سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عبد الكريم الأمراني : الأموي قال لي «إيوا هادي بلاد كتكوّن إطار ومن بعد كتقول ليه الله يعاونك» قال إن المعلمين تراجعوا عن التضامن مع المطرودين واستنكفوا عن دفع عشرة دراهم
عبد الكريم الأمراني، الصحافي المثير للجدل، يحكي تفاصيل مهمة من مساره النضالي في صفوف حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، ويقف عند تفاصيل الأحداث التي عاشها على المستوى المهني. يعود إلى مراحل مهمة من تاريخ المغرب كان شاهدا عليها، ويروي كيف كبرت جريدة «الاتحاد الاشتراكي» وأسباب سقوطها، كما يعرج على كواليس ميلاد جريدة «الأحداث المغربية» وأسباب تراجعها في المبيعات والتأثير. الحديث مع الأمراني لايمكنه أن يخلو من الكشف عن أسرار ومناطق ظل كان يجتمع فيها الأمراني مع بعض رجالات الدولة. إليكم اعترافات صحافي ضد التيار... - نقلتم إلى فاس مقيدين وفي حافلة عمومية؟! > نعم.. وصلنا إلى مدينة فاس، بتزامن مع زيارة الملك خالد آنذاك، عاهل المملكة العربية السعودية آنذاك، الذي خصص له استقبال حافل. ألزمنا بالبقاء في الحافلة من الساعة 12 زوالا إلى 6 مساء، في مدخل «لافياط» بلا أكل ولا ماء.. وعندما جاء «الفرج» وأخلي الطريق، توجهت بنا الحافلة إلى سجن «عين قادوس»، حيث وجدنا هناك مناضلا تم اعتقاله في مدينة فاس، بسبب الإضراب أيضا، وكان يحظى باحترام كبير من إدارة السجن (هو الأخ القاضي)، تم جمعنا معه في زنزانة واحدة، قضينا فيها حوالي أربعة أشهر، عوملنا فيها من طرف إدارة السجن معاملة رائعة، ناجمة عن تعاطف حقيقي معنا، باعتبارنا السبب المباشر في الزيادة التي كانت الحكومة قد أعلنتها في الأجور مباشرة بعد الإضراب.. بعد طول انتظار، صدر الحكم علينا بالبراءة، وغادرنا السجن المدني (عين قادوس) في الليل، عائدين إلى مدينة تازة على متن سيارات وفرها لنا الإخوة في مدينة فاس.. عندما غادرنا السجن، واجهنا قرار طردنا مع حوالي 26 آخرين من رجال التعليم في الإقليم، وكانت المفاجأة أن المناضل لحسن البويولي -الذي كان قد اعتُقل في مدينة الحسيمة قبل الإضراب بحوالي شهر، أثناء قيامه بمهمة نقابية تدخل في إطار التحضير لتأسيس النقابة الوطنية للفلاحة، والذي ضُبط في أحد المكاتب التابعة لوزارة الفلاحة، وهو يوزع البيان الداعي إلى تأسيس النقابة، فاعتقل وقدم إلى المحاكمة- طرد مع مطرودي إضراب 9-10-11 أبريل، مما يؤكد أن القوائم كانت معدة من قبل. - وماذا حصل بعد ذلك؟! > راحت السكرة وعادت الفكرة.. انتهى «موسم» الاستقبال والتهنئة على الخروج من السجن بسلامة.. وكان علينا، كمكتب جهوي للنقابة، أن نواجه معضلة 32 مطرودا من قطاع التعليم.. تعبأنا لجمع التبرعات، التي لم تكن، بكل صراحة، في المستوى المطلوب.. كان عدد كبير من رجال التعليم يتهربون من دفع 10 دراهم.. فقط 10 دراهم شهريا.. تسلم المطرودون، وعددهم يفوق ال850، على الصعيد الوطني، 1580 درهما في الشهر الأول، ثم 500 درهم في الشهر الثاني.. وتوقف الدعم بعدها بسبب استنكاف رجال التعليم عن المساهمة في حملة الدعم.. وبدأنا نسمع تعليقات معبرة من قبيل: فين هي النقابة؟ واش احنا غادي نخدمو على المطرودين؟!.. فين الحزب؟!.. توقف الدعم خلال شهور عديدة.. ومع اقتراب عيد الأضحى، عبأت النقابة والحزب كل إمكاناتهما لجمع أقصى ما يمكن جمعه لمساعدة المطرودين عشية عيد الأضحى.. فكانت النتيجة دعما لا يتجاوز ال 1500 درهم.. صدمت كثيرا -أنا المنتمي إلى أسرة «مستورة»، ولم أكن أواجه مشكل السكن ولا التغذية- بمصير العديد من الإخوة، الذين اضطر بعضهم إلى بيع أثاث البيت، واضطر بعضهم الآخر إلى بيع أشياء مهربة من الشمال على أرصفة المدينة (أستاذ زميل لي في ثانوية علي بن بري شوهد وهو يبيع أشياء من هذا النوع لكي يعيل أبناءه..).. وكانت قمة المأساة، تتمثل في حالة المناضل لحسن البويولي، الذي يكتري بيتا وله 11 طفلا وزوجتان وأم، وبين عشية وضحاها فقد مورد عيشه كمعلم، والمصيبة أنه بعد سنوات من المعاناة والصمود والعطاء للحزب بلا حساب، تآمر «الإخوة» عليه (بعد مغادرتي المدينة)، بحضور عضو المكتب السياسي الحبيب الفرقاني، في أحد اجتماعات المجلس الإقليمي، واتخذوا قرارا بطرده من الحزب، هو الذي بناه بعرقه وسهره وتضحياته، وأنا شاهد على كل ذلك، وكانت نتيجة هذه المؤامرة الخسيسة إصابته بشلل أدى بعد سنوات من المعاناة إلى وفاته، رحمة الله عليه.. - وكيف مرت هذه المؤامرة على مناضل من هذا العيار أمام كل المناضلين؟ > لو كنت بقيت في مدينة تازة لما وقع له ما وقع بكل تأكيد.. وأذكر أنني في خضم أزمة جمع التبرعات للتضامن مع المطرودين، وقع لي احتكاك بالأخ البويولي. قلت له: أنا أرفض أن أجمع التبرعات لأنني معني بها.. لا يعقل أن أقف على أبواب الناس مطالبا بالتضامن مع المطرودين، أنا واحد منهم، وكأنني أمُدُّ يدي للاستجداء.. على المناضلين غير المطرودين أن يتجندوا لجمع التبرعات.. أما أنا فيستحيل علي أن أفعل ذلك.. لم يتفهم الأخ البويولي، الذي كان «دينامو» الحزب والنقابة وقتها، وكان هو الذي يصر على ترشيحي لكل المسؤوليات، موقفي، وافترقنا على شبه خصام. تركت بعد ذلك المدينة لتغيير الجو لبضعة أيام وتوجهت إلى مدينة الرباط لزيارة الأخ عبد الهادي خيرات، الذي كانت تربطني به علاقة حميمية.. كنت أعتبر بيته مثل بيتي تماما.. لم تكن بيننا أي كلفة.. وكان يقدرني ويعزني، إلى حد أنه كان يترك لي مفتاح البيت أثناء سفره.. توجهت مباشرة بعد وصولي إلى العاصمة إلى بيته فلم أجده، فقررت التوجه إلى المقر المركزي للحزب بأكدال للسؤال عنه.. وبينما أنا جالس مع المناضل محمد الخو، فوجئت بزعيم الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، نوبير الأموي، يدخل إلى المكتب الذي كنا جالسين فيه، وبادرني بتوجيه تحية حارة قائلا: - إيوا دابا هادي بْلاد، كتكوّنْ إطار وكتتْعاقدْ معاه لمدة 8 سنوات، وكتقولُّو هكذا.. الله يْعاونَّا ويْعاوْنْك!.. تبادلنا أطراف الحديث حول مواضيع مختلفة، سألني في نهايتها عما جئت من أجله إلى الرباط، فقلت له: لا شيء، جئت فقط لأرى الأخ خيرات، فقال: يا الله.. زيد معايا! قلت: إلى أين؟ قال: اركب معي.. وسترى.. ركبت معه سيارته المتواضعة، وفوجئت به يتجه نحو الدارالبيضاء عبر الطريق السيار.. ولم أكن أعرف وقتها أنني أسير إلى طريق سيغير مجرى حياتي بالكامل... - كيف غير هذا السفر مجرى حياتك؟ > أجل.. في الطريق من الرباط إلى الدار البيضاء.. كان الأموي يدندن بأغنيات لمحمد عبد الوهاب، ويسأل عن أي شيء وكل شيء.. كنت معجبا بهذا المناضل البدوي.. بالمعنى النبيل للكلمة، إذ كان يبدو لي صادقا في كلامه، نبيلا في تصرفاته.. وكنت أستمع إليه وهو يسأل عن المناضلين في مدينة تازة ويستفسر عن أحوالهم.. أبلغته بحقيقة الوضع، فبدا عليه الاكتئاب، ولم يتردد في التعبير عن خيبة أمله في موقف رجال التعليم من مسألة التضامن، وقال إنه سيحاول معالجة الوضع، مؤكدا أنه وضع مؤقت عابر، وأن الشكوى التي رفعتها الكنفدرالية الديمقراطية للشغل ضد الحكومة المغربية في مكتب الشغل الدولي، ستؤتي أكلها.. وصلنا إلى شقته المتواضعة في حي المعاريف.. وتناولنا طعام العشاء سوية.. ثم واصلنا الحديث الذي كانت تقطعه دندناته بأغنيات عبد الوهاب.. إلى وقت متأخر من الليل.. قمت بعد ذلك للنوم.. على أمل العودة في الغد إلى مدينة تازة..