عبد الحق التازي واحد من أول دفعة مهندسين استقبلهم مغرب ما بعد الاستقلال، ليجد نفسه يُهندس سياسات المغرب إلى جانب الحسن الثاني، بدءا من وضع أول تصميم خماسي للمغرب المستقل، إلى الانغماس في السياسة والوزارة، فكان شاهدا على مغرب ما بعد الاستقلال، بكل الآمال التي عقدها المغاربة عليه، والآلام التي تكبدوها من جراء الاصطدام بين القصر والحركة الوطنية. فوق «كرسي الاعتراف»، يكشف عبد الحق التازي العديد من التفاصيل الصغيرة التي كانت فاعلة في قرارات كبيرة، وظلت طي الكتمان، خصوصا وأنه جمع، بتناغم كبير، بين انتمائه إلى حزب الاستقلال وقربه من الحسن الثاني الذي ظل على اتصال دائم به في عدد من الملفات الدقيقة والحارقة، أيام كان التازي كاتبا للدولة في الشؤون الخارجية. بتلقائية كبيرة، وبدون لغة خشب، يتحدث التازي عن الحسن الثاني الذي أعلن للاستقلاليين أنه ينتمي إلى حزبهم، وعن «صفقات» حزب الاستقلال مع القصر، مثل تأسيس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، والاتحاد العام لطلبة المغرب، وما راج عن قبول الحزب تزوير انتخابات 1977، وكيف هدد أوفقير باغتيال علال الفاسي الذي رفض استقلال موريتانيا عن المغرب، وحقيقة اختيار الحسن الثاني امحمد بوستة خلفا لعلال الفاسي، والعديد من الخبايا التي لا تتوقف عند تجربة التناوب بل تتجاوزها إلى ما يعيشه حزب الاستقلال حاليا وإلى من «صنع» حميد شباط. – في 1962، طرح للتصويت أول دستور بعد استقلال المغرب، وهو الدستور الذي قاطعه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وصوتُّم لفائدته في حزب الاستقلال؛ لماذا؟ صوتنا لصالحه بدافع فكرة واحدة، وهي إخراج المغرب من حالة اللادستور التي عاشها لقرون. لقد قمتُ، كما هو الأمر بالنسبة إلى العديد من شبان الحزب، بحملة ضد الدستور، لأن دستور 1962 هو نفسه دستور 1958 في فرنسا، بعد تنقيحه بما أضافه علال الفاسي من أن المغرب بلدٌ إسلامي ملكُه أميرُ المؤمنين ولغتُه العربية… – يعني أنكم في حزب الاستقلال كنتم موافقين على الدستور قبل طرحه للتصويت، لأن علال الفاسي ساهم في صياغته وتنقيحه؟ لا، بالرغم من أن علال الفاسي ساهم في صياغة هذا الدستور فقد كنا ننتقده ونقول إنه يعطي صلاحيات مطلقة لرئيس الدولة، أي الجنرال دوغول؛ لكن في فرنسا الرئيس يقدم الحساب، أما في المغرب فلا يعقل أن نعطي كل هذه الصلاحيات لملك سيحكمنا طول حياته. – وكيف أقنعكم علال الفاسي بتغيير موقفكم والتصويت بنعم لذلك الدستور؟ كان يقول: يجب أن يكون لنا نص دستوري نرجع إليه ونتعامل بمقتضاه مع الحسن الثاني، ونقول له: لقد خرقتم الدستور في الفصل الفلاني، وندعوه إلى الالتزام بالنص الدستوري. هكذا طأطأنا رؤوسنا في المجلس الوطني الذي التأم لمناقشة الدستور، لأننا ديمقراطيون.. ولاحقا تأكدت أن علال الفاسي كان محقا في ما كان يقوله. – على ذكر الديمقراطية ودورها في اتخاذ القرار، كيف كنتم تدبرون شؤونكم التنظيمية، حينئذ، في حزب الاستقلال مثل الحضور في المؤتمرات.. هل كان يتم الانتداب على قاعدة الانتخاب أم بواسطة كوطات وتوافقات؟ التوافقات كانت دائما مرافقة لتشكيل مؤتمرات الحزب، ولكني أجزم بأننا، كطلبة، كنا نحتكم إلى انتخاب منتدبين عنا، وكذلك كان بالنسبة إلى المؤتمر الأول للشبيبة الاستقلالية. وعموما، الأساس في الانتداب للمؤتمر العام هو الحرص على التمثيلية الإقليمية وتمثيلية الهيئات والمنظمات الحزبية. وأنا شخصيا تشبثت دائما بمسطرة الانتخاب، وكنت في ذلك من القلائل في اللجنة التنفيذية الذين يؤمنون بالفكرة ويعملون على تطبيقها كما حرصت أن أفعل في كل الاجتماعات التي ترأستها. والواقع أن تحصين الحزب من كل انفلات تنظيمي لا يضمنه سوى التفعيل الأمثل للديمقراطية والاحتكام إلى صندوق وورقة التصويت، وضبط مسطرة منح بطائق العضوية التي تضمن وحدها حق التصويت. – اِحك لنا قليلا عن الظروف التي تحملت فيها مسؤولية الكتابة العامة للشبيبة الاستقلالية في هذه الظرفية… اشتغلت دائما في دواليب الحزب؛ وحين عدت من باريس في 1958 وتحملت مسؤولية مهنية بمنطقة مكناس تافيلالت، كان لي اتصال مستمر بمسؤولي الحزب، وعلى رأسهم رجل عظيم هو المرحوم حماد الديغوسي. وعند انتقالي إلى الرباط، أخذت أتردد على المركز العام للحزب للقيام بالمهام التي كان يُعهد بها إلي، وعلى الخصوص من قبل الزعيم علال الفاسي الذي كنت أستشيره وآخذ برأيه في كل مبادراتي، وقد ذكرت سابقا أنني أخذت موافقته قبل تحمل مسؤولية رئاسة ديوان التهامي عمار وزير الفلاحة في حكومة عبد الله إبراهيم… سيدي علال هو من دعاني بإلحاح إلى تحمل مسؤولية التحضير والإشراف على مؤتمر جديد للشبيبة الاستقلالية، ولاسيما أن المرحوم عبد الكريم الفلوس، الذي كان على رأس الشبيبة، لم يسلم من حملة إغراء السلطة، وهو للأمانة والتاريخ كان شعلة ذكاء ووطنية وغيرة كبيرة على الشبيبة والحزب، ولكنه انقاد وراء خطة احتواء الأطر الوطنية، وهي حملة توسلت كل الأساليب، من ترغيب وترهيب وتهديد… الفلوس كان من أطر الحزب الذين تم استقطابهم لخدمة خطة السلطة بمنصب على رأس بلدية الرباط؛ وقد شعر الزعيم علال، بحدسه الثاقب، بحتمية نقل قيادة الشبيبة الاستقلالية إلى أيدٍ تنال الثقة وتضمن استمرارية الرسالة؛ هكذا استدعاني معبرا عن إرادته في أن أتكفل بهذه المهمة. ورغم جسامة التكليف، باشرت مع فريق من شباب الحزب -أذكر منهم عبد الحميد عواد وعبد العزيز العلوي وماهر السمار والمرحومة زهور الزرقاء والمرحوم عبد السلام فرج وعبد الرحمان البوري والعديد من أطر الكشفية والشبان الاستقلاليين- تحضيرات المؤتمر الرابع، حيث أعددنا برنامج لقاءات تكوينية وتأطيرية، وكانت مهمتنا الأساسية إرجاع قطار الشبيبة إلى سكته وتفادي كل انزلاق أو انحراف. – وهل حصل إجماع على شخصك لتولي هذه المهمة؟ بعد جلسة الافتتاح في سينما الملكي بالرباط، سمعت انتقادات تمثلت في كوني لم أتحدث بدقة عن الدور الذي قام به الفلوس على رأس الشبيبة، ولكن لجان المؤتمر اشتغلت بجدية وجرى تنافس بيني كمكلف من رئيس الحزب والأخ عواد. وقد دعانا السي علال إلى التراضي، وذلك ما كان. في الواقع، كنت لتوي بصدد بناء مقاولتي الخاصة بما يتطلبه الأمر من إكراهات، وكانت مهمة كهذه ستستغرق مني الوقت والجهد، ولكن أوامر ومصلحة الحزب مع تكليف ملح من السي علال تعلو على كل اعتبار. لقد حظيت بثقة الغالبية، وباشرت مهمتي بكل جدية، خاصة في ظروف الانسجام التي انعكست على نوعية الأنشطة من مناظرات وندوات ولقاءات تكوين الأطر بمشاركة قيادات حزبية وإصدار الكتب والنشرات ومجهودات تنظيم وتجديد الفروع والمنظمات الموازية والجمعيات، مما أعاد إلى الشبيبة الاستقلالية توهجها وحضورها، وأتاح لنا في ما بعد تسليمَ المشعل إلى جيل جديد في المؤتمر الوطني الخامس.