لم تعد «حفيظة.س» التي تقيم بمدينة آسفي الساحلية تطيق وضعها الاجتماعي، كما لم تعد تطيق سلوكاتها التي تقوم بها كي تعيل أسرة كبيرة تتكون من تسعة أفراد، بالإضافة إلى زوجات أبنائها، حفيظة التي تبلغ من العمر 67 سنة، ومنذ أن حصلت على التقاعد لم تعد تقدر على توفير حاجيات أبنائها، نظرا لسنها المتقدمة والمبلغ الزهيد الذي تحصل عليه كل شهر بعد إحالتها على التقاعد من أحد معامل تصبير السردين، التي لم يعد لها أثر سوى الأطلال والأحجار المتراكمة بعد أن نخرها التقادم والكساد الذي عرفته المدينة خلال السنوات العشر الماضية. حفيظة لم تحتمل استعادة ذكريات «العز» الذي كانت تعيشه نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، «درست أبنائي في مدارس البعثة الفرنسية وكانوا يلبسون أحسن الألبسة»، لكن اليوم وبعد «غدر الزمان» لم تعد المسكينة تقدر على توفير عشاء يوم، إلا بعد معاناة ومشقة كبيرة، فبالأحرى توفير مطالب «فريق» من العاطلين عن العمل. عبد الرزاق (31 سنة) أحد أبناء حفيظة الذي لم يتمكن من إتمام دراسته، لا يكاد يمر يوم إلا ويحصل على 20 درهما من مصروف أمه، التي لجأت إلى التسول من أجل أن تحمي نفسها من أي عنف يمكن أن تتعرض له من قبل ولدها الذي ربته وسهرت على رعايته، خصوصا وأن عبد الرزاق يتعاطى شتى أنواع المخدرات بما فيها «السيليسيون». المبلغ المالي الذي تحصل عليه حفيظة كل شهر من صندوق التقاعد لا يكفيها لتسديد واجب الكراء، فبالأحرى توفير لقمة العيش لها ولأولادها ولزوجاتهم. 150 درهما هو المبلغ الذي تحصل عليه الأم كل شهر من صندوق التقاعد، هذا المبلغ هو نفسه الذي يجب أن تمنحه لصاحب المنزل بمنطقة كاوكي بالمدينة، «منين غادي نعيش حتى نموت» تقول حفيظة بحسرة تكاد تقطع أنفاسها التي أصبحت تضيق مع التلوث الذي ضرب المدينة حتى الأطناب، أصبحت معه حفيظة مريضة بداء الربو ليزيد المرض من مآسي الوالدة، «كانبقا خمسة أيام بدون رشاشة ديال الضيقة، لدرجة أني كانطيح شحال من مرة في الشارع»، ترسم الأم الصورة والمشاهد التي تكون بطلتها بمجرد أن ينفد الدواء وتصبح اليد قصيرة لأن تطاله. اضطرت حفيظة، التي أصبحت تتمنى الموت قريبا من أجل وضع حد لمعاناتها، إلى اللجوء إلى التسول خلسة عن أبنائها، إذ تلبس «النقاب» وتذهب تارة أمام أبواب المساجد من أجل دراهم معدودة تنفقها على أسرتها وتارة تتجول في المقاهي أو تجلس أمام الأسواق والأبناك، وتتجنب الحديث مع الناس أثناء التسول، مخافة أن يعرف صوتها ويكتشف أمرها ويصل خبرها إلى أبنائها وجيرانها. تتأسف حفيظة في حديثها مع «المساء» على أمور كثيرة، لكن اثنين منها تعتبرهما من الأقدار الكبرى التي شكلت حقيقة معاناتها والحالة التي وصلت إليها. أول شيء تقر به حفيظة هي أنها لم توفق في تربية أولادها كما يجب، «كنت فقط أفكر في الإنفاق عليهم، دون الانتباه إلى تربيتهم الصالحة»، التي كان بالإمكان أن تعود عليها بالنفع حينما تصل إلى مرحلة الوهن والشيخوخة، كما لم تضع موت زوجها قبلها في الحسبان. تقول: «كان يجب أن أفكر مع زوجي في توفير بعض المال من أجل أن نعيش به أيامنا الأخيرة»، لكن هل يصلح العطار ما أفسده الدهر . بالطبع لا.