«نعْتني بالنقال. نُعبئه، ثم نركض من مكان إلى مكان»، يقول محمد بنيس، في «الحداثة المعطوبة»، تحتَ عنوان «غربة السؤال»، قبل أن يتساءل: «ما الذي يصيبنا؟ سؤال مزعج، يتحول إلى وجه نتركه معلقاً على جدار قديم، في ساحة من ركام... نحنُ الحفاة. الجوعى. العبيد. نركض. لاهثين. والصمم يتضاعف باستعمالنا للنقال. الهاتف الساحر، الذي يفتح لنا أبواب ملكوت الكلام، ونحن نتهيأ لاستئناف الكلام، مجرداً. مبتهجينَ بالتعابير التي تتكرر في غفلة عنا». «هي لغتنا الجديدة»، يقول بنيس: «تعابير مختصرة، في أقل ما يمكن من المعلومات، متخلصين من جميع أشكال المعرفة، واضعين الهاتف النقال على الأذن، ضاغطين على الآلة، متعودين على الضجيج وعلى قول ما نريد، علانية في الهواء، غير عابئين بإذاعة الحميم». هكذا، تصبح «سعادتنا جشعة» و«الآلة وحدها تسحرنا» و«التكنولوجيا لا تتوقف عن التكرم علينا بما يبهجك ويبهجنا»، يضيف بنيس، قبل أن يتساءل: «بالهاتف النقال والتلفزيون والمقهى، انتصرنا. أليس هذا عنوان مجد لزمن نكتبُ فوق عظامه مستقبلنا؟»، قبل أن يتابع، في مرارة المصدوم: «لقد انتهى زمن كنا فيه نبحث عن كتاب يحمل فكرة أو نلتقي فيه بكتابة جمالية للعالم ولأنفسنا. نحن الآن مسرعون. وفي السرعة ما يدل على مجهود الانتساب إلى اللا معنى»، منتهيا إلى أن «اختياراتنا أصبحت عارية، تماما». من جهته، يتحدث محمد سبيلا، في «زمن العولمة»، تحت عنوان «الهاتف المحمول.. الوظيفة والسحر»، عن مفعول آخر، له «معنى الفتنة والافتتان الذي يمارسه المحمول على النفوس». وكان كتبَ، قبل ذلك، مُتسائلاً: «ما هو سر هذه القنبلة التواصلية التي انفجرت في مجتمعنا، في السنين الأخيرة، على حين غرة، باستثماراتها المالية الضخمة وشركاتها العملاقة، وحوانيتها المنتشرة كالدود في الدروب والأزقة، وبمظاهرها الاستعراضية المتمثلة في غزو الهاتف المحمول لكل ردهات الفضاء العمومي بما في ذلك المدارس والجوامع، ولكل مستويات السلم الاجتماعي؟ هل هي تلبية لحاجة موضوعية ماسة؟ هل هي تعبير عن رغبات تواصلية عميقة كانت مكبوتة من قبل في النفوس، وفي ثنايا المجتمع، ثم وجدت مناسبة للتعبير عن ذاتها، ذات نوع، بشكل مناسب؟ أم هي مجرد موضة خلقها نموذج تقني كوني وشركات تقنية ورساميل عابرة للقارات وإشهارات جذابة، موضة تتضمن إشباعاً للخيال المجنح والرغبة الجامحة، أم ماذا؟» عبر شاشة التلفزة، أمواج الإذاعة وصفحات الجرائد والمجلات، تنطلق وصلات إشهارية يومية تروج لعروض التعبئة المضاعفة. وما بين سحر الآلة، والترويج لخدماتها بين الناس، أذكر أني سألتُ الناقد المغربي نجيب العوفي، قبل سنوات، عن حكايته مع الهاتف المحمول، فأجاب، قائلا: «كنتُ أبرمتُ مع أحمد بوزفور، ذاتَ مرة، ميثاق شرف يقضي بألا نحمل الهاتف المحمول، ولو بقينا دون باقي المغاربة في حمله. ولهذا أجدُ حرجاً في خرق هذا الميثاق». وما بين كتابات بنيس وسبيلا وميثاق العوفي وبوزفور، تتأكد حقيقة مفادها أن الهاتف المحمول انتهى ورطة بالنسبة إلى الكثيرين عبر العالم. في منتصف الليلة الماضية، «زغرد» هاتفي المحمول، حاملاً رسالة هاتفية جديدة، تعاند رسائل أخرى سابقة، وصلتني، كما وصلت آخرين (هذا مؤكد)، بمضمون يدعوني إلى الحضور إلى حانة أحد أفخم فنادق مراكش. جاء في الرسالة -الدعوة أن الحفل سينشطه أحد الفنانين الفرنسيين، وأن «كوكتيل مارتيني» سيقدم مجانا للسيدات. وهكذا، وفي ظل اختياراتنا العارية، كما قال بنيس، وسيل الدعوات المخمورة، التي وصلتني عبر هاتفي المحمول، سيكونُ رائعاً أن يحافظ العوفي وبوزفور على ميثاقهما في عدم حمل المحمول.