في المقال السابق أثبتنا دور الإسلام في المجتمع، وأنه يدخل في هذا الدين وضع الخطوط العريضة للحكم.. وللاقتصاد.. وللاجتماع، وأن هذه الخطوط عريضة.. منفتحة.. قائمة على أصل العدل الذي هو بصمة الإسلام. في هذا المقال ننتقل إلى القسم الثاني منه، وهو أن الإسلام الذي يضع هذه الخطوط العريضة للحكم لا يتورط فيه ولا يذكر نظامًا لتحقيق هذه الخطوط. إن هذا يبدو للبعض مناقضًا للأول، فإذا كان الإسلام لا يتولى بنفسه الحكم، فلماذا وضع هذه المبادئ؟ وقد يمكن الرد عليهم بأنه إذا كان هو من سيحكم بنفسه فإنه لم يكن هناك من داع لوضع خطوط عريضة، لأنه من المفهوم بداهة أنه سيحكم بما يقضي به الإسلام، فلو أعمل المتسائلون عقولهم لوجدوا أن وضع خطوط عريضة يعني ضمناً عدم الممارسة الفعلية للحكم. ولكننا قد نطالب الناس بشيء ليس في مقدرتهم، فلا يزالون يتساءلون: لماذا لا يجوز للإسلام أن يمارس الحكم؟ وكيف، إذن، سيتأتى تطبيق الخطوط العريضة التي وضعها؟ الرد: إن الإسلام أصلاً هداية، بمعنى أنه عقيدة تقدم إلى الناس لهدايتهم، فمن آمن بها فإن الإسلام يكون قد أدى دوره، أما من لم يؤمن بها فلا يستطيع الإسلام أن يفعل له شيئاً، لأن الهداية لا تفرض، فهو يترك أمره لله تعالى يتولاه يوم القيامة. وإذا كان الإسلام، بطبيعته ووسائله، هداية ً، فإن هذا يتناقض مع طبيعة ووسائل الحكم، لأن الحكم يقوم على سلطة، والسلطة تعتمد على الإكراه أو الإغراء، فيمكن أن تحاكم من يعارضها وتحكم عليه بالسجن أو الإعدام أو يمكن أن ترشيه بالمال أو المناصب فيميل إليها ويصبح من أعوانها. ومن الواضح أن هذا يخالف نمط وروح هداية الدين بالحكمة والموعظة الحسنة حتى يؤمن، ولا يمكن أن يؤمن إلا بالقبول الطوعي والاقتناع القلبي دون أي ضغوط، بل وبصورة تجعله يفضل التضحية في سبيل هذا الإيمان بكل شيء بما في ذلك نفسه. إن وازع القرآن يختلف تمامًا عن وازع السلطان الذي يجعل الفرد لا يستسلم له إلا خوف القوة أو الرغبة في مال وجاه ومنصب، وهذا أبعد ما يكون عن الإيمان القلبي العميق. هذا الاختلاف في الطبائع هو ما يجعل الدين غير مؤهل لممارسة الحكم لأن طبيعة الحكم وأدواته تختلف أو حتى تتناقض مع طبيعة الإسلام وأدواته . وفي كتابنا «الإسلام دين وأمة.. وليس ديناً ودولة» (400 صفحة)، شرحنا بإسهاب هذه الفكرة، واستبعدنا تمامًا فكرة الدولة الإسلامية التي تتولاها مؤسسة إسلامية أو شيوخ أو دعاة يريدون تطبيق الشريعة، وجاء هذا الاستبعاد مبنيًا على أساسين: الأول: اختلاف هذا عن الدور الطبيعي للإسلام كدعوة هداية تقف عند تبليغ الدعوة، وأن ممارسة الإسلام الحكم لتطبيق ذلك هي رغبة نبيلة ولكنها لا تتم بإقامة حكومة إسلامية. والأساس الثاني: التناقض ما بين طبيعة الدين وطبيعة السلطة، فطبيعة الدين القِيَم والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، أما طبيعة السلطة فهي القهر والإرشاء، والسلطة هي مجمع الإغراءات.. تصب فيها كل الإغراءات.. إغراءات المال.. إغراءات النساء.. إغراءات الزهو.. إغراء السيطرة على الناس وقهرهم، وهذه كلها -من وجهة نظر الإسلام- ظلمات بعضها فوق بعض، فكيف يمكن لهذه الظلمات أن تحقق الهداية أو تطبق الشريعة؟ إن حكم التاريخ قد أثبت أن أي محاولة للجمع ما بين الدين والسلطة قد أسفرت عن استغلال السلطة للدين، وأن الدين فقد كل جوهره حتى وإن احتفظ بشكلياته. فعندما قامت الخلافة الإسلامية تحولت، بعد حوالي 30 عاما من قيامها، إلى ملك عضوض استمر ألفا وأربعمائة عام عندما أنهى مصطفى كمال أتاتورك هذه الخلافة المزعومة. وعندما كونت المسيحية دولة، تحولت المسيحية في هذه الدولة من إشاعة للمحبة والسماح إلى محكمة تفتيش تحكم بأقصى صور التعذيب قسوة ووحشية. بل عندما أراد العمال تكوين دولة تنقذهم من استغلال الرأسمالية، وقعوا في قبضة السلطة التي جعلتهم أشبه بعمال السخرة القديمة وانحطت النقابات إلى أجهزة للحكم . كل هذا لأن طبيعة الدولة كأداة قهر وأداة حكم وإغراء.. إلخ، تتناقض مع طبيعة الدين كرسالة هداية وقيم. قد يقولون: ولكن الإسلام كوَّن دولة في عهد الرسول، وفي عهد الخلفاء الراشدين، فهل ننكر ذلك؟ نقول: إن الدولة التي أقامها الرسول (وسنرى أنها تفقد أبرز مقومات الدولة) لم تتم بنص من القرآن أو كجزء من رسالته، ولكن بحكم السياق التاريخي للأحداث، فقد حاك المشركون مؤامرة مُحكمة لقتل الرسول، وعلم بها الرسول، فكان لا بد أن ينجو منها، ولا يمكن أن ينجو منها إلا بترك مكة، فرسم خطة أن ينجو من مكة ومؤامراتها ليذهب إلى المدينة، هذه المدينة التي كانت قد فتحت بالقرآن، لأن الرسول أرسل إليها مصعب بن عمير، فقام مصعب بن عمير بالدعوة إلى الإسلام وإشاعة القرآن، فأسلم معظم أهلها، فأصبحت مدينة مسلمة، فكان من الطبيعي أن يذهب إليها الرسول، وكان من الطبيعي أن يستقبل أهلُها المؤمنون رسولَهم العظيم، وما إن يهل عليهم حتى ينشدوا: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع.. أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع.. إلخ، أي أنه وجد جمهورًا مؤمناً يسلم إليه مقاليد الحكم، فأقام مجتمعًا وأنشأ أمة، لأن هذا المجتمع كان يفقد أكبر خصائص الدولة، فالدولة، في المصطلح الفني لها، لا بد أن يكون لها جيش دائم.. وبوليس.. وسجون، ولا بد أن تفرض ضرائب، ولم يكن في المدينة شيء من هذا، فلم يكن فيها جيش دائم، وظل ذلك حتى عهد عثمان عندما لم يكن في المدينة جيش يطرد بضع مئات من شذاذ الآفاق سيطروا على المدينة، ولم يكن بها بوليس، ولم يكن بها سجن، ولم تفرض ضرائب، بل سنت الزكاة التي تؤخذ من الغني لتعطى للفقير، فلم يكن هذا في حقيقة الحال «دولة» حتى وإن كتب الرسول إلى الملوك أو قاد الغزوات، ولم يكن قيامه تطبيقاً لنص قرآني، ولكن بحكم سياق الأحداث ولضرورة الدفاع، وأهم من هذا كله أن حاكم هذه المدينة كان رسولاً يوحى إليه ويصحح الوحي بعض تصرفاته، فهل يمكن أن يتكرر هذا في التاريخ. قد يقولون: وأمر خلافة أبي بكر وعمر؟ نقول: إن خلافة أبي بكر وعمر لم تأت أيضًا بنص من القرآن، ولكن بسياق التاريخ، فقد استطاع أبو بكر أن يكسب تأييد الأنصار أهل المدينة وكسب بالتالي تأييد المهاجرين وبقية المسلمين وحكم في ظل أثر الرسول الذي كان لا يزال قويًا.. حيًا.. في المدينة، وقبل أن يموت استخلف عمر، وحكم عمر بعبقرية فذة، وعندما طُعن، طُعنت الخلافة . إن عدم صمود الخلافة لأكثر من خمسة عشر عامًا هو أعظم دليل على أن هذه الخلافة إنما قامت بفضل سياق الأحداث، وبفضل بقاء الأثر النبوي لخمسة عشر عامًا بعد حياة الرسول، أخذ بعدها يخفت أثره شيئاً فشيئاً، بحيث لم يجد معاوية قوة تمنعه من إقامة الملك العضوض، والحكم بمانيفستو الإرهاب الذي أعلنه زياد بن أبيه. آن للمسلمين أن يعلموا أن كل تجارب إقامة دولة لتطبيق الشريعة فشلت وأشاعت الفوضى وفرضت القيود وعطلت الحريات وأوقفت التنمية، وأدت إلى نشوب الحرب الأهلية وتخلف البلاد، وأن هذا حدث في السودان الذي أدت فكرة تطبيق الشريعة فيه إلى انفصال الجنوب، وحدث في نيجيريا، وحدث في الأفغان أولاً عندما حكم المجاهدون ففشلوا، وحدث عندما سادت طالبان وأرادت إقامة حكم إسلامي حقيقي يقوم على الإسلام (وفي الحقيقة، فإنه قام على عدد من الأحاديث الضعيفة). وليس معنى هذا ألا تطبق الشريعة، ولكن معناه أن التطبيق السليم لها لا يجوز أن يأتي من الحكومة، ولكن من الأمة المؤمنة بالشريعة (وليس الحكومة)، والتي تضغط على الحكومة لتطبيقها. والحكومة عندما ترى أن هذا مطلب الشعب، فإن واجبها الديمقراطي الاستجابة، وفي هذه الحالة توجد ضمانات نجاح التطبيق، لأنه جاء من الشعب، ولأن الشعب يشارك فيه ويتابعه ويحول دون استئثار الدولة. فإذا كان الأمر كذلك، فعلينا أولاً أن نعمق الإيمان بالشريعة، وفهم الشريعة الفهم الحقيقي أنها العدل ومواصلة ذلك حتى تصبح إرادة شعبية تطبقها الدولة تحقيقاً لسيادة الأمة، وبهذا نحقق الديمقراطية ونضع الضمانات لصلاح تطبيق الشريعة، أما أن نركز الجهود على الحكومة لتطبيق الشريعة، فلن نحصل بذلك إلا على نسخة أخرى من السعودية أو طالبان، ويمكن القول إن ما يتحقق نتيجة ذلك هو أبعد ما يكون عن الشريعة، وإن الشريعة قد تكون مطبقة في بلد يحمل علم الصليب (سويسرا) أكثر من بلد يحمل لواؤه «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، لأن الشريعة هي العدل، والعدل مطبق في سويسرا وغير مطبق في السعودية. .