حينما أعاد الحسن الثاني الحياة إلى المشهد السياسي المغربي، في ما اصطلح عليه بالمسلسل الديمقراطي في أواسط السبعينيات، لم تكن الأحزاب التي سميت بالوطنية مرغوبا فيها، إضافة إلى أنها عانت من بطش الملك الراحل. لذلك لم يجد إدريس البصري، وكان وقتها المهندس الحقيقي لكل هذا المسلسل الذي ولد بعد سنوات الاستثناء، غير أعيان المدن والبوادي للدفع بهم إلى احتلال الصفوف المتقدمة في الجماعات المحلية وفي مجلس النواب بغرفتيه. وحينما كان تكوين الحكومات على عهد الحسن الثاني لا يخضع لأية «منهجية ديمقراطية»، أعطت استحقاقات 1977 لهؤلاء الأعيان، الذين تقدموا ك«لامنتمين»، الأغلبية المطلقة؛ وهي أغلبية ظلت تقول «نعم» لكل قرارات الحكومات المتعاقبة، إلى درجة أنه لم يكن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية الكثير من التأثير والتأثر. وفي استحقاقات بداية الثمانينيات، حيث ولد حزب جديد برعاية الدولة سمي «الاتحاد الدستوري» وضم ما اصطلح عليه بجيل ما بعد الاستقلال، لم يتشكل مجلس النواب في غالبيته، ولا الجماعات المحلية، من غير الأعيان الذين أعادوا نفس الصور السياسية التي عاشها المجلس منذ تجربة 1977. لقد ظل حزب مثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يقول في أدبياته إن الانتخابات مجرد محطة من محطات النضال. وقبيل استحقاقات 2007، سيضطر الحزب إلى قيادة عملية وصفت بالجذرية لاستقطاب وجوه سياسية، أو لنقل انتخابية، لتعزز الصفوف في ما اصطلح عليه ب«حملة الانفتاح». غير أن انفتاح الاتحاد الاشتراكي لم يكن إلا على الأعيان القادرين على كسب المقعد الانتخابي، ليس إلا. وقبل الاتحاد، كان حزب الاستقلال قد فهم مبكرا أن الانتخابات ليست في حاجة إلى مناضلي المقرات الحزبية، وإنما إلى أعيان يعرفون كيف يدبرون هذه المحطة، ولذلك استطاع أن يكون له حضور وازن، سواء في المدن أو القرى. والحصيلة هي أنه استطاع أن يحافظ على بقائه حيا يرزق رغم كل الضربات التي تلقاها باعتباره حزبا ظل يشارك في تدبير الشأن العام منذ عقود. لم يخرج حزب الحركة الشعبية، بكل ألوانها، عن هذه الوصفة، لذلك لم يكن يجد صعوبة في اختيار مرشحين من أعيان البادية وبعض المدن.. الأعيان الذين ليسوا في حاجة إلى دعم الحزب ماديا في معركة تحتاج إلى إمكانيات مهمة، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالاستحقاقات النيابية. أما حزب التجمع الوطني للأحرار، فقد ظل ينعت بكونه حزب الأعيان بامتياز منذ ولد من رحم سلطة الداخلية حينما فاز اللامنتمون بأغلبية المقاعد، ليجمعهم وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري في تنظيم سياسي وضع على رأسه صهر الحسن الثاني أحمد عصمان. وركب حزب التقدم والاشتراكية، الذي ظل قادته يرفضون أن يوصف بالحزب الصغير، نفس الموجة وأعلن في الاستحقاقات الأخيرة، في نسبة كبيرة، عن عدد من مرشحيه من الأعيان؛ لذلك قال بفخر إنه قدم إلى الناخبين وجوها جديدة. ولعل هذه الوصفة هي التي رسمها حزب الأصالة والمعاصرة وهو يرسم لنفسه خطا سياسيا جاء لتجميع حداثيي البلد في مواجهة الإسلاميين. لقد اختار، منذ أعلن عن مؤتمره التأسيسي، عددا من الأعيان الذين طلقوا أحزابهم وارتموا في حضن فؤاد عالي الهمة، عراب «البام». وبقي بعض رموز اليسار، الذين كانوا قد التحقوا ب«حركة لكل الديمقراطيين»، قبل أن يصلوا في المحطة الموالية لحزب الأصالة والمعاصرة، بمثابة «رجال التدخل السريع» كلما كان الحزب في حاجة إلى من يدافع عن «اختياراته» في وسائل الإعلام. لقد فهم حزب الأصالة والمعاصرة أنه لكي تؤسس حزبا يمكن أن يحتل المرتبة الأولى في أي استحقاق، فلست في حاجة إلا إلى أعيان الانتخابات، الذين يعرفون كيف يدبرون شأنها من يوم انطلاق الحملة الانتخابية إلى يوم الاقتراع. أما أن يكون الحزب في حاجة إلى تنظيمات موازية في الشباب والنساء، أو في حاجة إلى ذراع نقابي يمكن أن يقدم إليه الدعم اللازم، أو إلى وسيلة إعلام تنشر برنامجه وتعرف بخطه السياسي، فليس ذلك ضروريا. لذلك لم يخف الشيخ بيد الله، أمين عام «البام» السابق، هذا الأمر حينما سئل مرة عن غياب كل هذه التنظيمات الموازية في حزب يبحث لنفسه عن موطئ قدم في المشهد السياسي؛ وردَّ، ببرودة دم، بأن الأصالة والمعاصرة ليس في حاجة إلى كل هذا. يتطلع المغاربة، اليوم، إلى ما يمكن أن تسفر عنه أول استحقاقات في ظل حكومة بنكيران، ميزتها أنها ستؤسس لجهوية متقدمة. ويكاد يجزم الكثيرون بأنه لن تحسم في الأمر البرامج الانتخابية، التي تدبجها الأحزاب السياسية، ولا الأرقام التي تقدمها حول النمو والتشغيل والبطالة؛ ولكن الحسم سيكون عن طريق أعيان الانتخابات، الذين عادوا بقوة ليوظفوا الخطاب «السياسي» الذي تحتاجه المرحلة. لذلك يبدو أن الاعتماد على هذه الوصفة السحرية، التي اهتدت إليها أحزابنا، يمينها ويسارها، لن يغير في الحياة السياسية الشيء الكثير، على الرغم من وجود بضعة تنظيمات سياسية لاتزال تعتمد في معاركها على مناضلي المقرات الحزبية.