تتأسس السياسة الدينية في المغرب على عنصرين أساسيين: عنصر الوصل بين الدين والسياسة على مستوى الملك بوصفه أميرا للمؤمنين؛ فبهذا الوصف يحق للملك وحده أن يجمع في شخصه بين الصفة الدينية والصفة السياسية؛ وعنصر الفصل بين الدين والسياسة على مستوى باقي الفاعلين، بحيث لا يجوز لأي فاعل سياسي أن يتدخل في قضايا ذات طبيعة دينية كما لا يجوز لأي فاعل ديني أن يتدخل في قضايا ذات طبيعة سياسية، إنها صيغة سعى من خلالها النظام السياسي المغربي إلى الحفاظ على توازناته، من جهة، واحتكار التأويل الديني، من جهة أخرى. إن هذه الصيغة وإن كانت ممكنة نظريا، فإن تنزيلها على أرض الواقع يطرح إشكالات عديدة، بل يفضي إلى مفارقات، خاصة وأن الفاعل الديني يطلب منه، في نفس الوقت، الابتعاد عن العمل السياسي والانخراط في الدفاع عن ثوابت الدولة. السياسة الدينية، بكامل عناصرها ومجمل أهدافها وما يترتب عنها من مفارقات، هي التي تحدد موقع «السلفية كتيار ديني في الاستراتيجية السياسية للدولة المغربية، كما تحدد الأدوار المطلوب القيام بها من «السلفية»، سواء على مستوى تكريس احتكار المؤسسة الملكية للتأويل الديني أو على مستوى الحفاظ على التوازنات، كلما تطلب الأمر ذلك، لمواجهة فاعلين دينيين يعملون وفق استراتيجيات مضادة للاستراتيجية الدينية الرسمية. كيف تساهم «السلفية» في تكريس احتكار التأويل الديني من قبل المؤسسة الملكية؟ انتهجت السلفية المغربية ثلاثة مسارات: - تمثل المسار الأول في الابتعاد عن «السياسة»، فمحمد المغراوي يعتبر «الاشتغال بالسياسة بابا للفتنة ويجر إلى التنازلات غير المقبولة والتي هي -بمنطق المذهب السلفي- خيانة للأصول، فأصحاب الجماعات الأخرى كان لهم استعداد مبدئي للاشتغال في السياسة والانخراط في التوفيق العلمي نظرا إلى مرجعياتهم المتعددة والتي أحدثت لهم خللا في المنهج والعمل، وبذلك غاب عندهم المبدأ الموجه». إن مسار الابتعاد عن السياسة تترتب عنه عدة آثار تحكم، إلى حد بعيد، سلوك السلفية المغربية، ومنها: أولا، تجنب الخوض في كل ما من شأنه أن يثير الخلاف، سواء تعلق الأمر بقضايا دولية أو بقضايا وطنية؛ فعلى مستوى القضايا الدولية، يقول المغراوي: «عايشت أحداثا كثيرة طيلة أربعين عاما. أنا شخصيا -حسب تتبعي للأحداث التاريخية- أحاول أن ألتزم الهدوء والسلامة في الأمور. قضية الخميني تفاعل معها الكثير، لكنني كنت دائما، حينها، أدعو إلى التأني وأقول: هل شيعة اليوم هم شيعة الأمس؟ قضية دخول العراق إلى الكويت، الكثيرون ساندوا صدام.. واعتبروا الأمر جهادا، لكنني دعوت مرة أخرى إلى التريث وقلت: صدام عرف بقتل العلماء والأبرياء. أما عندما وقعت أحداث 11 شتنبر، فقد سئلت عن موقفي منها، فكان جوابي: يمكن أن أعلق على ما حدث بعد مرور خمس سنوات. أنا أقول إن على المرء ألا يتسرع في الحكم على الأحداث حتى لا يتورط فيما بعد»، «الصحيفة» يناير2003. هذا على صعيد القضايا الدولية؛ أما على صعيد القضايا الوطنية، فقد رفض محمد المغراوي المشاركة في المسيرة التي نظمت يوم 12 مارس 2002 بالدار البيضاء تنديدا بمشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية والتي دعا إليها الإسلاميون. ثانيا، عدم شرعية الخروج على الحاكم لما في الخروج من مفاسد كثيرة، يقول محمد المغراوي في مؤلفه «أهل الإفك والبهتان الرادون عن السنة والقرآن»، الصادر سنة 2001: «فجور الإمام لا يجيز لنا الخروج عليه ولا يجوز لنا أن نسبّه ولا أن نشتمه ولا أن نتكلم فيه». - وتجسد المسار الثاني في الرغبة في احتواء بعض الثوابت الدينية، خاصة ما تعلق بالعقيدة الأشعرية والمذهب المالكي، فالسلفية المغربية لم تتعامل مع الثابتين سالفي الذكر باعتبارهما يتناقضان مع ثوابت العقيدة السلفية وإنما تم الحرص على إبراز نقط الالتقاء، وهكذا كان هناك تركيز على إظهار العقيدة السلفية للأشعري كما عبر عنها أواخر حياته في كتاب «الإبانة»، كما اعتبر فقه مالك مندرجا في باب الاجتهاد، والأصل في الاجتهاد احتمال الخطأ والصواب؛ وشكلت هذه الرؤية مدخلا لصرف النظر عن الجوانب الفقهية عند مالك والانكباب على الجوانب العقدية لديه والتي اعتبرت سلفية المنحى. إن المسارين اللذين اعتمدتهما السلفية المغربية مكناها من لعب دور على مستوى تكريس احتكار التأويل الديني من قبل المؤسسة الملكية. لكن كيف ساهمت هذه السلفية في حفظ التوازنات الدينية؟ تشكل «المواجهة بالوكالة» عنصرا في استراتيجية السلطة السياسية تجاه الإسلاميين؛ فهي تتجنب كل صراع مفتوح باعتبار أن «الملكية» هي فوق جميع الفاعلين والصراع المفتوح يجعل منها طرفا؛ لذلك فمواجهة السلطة السياسية للإسلاميين تمارس بواسطة «وكلاء» يخوضونها نيابة عنها. لقد أدركت السلطة محدودية خوض المواجهة ضد الإسلاميين بواسطة «فاعلين سياسيين»، ذلك أن مثل هذه المواجهة لن يستفيد منها إلا الإسلاميون باعتبار أن «الفاعلين السياسيين» يطالبون، منذ البداية، بالفصل بين الدين والسياسة، وهذه نقطة ضعفهم، لذلك فالمواجهة لن تكتسب أهميتها وتنتج آثارها إلا إذا خيضت بواسطة «وكلاء» ينتمون إلى نفس «مرجعية الإسلاميين». في هذا السياق، تندرج مواجهة بعض الإسلاميين من قبل بعض الفاعلين الدينيين. يعتبر الفاعل «السلفي» أفضل وكيل بالنسبة إلى السلطة السياسية لخوض مواجهة ضد «الإسلاميين»، وخاصة «جماعة العدل والإحسان». وسنشير إلى نموذجين يختلفان على مستوى الارتباط السياسي: الأول يمثله «محمد بن عبد الرحمان المغراوي» والثاني يجسده «محمد الفيزازي». في حربه ضد عبد السلام ياسين ومن خلاله جماعة العدل والإحسان، قرر «محمد بن عبد الرحمان المغراوي» إصدار سلسلة من الدراسات بعنوان: «الإحسان في اتباع السنة والقرآن لا في تقليد أخطاء الرجال». إن الدفاع عن «السلفية» لا يستقيم إلا بإعلان الحرب على «الصوفية»، فهذه «الحرب»، بالنسبة إلى المغراوي، «أمر واجب على كل مسلم ومسلمة وفعله قربة وجهاد، فمن تخلف عنه فهو مخذول يرضى بالدخلاء على دينه، فمتى كانت الصوفية إسلاما؟ وهل هي إلا لقيطة هندية بغى بها جماعة من العجم وأكثرت من اللقطاء في كل زمان ومكان؟ فرحمة الله على سلفنا الصالح إذ ناصبوا هذه اللقيطة العجوز الشمطاء العداء والعداوة في كل زمان ومكان». إن هذا الحكم يسمح للمغراوي بالانتقال خطوة إلى الأمام في مواجهته المفتوحة، انتقالا من «العام» إلى «الخاص»، أو، بتعبير أوضح، انتقالا من «الصوفية» إلى «عبد السلام ياسين» باعتباره أحد المستميتين بها والمنافحين عنها، وما دام إعلان الحرب على «الصوفية» قربة وجهادا فالأولى أن تعلن على «عبد السلام ياسين» باعتباره أحد رموزها، والمدخل إلى ذلك تبيان «كفرياته». يخلص محمد المغراوي إلى نتيجة مركزية: إن المنهاج النبوي، كإطار نظري موجه إلى عبد السلام ياسين وجماعة العدل والإحسان، لا علاقة له بالإسلام، إنه منهاج «صوفي» يتناقض تمام التناقض مع المنهاج «النبوي»، هكذا يضع «المغراوي» ياسين وجماعته خارج دائرة الإسلام.