مر ربع قرن على ذكرى وفاة محمد داود، المؤرخ المغربي الكبير الذي ساهم، إثر تخرجه من جامع القرويين (1922)، في انبثاق الحركة الإصلاحية بتطوان في منحاها المشبع، على الصعيد الديني، بسلفية متسامحة. حيث كان مثقفا مندمجا، تقليديا، على تخوم الحداثة، ورجل سياسة محنكا، ألف عن تطوان موسوعة تاريخية ضخمة. تكريما لذكرى وفاته، نستعيد بعضا من سيرة حياته. كنت صبيا عندما أخذني أبي، ذات يوم، لحضور درس ديني يلقيه الفقيه محمد داود (1901 - 1984)، قبيل صلاة العشاء، بالمسجد الصغير الذي شيده بمحاذاة منزله. كان المسجد غاصا بسكان الدرب، الذي كان يعرف بدرب داود: بعضهم يصلي، قائما أو راكعا، تحية المسجد، والبعض الآخر يتجاذب أطراف الحديث بصوت هامس في انتظار حضور الفقيه. إثر ذلك، برز من باب ضيق ملاصق للمحراب رجل بدين، متوسط القامة، يرتدي جلبابا رماديا ويضع على عينيه نظارة سميكة يبرز فوقها حاجبان كثان، فأشار إليه والدي وهو يهمس لي: «إنه الفقيه». كانت تلك أول مرة أشاهده فيها عن كثب. ومع أني رأيته بعد ذلك في مناسبات عدة، وزرته في بيته للاطلاع على مكتبته التي لم يكن قد فتحها بعد في وجه العموم، فإن صورته تلك لازمت ذاكرتي كما لو أنها صورة نمطية تختصر هيأة الرجل: بسط لبدة قانية داخل ثغرة المحراب، وجلس واضعا كفيه على ركبتيه، ثم شرع في درسه الذي أتذكر أنه كان يلقيه طيلة شهر رمضان. كان كلامه مشبعا بالصدق والصراحة، ولم يكن مبالغا في الحرص على الحديث باللغة الفصحى، بل كان يستعمل الدارجة، في كثير من الأحيان، وكثيرا ما كان يروي نكتا تثير عاصفة من الضحك لدى المستمعين، رغم قداسة المكان. سيرة حياة ارتبط نعت الفقيه باسم محمد داود ارتباطا وثيقا، فكلما ذكر في تطوان إلا وعرف المستمع أن الأمر يتعلق به. مع ذلك، لم يكن الرجل فقيها بالمعنى الشائع، حيث لا تشغله إلا أمور الدين، بل كان، بالأحرى، مربيا حقيقيا يرى في المدرسة مفتاحا للخروج من التخلف، ووسيلة لاكتشاف العصر بكل ما ينطوي عليه من معارف ولغات. لقد شغل مناصب رسمية بوزارة المعارف في إحدى الحكومات الخليفية إبان الحماية، ولعله في إطار ذلك كان يتردد علينا، بين الحين والآخر، في «المدرسة الأهلية» متفقدا أحوال التلاميذ، وسير التعليم وهي المدرسة التي ساهم في تأسيسها مع بعض الأعيان في أواسط عشرينيات القرن الماضي، كما درّس بها غداة إحداثها. إلى جانب ذلك، كان محمد داود مثقفا مندمجا، تقليديا على تخوم الحداثة، متفتحا، شديد الإقبال على القراءة، خصوصا قراءة ما يصل إليه بالبريد من منشورات مشرقية شغف بها إبان زيارته لمصر. لقد مارس بيع الكتب، ردحا من الزمن، في دكان صغير بجوار «جامع القصبة»، وهناك تفتحت شهيته لجمع ثمرات المطابع، إلى أن غدت مكتبته الشخصية تتوفر على كم ضخم من الصحف التي تحكي، بالنص والصورة، تقلبات تاريخ مصر والشرق الأوسط في الثلاثينيات والأربعينيات، بالإضافة إلى مئات الكتب والمجلات والوثائق النادرة. كان أيضا رجل سياسة ملتزما، حيث ساهم، إثر تخرجه من جامع القرويين (1922)، في انبثاق الحركة الإصلاحية بتطوان في منحاها المشبع، على الصعيد الديني، بسلفية متسامحة. كما عمل على تطعيم مسارها الثقافي بإصدار مجلة «السلام » (1933) التي شكلت نافذة مشرعة على التفكير الأدبي، وتطعيم مسارها الإعلامي عبر إصدار جريدة «الأخبار» (1936) التي لم تعمر طويلا. كان محمد داود رجلا ذا إرادة قوية، وفردانية مفعمة بطموح لا حد له، لذا لم تكن السياسة، بالنسبة إليه، مداهنة ولا لعبا على الحبال، بل كانت مواجهة للصعاب لا تخلو من عناد واندفاع، وهو المنحى الذي لم يكن محل تفهم من بعض مجايليه المنخرطين في سياسة تميل إلى مهادنة المؤسسات. داود المؤرخ بيد أن الصورة التي ستبقى للتاريخ عن رجل النهضة هذا هي صورته كمؤرخ كبير. فلقد ألف عن تطوان، مسقط رأسه، موسوعة تاريخية ضخمة بعنوان «تاريخ تطوان» (1959) حذا فيها حذو مؤرخين سابقين من أساتذته هما عبد السلام السكيرج صاحب «نزهة الإخوان في تاريخ تطوان»، وأحمد الرهوني مؤلف «عمدة الراوين»، لكنه تميز عنهما بالاعتماد على الوثيقة والتقاييد الشخصية، والمراجع المعاصرة للأحداث، كما لم يتردد في الاطلاع على الوثائق الأجنبية، بل لم يستنكف البتة من استشارة بعض أصدقائه ممن كان لهم اهتمام بتاريخ المدينة مثل التهامي الوزاني (1903-1972) الذي وضع لبعض أجزاء «تاريخ تطوان» حواشي بالغة الأهمية. كنت تلميذا حديث العهد بالتعليم الثانوي، وفي الطريق من بيتنا في باب العقلة إلى «المعهد الرسمي» كان من حظي أن أمر بمكتبتين أو أكثر فأتوقف عند واجهاتها مستمتعا برؤية أغلفة الكتب القادمة من الشرق، ومن مصر ولبنان على وجه الخصوص. وكان وجود بعض أجزاء «تاريخ تطوان»، بين هذه الكتب المعروضة، يثير انتباهي ويبعث في نفسي أسئلة ساذجة من قبيل: هل للمدينة التي أقطن بها تاريخ جدير بالكتابة؟ وهل فيها كتاب يستحقون أن تُعرض مؤلفاتهم بين إنتاجات مشاهير الكتاب المشارقة؟.. ومع أن وقتا طويلا مر على تساؤلاتي، فإنني ما زلت أشعر إلى الآن بالدهشة حيال ذلك المؤلَّف متعدد الأجزاء، ويخامرني إعجاب كبير بصاحبه الذي قضى دهرا من حياته يدوّن الوقائع ويقارن بين الوثائق ويصنفها ثم يقوم بالتعليق عليها في نهاية المطاف. لقد كانت كتابة هذا التاريخ، بالنسبة إلى الفقيه، مشروعا وجوديا لا يضع مدينة محببة إليه في مجرى التاريخ الوطني فحسب، ولكن يبوّئها مكانا مركزيا مفتوحا على مستقبل غير منظور. أذكر هنا أنه عندما زار الاتحاد السوفياتي في السبعينيات، شاهد نسخة من مؤلفه معروضة في المكتبة الوطنية بموسكو بين كبريات مؤلفات تاريخ العالم، فغمرته فرحة طفولية عارمة، إلى درجة أنه روى «الحادث المثير» لأصدقائه ومعارفه حين عاد. مدينة تزدهر لقد رأى الفقيه في تطوان مشروع مدينة تزدهر فيها الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ازدهارا متناميا. غير أنه فيما كان يؤرخ لها، كانت المدينة تنتقل رويدا رويدا، وعلى نحو لا رجعة فيه، من «المركز» إلى «الهامش»: فالعائلات التطوانية، ممثلة في نخبتها التي عملت، بين الحربين العالميتين، على تبلور سياسة محلية، تكاد تكون منكفئة على ذاتها، فقدت، مع مجيء الاستقلال، سيطرتها على مقاليد الأوضاع، وذلك بسبب انتقال المصير السياسي بصورة مفاجئة من تطوان إلى الرباط، بعد إلغاء الخلافة السلطانية وحل حزب الإصلاح الوطني والتحاق زعيمه بحزب الاستقلال. الحياة الثقافية، بدورها، عرفت تقلصا مطردا ليس فقط على مستوى الصحف والمجلات والكتب والمطابع، وإنما كذلك على صعيد المنتديات والجمعيات ومراكز البحث التي كانت بؤرة النشاط العلمي والثقافي. أما الحياة الاجتماعية فقد ظهر تدهورها على شكل «بدونة» حثيثة: هكذا حل محل الحياة التطوانية ذات الأصول الأندلسية المغربية المشبعة بروح مدينية متحضرة لا تخلو من عتاقة، نمط من الحياة والعلائق الاجتماعية ينحو منحى تجاهل قيم الماضي، ويقيم في فضاء طارئ، مترحل، وغير متجذر في عمران المدينة. لقد تجلى أثر هذا الانقلاب لاحقا في تحول الدور العتيقة إلى منازل جماعية وبازارات وقاعات أفراح، وفي ظهور البناء العشوائي، وبروز نموذج المهاجر الثري أو القادم الباحث عن عمل في اقتصاد التهريب، بعد اجتثاث الصناعات الصغيرة والتقليدية. وعندما اعتلت صحة الفقيه، وفقد البصر نتيجة استفحال داء السكري، فرض التوازي بين مآله الشخصي ومآل تطوان التي أرخ لها نفسَهُ عليَّ بإلحاح على هيأة مجاز كئيب. واليوم، فإنني لا أرى في موته، الذي صادف حوادث تطوان الدامية سنة 1984، موت رجل نهضة لم تكن له من حيلة إزاء شراسة التحولات فقط، وإنما موت مشروع فكري جميل لا زال العديد من التطوانيين يحلم بإمكان تحققه ذات يوم. رجل نهضة لم يكن الفقيه، كما لاحظنا، شخصية منعزلة عن عصرها. وعلى ما يبدو، فإنه كان يدرك تمام الإدراك أهمية الفترة التاريخية التي عاشها، ومحورية الأشخاص الذين عاصرهم واحتك بهم عن قرب (مثل شكيب أرسلان وعبد الخالق الطريس وعبد السلام بنونة والتهامي الوزاني.. إلخ)، وفداحة المهمة المنوطة به هو شخصيا في معترك الحراك السياسي. لم يكن هذا الإدراك مرتبطا فقط بدوره كمؤرخ يواكب الأحداث ويحللها، بل يتعدى ذلك إلى ممارسة الخيارات العملية وما يترتب عنها من خلافات في الرأي وتعارض في وجهات النظر، خاصة وأن الأمر يتعلق بمهام مستعجلة: بلورة الهوية، والخروج من التخلف، والاستقلال الوطني. لقد سمعت والدي مرات عدة وهو يحكي لجلسائه عن «الصراعات» التي كانت رحاها تدور بين الفقيه من جهة، وعبد السلام بنونة وعبد الخالق الطريس من جهة أخرى، حول أساليب العمل الوطني وغاياته. لم تكن «صراعات» سياسية بل سلوكية في العمق. وإذا كان لها من دلالة في مجرى حياة الفقيه، فهي دلالتها على كونه كان شخصية مندمجة في مسار اجتماعي حافل بالأسئلة، منطو على كثير من العثرات، وعلى بعض الانتصارات التي يجب الاستماتة في الحفاظ عليها. في هذا الإطار، أصنف اهتمام الفقيه بكتابة سيرة حياته، وحرصه على التأريخ لنفسه، ولطبيعة تكوينه الثقافي، وللغايات الخلقية التي رسمها كأفق له. إنني أشير هنا، بصفة خاصة، إلى كتاب كثيرا ما أعلن عن قرب صدوره، لكن جزأه الأول لم يصدر إلا بعد وفاة صاحبه، وأعني «على رأس الأربعين» (1999). لست أدري لماذا تردد الفقيه في نشره، أو عدل عن ذالك بالأحرى حسب ما يقال، لكني أنظر بكثير من الاهتمام إلى ذلك الشكل الكتابي المرن الذي اختاره للتعبير عن الخاصية العضوية لانتمائه الاجتماعي والثقافي: شكل يمزج بين البوح الصريح الذي يقترب من السيرة الذاتية، وسرد «الفهرسة» الذي دأب العلماء التقليديون على تضمينه مؤلفاتهم للتعريف بمساراتهم الذاتية. وإذا كانت «الزاوية» (1942)، سيرة التهامي الوزاني، قد أرخت للحياة الباطنية والصوفية للكاتب، فإن «على رأس الأربعين» يشكل وثيقة ناطقة ومعبرة عن مجريات فترة هامة من حياتنا الوطنية بدأ النسيان يطويها، وعن أشخاص نابهين أخذوا الآن يدخلون مناطق الظل الواحد بعد الآخر.