طرحت وثيقة جمعية "بدائل" حول تصورها للمغرب مجتمعا ودولة، نقاشات عدة وقد تلقت "التجديد" قراءات نقدية لهذه الوثيقة ننشر اليوم إحداها على أساس نشر قراءات أخرى في أعداد لاحقة. لم يعد الأمر مجرد مداخلات وأفكار يطرحها بن عمور على صفحات بعض الجرائد، وإنما الأمر هذه المرة تقعد وانتظم في شكل وثيقة تشكل الأساس النظري والايديولوجي لجمعية بدائل. فقد نشرت جريدة البيان في صفحتها الأخيرة من عدد يوم السبت 26 مارس 2005 بيانا للجمعية المذكورة، يحدد الأسس الكفيلة بإقلاع المغرب.ينطلق البيان من توصيف للراهن الحالي،ويطرح أسئلة كثيرة تسعى إلى إيجاد مداخل لرؤية مستوعبة يمكن أن تجعل المغرب على قاطرة النهضة والحداثة. وإذا كان التوصيف والتشخيص لمظاهر الاختلال في هذا البلد تكاد تجد بعض الإجماع بين الفرقاء السياسيين،بل وحتى المنظرين الفكريين فإن مداخل الإصلاح ومنطلقاته تبقى محل خلاف وتجاذب. لا خلاف حول تشخيص الأزمة لا أحد يشك في أن البلد يعيش أزمة مستفحلة تتعدى مظاهرها بعض الملاحظات العابرة المسجلة في البيان. وإذا كانت الوثيقة سجلت بعض المظاهر في: هزالة الطبقة السياسية، واتساع الهوة بين الجماهير والنخبة، والانهيار في الفضاء الايديولوجي والسياسي للعهد الماضي، وهيمنة النزعة الانتهازية على العمل السياسي. فإنها لم تسع لتوضيح محددات هذه الوضعية، بل اكتفت بعمومات لفظية غير مؤطرة بأية رؤية فلسفية أو سياسية . فالبيان مليء بعبارات عامة فضفاضة من مثل: رد الاعتبار للسياسة. ضرورة عقد إصلاحي. السياسية محل الانتهازية. بناء عقد اجتماعي. تعبئة المجتمع وانخراطه ضمن رؤية جديدة. وهذه العمومات اللفظية التي تحتمل أكثر من مقاربة وأكثر من مدخل،تجعل قرابة نصف البيان عبارة عن اجترار ذات النفس الوصفي والانشائي الذي يدبجه بعض الفرقاء السياسيين، وهم يشخصون وضعية هذا البلد. لكن الجديد الذي طرحه البيان هو عنصر التربية، وهو أمر يستدعي قليلا من التأمل والنقاش. فحسب البيان: فالعامل المهم الذي يتأسس عليه الخيار الديمقراطي، بل وتتأسس عليه التنمية الاقتصادية ،وكل النظام الاجتماعي هو التربية. فالتربية حسب البيان تلعب وظيفتين متكاملتين: فهي، أولا، تمكن رجال هذا البلد من العيش كمواطنين، وهي، ثانيا، تمكنهم من التمتع بالمزايا التي يخولها لهم المجتمع. وإذا كان البيان ركز على ضرورة التربية ، وأهميتها الاستراتيجية، وحدد بعض وظائفها ممهدا الطريق لطرح إعادة هيكلة النظام التربوي، بما يستلزمه من إصلاح فكري ضروري، فإنه جاء خاليا من الحديث عن هوية هذه التربية وطبيعتها ومصادرها. أي تربية؟ لنتفق على هذه القناعة، ولنسم بهذا الاتفاق إلى اعتبار هذا العنوان مسلمة وأرضية للعمل المشترك، لكن الخلاف الذي يبدو ظاهرا هو أية تربية نريد؟ وماهي المصادر التي تستلهم منها هذه التربية؟ هل هي مصادرنا الإسلامية التي يشكل الوحي مركز رؤيتها؟ أم هي القيم الكونية، وما استقر من مفاهيم وثقافة سائدة أملاها واقع التحكم والهيمنة الدولية!أسئلة تعيد النقاش إلى البدء، وتمنع القفز على هذه المنطلقات، لطرح إعادة هيكلة النظام التربوي للنقاش؟ فنوعية المنطلقات هي التي تحدد طبيعة الإصلاح المرتقب والمتوقع من طرف أي توجه يعبر عن طيف فكري أو سياسي في هذا البلد. وإذا كان البيان قد أغفل الحديث عن هوية التربية وطبيعتها ومصادرها، فقراءة مجمل فقرات البيان، والتأمل في النقاط المقترحة لإعادة هيكلة النظام التربوي تشير إلى اعتبار القيم الكونية هي الوحيدة المؤهلة لتشكيل قاعدة الديمقراطية. وقد أشار البيان إلى خيارين اثنين لا خلاف حولهما وحول ضرورتهما وكونهما منطلقين لأية رؤية إصلاحية: تكافؤ الفرص. مطلب الحرية. الدنيوية كقاعدة إيديولوجية لعل أوضح نقطة في البيان هي تلك التي تتعلق بالملكية والشرعية الدينية. وقد فضل البيان عدم الحديث عن مصطلح إمارة المؤمنين وعن الشرعية الدينية وتحدث بلغة فيها كثير من القصد عن المرجعية الدستورية، وعن السلطة الدينية. ويرجع استبعاد تلك المصطلحات، في اعتقادي، إلى محاولة إقصاء الحمولات التاريخية والحضارية لمصطلح الإمارة، واستبعاد الحمولة السياسية لمصطلح الشرعية. ويمضي البيان في اقتراح مصطلح الدنيوية كبديل عن مصطلح اللائكية لتجاوز التعبيرات السلبية للدين، ولنفي المصاحبات التاريخية التي صاحبت الكنيسة عن ديننا الإسلامي. على أن يكون التكييف الطبيعي للدنيوية على واقع الأرض، هو أن نعتبر الدين الإسلامي كمرجعية دستورية للدولة ويمضي البيان في تفصيل هذه النقطة: الدين هو قيم وثقافة النصوص ينبغي أن تترك لمسؤولية سلطة دينية يترأسها الملك. هذه السلطة الدينية مهمتها الوحيدة الوعظ والإرشاد، بخطاب ترغيبي بعيد عن الترهيب والإكراه والعنف. والذي ينتظم هذه النقاط الثلاثة: هو الفصل بين الحقل الديني والحقل السياسي، ذلك الفصل الذي يعني إقصاء النصوص ذات العلاقة الحيوية بالمحيط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي عن مجال التدبير العام. فالدين بهذا التصور يبقى مجرد قيم وأخلاق كونية يشعرنا بنوع من الخصوصية. أما قضايا الشأن العام والقضايا التنظيمية فيبقى على الدين ألا يلعب أي دور في هذا الاتجاه. إقصاء الدين عن حقل التدبير العام أم دعوة إلى الاجتهاد؟ غير أن الملاحظ في البيان أن هناك ترددا كبيرا قد يصل إلى درجة التناقض. فمن اللغة الصريحة التي تحاول أن تحصر الدين في بعده القيمي الأخلاقي، إلى الدعوة إلى الاجتهاد في بعض النصوص الشرعية:جاء في البيان ففي بعض الحالات بالضبط يمكن اللجوء إلى الاجتهاد والرجوع إلى أسباب النزول والوقوف ضد تطبيقها. والذي يفسر مثل هذا التردد هو عدم قدرة جمعية بدائل على حسم اختيارها الفكري في هذا الشأن: فالاجتهاد في النصوص الشرعية وفي تنزيلها، يعني الاعتراف بقدرة الإسلام على الانسحاب على جميع مجالات المجتمع. وهو أمر لا يستقيم نظريا مع الدعوة إلى ترك النصوص ذات العلاقة بتنظيم المجتمع وقضايا السياسة والاقتصاد. فهل هذا التردد مبرر بطبيعته الاختلافات الفكرية داخل فضاء جمعية بدائل؟ أم هو مقصود غرضه عدم الخروج برؤية راديكالية متطرفة قد لا تلقى تجاوبا على المستوى الشعبي. تصوران للملكية في المغرب نفس التردد الحاصل في الرؤية المؤطرة للفصل بين الحقل الديني والحقل السياسي، نجده بشكل ملحوظ في التصور المقترح للملكية في المغرب. فتارة يطرح البيان النموذج الإسباني كمثال للتأمل والتفكير ،بما يعنيه ذلك الحسم مع مفهوم الملكية التنفيذية. وتارة يطرح البيان نموذج أوسع سقفا من النموذج الإسباني وأقل من نموذج الملكية الحاكمة حاليا في المغرب. إنها ملكية تنفيذية محدودة الاختصاصات، بحيث تمتد سلطتها فقط إلى: الأمن والدفاع الوطني حماية الاختيار الديمقراطي من نزعات التطرف. وإذا كان تفسير التردد الحاصل بين التصور الناظم للفصل بين الحقل الديني والسياسي فيه كثير من احتمالات التفسير والتأويل، فالتردد الحاصل في التصور لطبيعة الملكية المقترحة لنظام المغرب يبقى واضحا مفهوما. فراديكالية اختيار تمثل النموذج الاسباني يجعلها مجرد فكرة للتفكير والتأمل، أو قل للدقة حلم استراتيجي في المغرب. والملكية ذات السلطة التنفيذية المحدودة والمعينة هي رؤية متكيفة قد تكون مطلب الحد الأدنى، والتكتيك المرحلي لبلوغ النموذج الموضوع خيارا لا للتأمل فقط بل للتنفيذ. بدائل: تصور طائفي للحركة الإسلامية يطرح البيان تصورا يسعى من خلاله إلى إيجاد موقع معين للفاعل الحركي الإسلامي ضمن الخريطة السياسية، ذلك الموقع الذي يتسيج بجملة من الضوابط والقيود، التي لا يخضع لها إلا هو. فالتصور النظري لجمعية بدائل لا يمنع من تأسيس تنظيمات سياسية ذات نزعة إسلامية ديمقراطية على شاكلة الأحزاب المسيحية الديمقراطية يمكن قبول أشخاص لهم مواقف دينية أشد راديكالية ويمكنهم الدفاع عن أفكارهم في إطار التناوب الديمقراطي. لابد من إعلان تشبتهم بالخيار الديمقراطي. لابد من اعترافهم بالفصل بين السياسة والدين. فرض بعض القوانين الخاصةعلى مثل هذه الأحزاب مثل: الابتعاد عن العنصرية والقذف والاقصاء أو محاولة تطبيق الحدود أو القوانين التي تتعارض مع حقوق الإنسان. والمتأمل لمثل هذه الرؤية يجد ذات التردد السابق، فالاعتراف بمثل هذه الأحزاب وقبولها ضمن الخريطة السياسية والنظام السياسي ككل أمر فيه كثير من الإيجابية والديمقراطية، غير أن إلزام هذه الأحزاب بمواقف فكرية مثل (الفصل بين الدين والسياسة) فيه كثير من العسف والاستبداد والإقصاء الفكري. فلا يملك أحدا أن يصادر تصور فريق معين، ولا يملك أحدا أن يملي عليه تصورا لا يتبناه بالضرورة. والواقع أن إلزام أحزاب معينة بقوانين خاصة يوحي في بداية الأمر وكأن العنصرية والقذف والإقصاء هي صفات لصيقة فقط بالأحزاب ذات التوجهات الإسلامية، والمتأمل في هذا الأمر يجد في هذا الاقتراح نفسا إيديولوجيا يسعى إلى الاستعانة بالترسانة القانونية لمنع قيام الأحزاب ذات التوجه الإسلامي، أو على الأقل منعها من تأسيس خطابها الفكري والسياسي، ومن تجذرها الجماهيري. والحال أن الديمقراطية بقواعدها وأعرافها تقتضي وضع قوانين عامة تسري على جميع الأحزاب، وتكون أولا موضوع إجماع بين جميع الفرقاء السياسيين. والتمييز بين الأحزاب لاعتبار حساسياتها الفكرية، ونزعاتها الايديولوجية، هو أمر غير مقبول ديمقراطيا. خلاصة الرؤية تطرح الرؤية جملة من النقاط البرنامجية المهمة مثل: دمقرطة الأحزاب حرية الصحافة أخلاقيات مهنة الصحافة إصلاح المجال السمعي البصري إصلاح السلطة القضائية إصلاح النظام الانتخابي إعادة النظر في مسطرة تعيين الموظفين السامين للدولة ضمان الشغل. تنمية الانتاجية تنمية الاصلاحات الاقتصادية ذات البعد الاجتماعي. وهي حسب النظر تبقى شعارات وأولويات لا ينفك برنامج حزب سياسي من الإشارة إليها، أو التصريح عليها. غير أن النقطة المفصلية في الرؤية هي: مفهوم الدنيوية الذي يعني فصل الحقل السياسي عن الحقل الديني. إعادة النظر في الشرعية الدينية وإمارة المؤمنين باعتبارها حقلا لاستمداد الشرعية السياسية والقانونية. التدرج بالملكية نحو المزيد من نزع الصلاحيات ،حتى الوصول بها إلى النموذج الاسباني. اعتماد القيم الكونية أساسا للاختيار الديمقراطي. وبعد سمةُ أي رؤية ناجحة أن تستوعب الخريطة السياسية ومكوناتها والفاعلين فيها. وأن نفهم طبيعة النظام السياسي، وآليات اشتغاله وإمكانات تجديده. والذي يبدو أن البيان كان هاجسه الأساس هو تصفية القيم الدينية وإبعادها عن الحقل السياسي، وتقليص صلاحيات الملك بما يعني ذلك الحسم مع إمارة المؤمنين، والتقليل من الصلاحيات التنفيذية، وحصرها في الدفاع والأمن الوطنيين. وقد حرص البيان كما أشرنا سالفا أن يتسم بنوع من التفصيل في هذه النقاط بينما اكتفى بالعمومات اللفظية فيما عداها، مما يعطي الانطباع بأن جوهر المشكلة في تصور جمعية بدائل تتمحور في: تجديد الملكية. علمنة الدولة. منع تجذر الحركة الاسلامية، وتقييد أدائها، والتحكم في برنامج عملها. وإذا كان هذا الطرح متعذر التحقق إلا بتحالف علماني مع الملكية ضمن رؤية يحملها مشروع مجتمعي، تسنده كل شرائح المجتمع. فإن الواقع يتجه في السيناريو الأقرب تحققا وهو ملكية قوية متشبتة بإمارتها وشرعيتها الدينية منفتحة على قيم الحداثة والتقدم جامعة لجميع الطيف السياسي والفكري.. وضمن هذا السيناريو تجد الحركة الإسلامية نفسهان برصيدها الفكري والقيمي وتجذرها الجماهيري في عقد شرعي وسياسي مع الملكية يرعى مصلحة الوطن ويحافظ على وحدة المغاربة كل المغاربة. بلال التليدي