدوم الفرجة ومعها القنوط واليأس، بعد أن مل الناس بالمدينة وجوها لم تتغير فوق كراسي المسؤولية، وملوا حال مدينتهم التي تحولت إلى سوق عشوائي مفتوح على قوة وسلطة الفوضى. بآسفي، هناك جيل من المسؤولين شاب وسمن بين مكاتب المدينة، أفراده كلهم توارثوا مناصب خلدت لسابقيهم بدورهم، سيروا ودبروا شؤون آسفي عاملين بالمثل العربي الشائع: «إذا لم تكن تعلم أين تذهب... فكل الطرق تفي بالغرض»، وهو بالضبط حال ما وصلت إليه الأمور هنا بحاضرة الخزف والسمك التي، بعد أن كانت خيراتها محط أطماع الملك إمانويل الأول البرتغالي وجيوش إمبراطوريته في القرن السادس عشر، أصبحت لا تغري حتى أفقر قبائل الهوتو والتوتسي الإفريقية بالمجيء إليها والسكن فيها. فبينما تتجول اليوم بآسفي، أنت الغريب عنها، سينتابك شعور بأنك تتجول في مدينة بلا بوصلة ولا انضباط للقوانين،... هكذا أرادوها مفتوحة على المجهول ومسرحا احتفاليا بالرداءة والفوضى وعرينا لكل أشكال ما قبل التمدن، إلى درجة أن السيارات فيها لا تجد لها مكانا للوقوف أو المرور أمام الإشارات الضوئية، فقط لأن هناك من يعرض للبيع جوارب وأقمصة نوم وسمك، مع عربات «الصوصيص» مجهول المصدر الحيواني، غير عابئ بحجم الفوضى التي يحدثها وحجم الضرر الذي يلحقه بالمجتمع. لكن أن يتعايش المسؤولون بآسفي مع الوضع ويقبلون به لساكنتها ولأجيالها الناشئة، فذلك شيء آخر. قبل اليوم، كانت آسفي مدينة تتعايش فيها الصوفية الإسلامية بكل زواياها وتعلو وسط دورها العتيقة أصوات الأمداح النبوية والتواشي السبع الأندلسية وأزجال الملحون، وبقراها المجاورة استوطنت القبائل العربية بأنماط غنائها العيطي، وبين هذا وذاك كانت لليهود مكانتهم في الطبخ واللباس والتجارة والموسيقى، والأوربيين لمستهم على المعمار الجديد وطريقة عيشهم وانضباط سلوكياتهم الاجتماعية في التعامل والتعايش، والكل كان يسير وفق معادلة احترام الآخر والاحتكام إلى القوانين المدنية والعرفية، إلى أن أتى مسؤولون سهلوا الهجرة القروية وفرضوا أنماط عيش لا تختلف عما كان معروفا ومتداولا عند إنسان الكهوف في عصور ما قبل التاريخ. القليل يعرف أن آسفي طعنت من الخلف ببساطة لأنها كانت في المقدمة، والكثير من المسؤولين الذين مروا من هنا كانوا يحملون مرضا في قلوبهم من النموذج المديني والحضاري الراقي الذي كانت عليه المدينة، وكل منهم توارث مهمة هدم الأسس الجمالية، التي كانت تميز آسفي، وتحويلها بعنف إلى مرتع خصب ومشتل تتعايش فيه الفوضى والفساد حتى اندحرت إلى أسفل سافلين، وبعد أن خرجت المدينة عن الضبط، أقفلوا مكاتبهم وراحوا يتفرجون عليها من أعلى نوافذ مكاتبهم.. يطلون عليها تماما كما كان يطل الإمبراطور الروماني نيرون على احتراق روما وهو يعزف على آلة الكمان. آسفي تشبه كثيرا كأس «بلار» نفيس تكسر.. إذا ما رممته، هل سيستعيد نفس رنته الصوتية لو نقرته بأصبعك؟ ذاك هو السؤال!