يَعرف المظليون أن السقوط الخاطئ قد يكلفهم الكثير، لذلك فإن المظلي وهو يقفز من الطائرة يكون مجبرا على الأخذ بعين الاعتبار كل الاحتمالات، لأن عليه بالضرورة أن ينزل في منطقة الهبوط الصحيحة، وأن غير ذلك قد يكلفه الكثير، ربما حياته، وفي أفضل الأحوال، فإنه قد يخرج مصابا وبمعنويات في الحضيض. في وضع مشابه، يعيش كريم زاز، المدير العام السابق لشركة الاتصالات «وانا». فهذا المظلي السابق، الذي قضت المحكمة الابتدائية، الأسبوع الماضي، في حقه بخمس سنوات حبسا نافذا ومصادرة ممتلكاته، أمام فرصة أخيرة في مرحلة الاستئناف لإلغاء الحكم الابتدائي، أو على الأقل تخفيفه. لكن كيف يمكن أن يتحول رجل وضعت فيه الثقة لقيادة واحدة من الشركات التابعة للهولدينغ الملكي إلى متهم باختلاس ملايين الدراهم؟ وهل يكون الرجل فعلا أنشأ بمعية أصدقائه ست شركات كانت تستقبل المكالمات الدولية وتحولها إلى مكالمات محلية، ما مكنه من ربح ملايين الدراهم، لكن بطريقة غير مشروعة؟ أم أن الرجل يؤدي ثمن خلافه مع مسؤولين كبار، في حرب دوائر النفوذ، حيث الصراع على السلطة والمواقع لا يكاد يهدأ، وحيث مثل هذه الحروب ليست الأولى ولن تكون الأخيرة؟ في المغرب، البلد الذي لا يكاد يخطو خطوة واحدة نحو مربع الانتقال الديمقراطي حتى يرجع خطوات إلى الوراء، يشكك الناس في قدرة العدالة المغربية على أن تكون منصفة، وعندما يخص الملف مسؤولا كبيرا، فإن الأمر يصبح أكثر مدعاة للشك، أو هذا ما يعتقده الناس. في «العهد الجديد»، الذي انصرمت 16 سنة سريعا من عقده، أبعد أكثر من مسؤول عن منصبه، وقٌدم آخرون للمحاكمة، وصدر العفو عن بعضهم، وبينما حبس بعضهم لمدة من الوقت، فر آخرون. وفي كل الأحوال كانت مساحة الغموض تكبر من ملف لآخر، وكأنها بقعة زيت تزيد ولا تنقص. هكذا استفاد خالد الودغيري، المدير العام السابق ل«التجاري وفا بنك» من عفو ملكي، وسمح لمولاي زين الدين الزاهيدي بالفرار، كما أفلت عبد اللطيف العراقي من العقاب بعد أن قضت محكمة العدل الخاصة ب»عدم الاختصاص». ولم يعد خالد عليوة إلى السجن بعد أن غادره لتأبين والدته.. ولم يمسس أحد شعرة من المسؤولين عن اختلاس 115 مليار درهم من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ولم يتم إلقاء القبض على المدير العام لمطاحن المغرب، الذي أدين باختلاس حوالي 3 ملايير سنتيم. ومقابل هؤلاء، يقبع في السجن إلى اليوم عبد الحنين بنعلو، المدير العام الأسبق للمكتب الوطني للمطارات بتهمة «اختلاس أموال عمومية والمشاركة، واستغلال النفوذ، وصنع وثيقة تتضمن وقائع غير صحيحة واستعمالها»، ومنع أنس العلمي، المدير العام الأسبق لصندوق الإيداع والتدبير من مغادرة التراب الوطني، إلى حين البت النهائي في الملف، في الوقت الذي عين بدلا منه على رأس الصندوق عبد اللطيف زغنون. في ملف كريم زاز، عوض أن يسأل الناس عن التهمة التي وجهت إليه، ينشغل كثير منهم بالبحث عن جواب مقنع للسؤال الذي ردده جلهم، لماذا قُدم الرجل إلى المحاكمة؟ ففي المغرب تسير الأمور كما في لعبة الشطرنج. كل جهة تقود جيشاً، ومقابل هذا الجيش يقود الطرف الآخر جيشا مماثلا، إن لم يكن شبيها به. أما مصير الجيش الأول أو الثاني، فيعتمد على قدرة كل طرف على ربح مساحات جديدة، ثم في النهاية كل طرف مسؤول تماماً وكلياً على نجاح جيشه أو فشله. أما حين يسقط أحد المحسوبين على هذا الطرف أو ذاك. وفي مثل هذه الحالات، يكون السقوط بتقديمهم إلى المحاكمة أو بإبعادهم عن دوائر القرار. -حين يسقط أحدهم- فإن ذلك يشبه في لغة المعارك ب«أسرى الحرب». فهل كريم زاز «أسير حرب»؟ وهل سيعود الرجل إلى بيته سالما بعد أن تنتهي «المعركة»؟ أم أنه مذنب، ورجل سرق المكالمات الدولية، رغم أنه قدم دائما في المغرب على أنه رجل أعمال ناجح. رجل أعمال من طينة أولئك الذين يحولون التراب إلى ذهب؟ يتذكر كثيرون أن كريم كان قد ضمه علي الفاسي الفهري إلى المكتب الذي قاد الجامعة. آنذاك كان الملك محمد السادس وجه رسالة كلها نقد إلى مناظرة الرياضة، ثم جاء تعيين الفهري على رأس الجامعة… وكأن من عينه كان يريد أن يقول للمغاربة «إنه الوحيد القادر على تنزيل خطاب الملك». ثم بعد تعيين الفهري، كان لابد من تعيين باقي أعضاء مكتبه، وكان منهم كثيرون محسوبون على مربع السلطة، وضمنهم كريم زاز. هذا الأخير أجاب أمام القاضي على السؤال الذي طرحه عليه، «ماذا فعلت ليتم تقديمك إلى المحاكمة؟» (أجاب) أنه لم يفعل شيئا ولتأكيد براءته، ظل يقول طيلة جلسات المحاكمة إن محاضر البوليس تضمنت «استنتاجات» وليس أدلة. كريم يعرف أنه في بلد لا يحترم مواطنيه، ولذلك في جلسات محاكمته الأولى أراد أن يظهر للقاضي حسن نيته، فقال له إنه يتوفر على «جواز سفر أحمر»، وأنه لو أراد أن يغادر التراب الوطني لكان فعل. هل كان يلمح كريم زاز إلى ما فعله قبله عبد اللطيف العراقي ومولاي زين الدين الزاهيدي وآخرون؟ وحده الله يعرف ما الذي قصده الرجل. لكن هل يكون القاضي فهم ما ألمح إليه كريم زاز، هو الذي كان ينظر إلى عيني المتهم؟ بالطبع سيكون فهم قصده، من يمسكون بخيوط هذا الملف. أليس الأمر شبيها بلعبة الشطرنج؟ حيث عندما تتعقد اللعبة، يصبح صعبا على اللاعب اتخاذ القرار بمن سيبدأ اللعب؟ ومن سيقدم كبش فداء بعد التضحية بجنوده؟ أيضا لعل القاضي، وهو يدرس الملف خطر بباله سؤال محير. فالقاضي، كما باقي الناس وإن لم يتخرج من مدارس العسكر، إلا أنه بلا شك يعرف أن المظليين، يميزهم عن باقي الجنود أنهم لديهم قدرات قتالية عالية، وأنه يتم تكوينهم للإسقاط خلف خطوط العدو، بهدف إرباكه والسيطرة على المناطق المهمة حتى وصول القوات الصديقة، فهل يكون انتبه القاضي إلى أن هذا المظلي الماثل أمامه، انتبه «عدوه» إليه وأسره، كما يتم أسر الجنود في الحرب؟ وهل كريم زاز «أسير حرب»؟ لا أحد يمكنه تخمين ما دار بخلد القاضي، لكن الأخير لم يأخذ على محمل الجد ما ظل يقوله المتهم ومن هم معه، ولذلك قضت المحكمة بسجن كريم زاز خمس سنوات نافذة، وحل شركته ومصادرة جميع ممتلكاته، مع تغريمه مبلغ 60 ألف درهم، بعد إدانته ب»تزوير محررات تجارية واستعمالها، وصنع عن علم وثيقة تتضمن معلومات غير صحيحة واستعمالها، وعرقلة نظام معالجة آليات للمعطيات، وتزييف وثائق معلوماتية، وإحداث واستغلال شبكة اتصالات دون إذن، واختلاس خطوط المواصلات» و«عدم التصريح لدى مكتب الصرف داخل الأجل المحدد بعقود الخدمات المبرمة مع الشركات الأجنبية والمشاركة فيها فضلا عن تهم أخرى، تلتصق بكل متابع في الملف حسب المنسوب إليه»، وفي حق باقي المتابعين الإثني عشر بأحكام تتراوح ما بين سنتين وخمس سنوات. يلمح القريبون من الرجل أنه كان ضحية خلاف مع مسؤولين أكبر منه وأنه في وضع كهذا كان بديهيا أن يتحرك من خلفوا كريم زاز في منصبه في كل الاتجاهات لإبعاده. ويدفع هؤلاء إلى أن الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات تمتلك سلطة التنظيم الاقتصادي لقطاع المواصلات، ما يخولها صلاحية تتبع تطور السوق، وحق التدخل في حالة ملاحظة أي خلل أو مساس بالمقتضيات الجاري بها العمل، لكن لماذا لم تتدخل إلا بعد أن رفعت شركة «ونا» دعوى قضائية ضد كريم زاز وعدد من الشركات، يقول هؤلاء وابتسامة الذين يقبضون على دليل البراءة تعلو محياهم. يخلص هؤلاء إلى طرح السؤال الذي يعتبرونه مفتاح براءة زاز مما نسب إليه، لماذا لم تتدخل الوكالة قبل تاريخ رفع الدعوى، وتكشف عن الأعمال غير القانونية لشركات كريم زاز ومن معه؟ لكن هل يمكن التسليم بأن زاز بريء من كل ما نسب إليه؟ وأنه فقط ضحية تصفية حسابات؟ أليس كل متهم يصرخ «أنه برئ من كل ما نسب إليه»؟ يخوض كريم زاز، الرجل ذو الملامح الأوربية «معركته» بأعصاب باردة، فهو المهندس الذي يتصرف كالعسكري الذي يعرف أنه ليربح المعركة يجب أن يحافظ على أعصابه هادئة، ورغم أنه معزول في زنزانة لم يعتد على ضيقها، فإنه لا يتوانى في والدفاع عن نفسه وعما كسبه في السنوات الماضية. هو كغيره من باقي المسؤولين الذين يتولون تدبير شؤون الهولدينغ الملكي، تخرج من مدرسة البولتكنيك الفرنسية، لكن قبل أن يعود إلى المغرب، اشتغل بوزارة الداخلية الفرنسية لمدة أربع سنوات، ثم التحق في المغرب بالمكتب الوطني للتشغيل والتكوين المهني، وهو المنصب الذي استمر فيه لأربعة أعوام ونصف العام، وبعدها سيؤسس سنة 1996 شركة «ماروك كونيكت». التي ستشرع ابتداء من سنة 1999 في تقديم خدمات الأنترنيت باتفاق مع «واندوو»، قبل أن تنسحب منها «فرانس تيليكوم: وتبيع حصتها فيها إلى «التجاري وفا بنك» و«السي دي جي»، لتصبح بذلك مجموعة «أونا» المالك الرسمي للشركة. وفي 2007 سيصبح اسم الشركة «ونا». ثم قبل خمس سنوات، سيعوض محمد العمراني، كريم زاز على رأس مجلس إدارة «ونا كوربوريت». هذا الأخير، الذي كان من المنتظر الاستغناء عنه خلال السنة الأولى من عمر الشركة، أمام فشل اختياراته في تطوير الفاعل الاتصالاتي الثالث في المغرب، لكن إقالة سعد بن ديدي من رئاسة مجموعة «أونا» وتحميله مسؤولية فشل الشركة أبقياه في منصبه إلى حين تعيين فريديريك دوبور، المدير العام الجديد ل«إينوي»، الرجل الذي لا يفوت أي فرصة دون أن يقول إن اختيارات سلفه كانت بمثابة أخطاء استراتيجية وأن العلامة الجديدة «إنوي» قطعت مع ماضي علامة «ونا». فهل تكون محاكمة كريم زاز مناسبة ل«دفن الماضي»؟