عدد من المؤسسات الخيرية التي تؤوي الأطفال والفتيات وتقوم بعمل إنساني لم تسلم هي الأخرى من الممارسات الشاذة والسلبية. ظواهر كثيرة أصبحت تنخر الوسط الخيري، فبعد ملف عين الشق الذي أثار ضجة كبيرة، واقتيد على إثره مسؤولون إلى ردهات المحاكم وأدخلوا السجون، وكشف الستار عن مشاهد مؤلمة، تمثل دار الطفل سيدي بالعباس، الموجودة بالقرب من باب اغمات بمراكش، فصلا جديدا من فصول هذا الفيلم المتكررة أحداثه في عدد من المؤسسات الخيرية ودور الأطفال بعدد من المدن. لم يكن من السهل التحقق من الأخبار التي تتسرب من دار الطفل سيدي بالعباس، خصوصا أن بعضها يؤكد انتشار السرقة داخل الخيرية وخارجها من قبل النزلاء أنفسهم، وكذا ممارسة التسول بساحة جامع الفنا والأماكن التي تعج بالناس، إضافة إلى وضع بعض الفتيات المقيمات بالخيرية أرجلهن الأولى في سكة الدعارة وامتهان فن «الغواية» مقابل دراهم معدودة. التسول سبيل الإفطار عمدت «المساء» إلى تعقب خطوات أحد أطفال الخيرية لتتحقق من مدى ممارسة هذا النموذج ل«مهنة» مد اليد. الساعة تشير عقاربها إلى الرابعة وعشرين دقيقة يخرج شاب من نزلاء دار الطفل سيدي بالعباس من باب الخيرية، يتوجه صوب الطريق المؤدية إلى ساحة جامع الفنا. قطع «هشام»، البالغ من العمر 19 سنة، مسافة خمسة كيلومترات من أجل الحصول على مواد يمكن أن يغني بها مائدة إفطاره خلال شهر رمضان. لم تمنع الأمطار التي هطلت ذلك اليوم «هشام» الذي يدرس بالسنة الثانية باكلوريا شعبة علوم رياضية, من القيام بالجولة التي يقوم بها بعض أصدقائه بساحة جامع الفنا، والمناطق المجاورة التي تتمركز فيها دكاكين المأكولات. شهية «هشام» ذاك اليوم انفتحت على عصير البرتقال، تردد ابن مدينة مراكش على العشرات من باعة عصير الليمون من أجل كوب عصير، لكن تسوله كان يقابل دائما بعبارة «لقيتو لراسي»، لم يمل الفتى من ردود فعل أصحاب «جلسات» العصير التي تطوق جنبات الساحة الشهيرة. اقتربت «المساء» من «هشام» لتسأله عن أسباب لجوئه إلى التسول, فحاول في بداية الأمر التهرب من الجواب لكن بعد لحظات سيفتح قلبه من أجل البوح بالحقيقة وكشف عورة بعض الاختلالات التي تعرفها دار الطفل سيدي بالعباس. وجبات الإفطار خلال شهر رمضان تكاد تنحصر في «الحريرة» وبيضة واحدة وتمر و«شباكية» و«بطبوطة» أو «مخمارة»، «تيقول ليك إيلا كلتيها دابا ما كاين ما تاكل فالسحور»، يوضح صديق «هشام» ل«المساء». مادة الحليب داخل وجبة الفطور غير موجودة، على اعتبار أن دار الحليب التي كان ترسل خلال الأعوام السالفة هذه المادة الأساسية لنمو الأطفال، إضافة إلى بعض منتوجاتها ك«منعش» لم تعد ترسلها خلال هذه السنة. يظهر أن هذا الاتفاق قد تم إلغاؤه، و«دابا ولاو تيديبانيو روسهوم»، يقول «هشام» بحسرة شديدة. هذا الوضع، خلال شهر رمضان يجعل البعض يختار أسهل الطرق (التسول) لتوفير إفطار متكامل، بدل البحث عن عمل كما البعض الآخر. وبخصوص ما إذا كان أحد الأطر التربوية التي تشتغل بالمؤسسة يملي على النزلاء الخروج إلى ساحة جامع الفنا للتوسل نفى «إدريس» صديق «هشام» ذلك: «المسؤولين تما متيكولوش للدراري سيرو سرقو ولا سيرو طلبو، بالعكس تيكولو ليك سير تخدم، دبر على راسك جيب حوايج ولا جيب شي حاجة». غياب توازن إذا كانت الكتب واللوازم الدراسية متوفرة بالشكل الكافي، حسب إفادة عبد العزيز عدي، المدير الجديد لدار الطفل، لأن المحسنين يسارعون إلى فعل الخير في مثل هذه المناسبات، منهم (المحسنون) من دفع قبل أيام من الدخول الجديد خمسة ملايين سنتيم ، فإن العديد من نزلاء دار الطفل لا يستفيدون من الملابس التي تمنح إلى الخيرية من قبل المحسنين. الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين ست سنوات واثنتي عشرة سنة، والفتيات هن اللواتي يستفدن من الملابس التي يتم تخزينها بأحد مخازن الدار، «بعدا الملابس كاع لا تهضر عليها، السنوات الأخيرة عمرنا ما قبطنا شي ملابس»، يضيف صديق «هشام» «ملي كنا صغار وطلعنا من الجناح الثاني، للجناح الثالث بدينا تنديبانيو راسنا»، لكن بعض النزلاء «الكبار» يلجؤون إلى استعمال «شرع إيديهم»، بحيث يقوم البعض باقتحام «الديبو» ويكسر أقفاله للحصول على الملابس التي لا يستعملها إلا بعد مرور مدة من سرقتها. وفي معرض توضيحه للتمييز الذي يعرفه توزيع الملابس على النزلاء، قال مدير دار الطفل عبد العزيز بن عدي، الذي لم يمر على تسلمه لمسؤولية إدارة دار الطفل سيدي بالعباس سوى ثلاثة أشهر، في حديث ل«المساء» إن هناك تسيبا كان في فترة من فترات التسيير داخل الخيرية، «واملي تلقا عرام ديال الملابس مكركر عرفو مزعطر». لكن عددا من الاختلالات التي تعرفها مرافق دار الطفل يعد بن عدي بتقويمها وفق منطق إنساني اجتماعي، حسب تعبير المدير الجديد. حالات السرقة داخل دار الطفل سيدي بالعباس لا تعد ولا تحصى. يحكي الطفل بدر الدين الذي لا يتجاوز عمره 14 سنة، كيف بات ليلة يمتلك هاتفا محمولا، لكن في الصباح وبمجرد أن استيقظ من نومه لم يجده تحت وسادته، «كنت أستعمله للتحدث مع أمي وإخوتي الصغار»، يقول بدر الدين، الذي يدرس في السنة الثانية إعدادي. هناك أشخاص معروفون بين أوساط النزلاء بالقيام بأعمال السرقة، لكن قوتهم وجبروتهم داخل الخيرية تجعل السؤال عن الشيء المفقود جرما ومحرما وفق قانون الغلبة والغابة الذي يسود بين النزلاء أنفسهم. لا تقتصر حالات السرقة على داخل الدار بل تتعداه. يحكي أحد النزلاء كيف أن بعض زملائه داخل الخيرية يقومون يوميا بجولات من أجل رصد بعض الأماكن التي يمكن أن تكون مكان صيد، «بعض أصدقائي يقومون بسرقة الأكل من المطاعم وأحيانا سرقة الأموال عن طريق الكريساج»، يضيف بدر الدين ل«المساء»: «فراسكوم الحالة اللي مؤخرا تشدوا خرجو تايكريسيو راه تحاكموا قضائيا»، ينادي ابن ال 14 فجأة على زميل له في المؤسسة الخيرية، كان يتجول هو الآخر بساحة جامع الفنا من أجل البحث عن لقمة يؤثث بها مائدة إفطاره، يسأله بدر الدين عما إذا تعرض هو الآخر للسرقة داخل الخيرية، فيؤكد صديق بدر الدين حالات السرقة التي يقوم بها أشخاص معروفون بهذا الفعل الذي يتضرر منه النزلاء بشكل كبير. هذه الظاهرة التي تنتشر بشكل كبير في ما بين نزلاء الخيرية، لم تستطع أطر المؤسسة إيجاد حل لها لأنه «كيف يمكن أن تتهم شخصا وهو غير متلبس»، يوضح أحد مؤطري دار الطفل ل«المساء». العقاب وإن كان يفلت منه مما رسو السرقة داخل الخيرية، فإن الأطفال (ما بين 6 سنوات و12 سنة) الذي يخصص لهم جناح خاص يتوفر على كل التجهيزات من أفرشة وتلفاز من الحجم الكبير، ليس لهم نصيب من الإفلات من العقاب. يتذكر عبد اللطيف الذي يشتغل حاليا مع أحد أصحاب «جلسات» الأكل بساحة جامع الفنا، كيف تمت معاقبته بحلاقة رأسه «التصليعة»، بمجرد أن تشاجر مع أحد أصدقائه وكان يبلغ آنذاك 6 سنوات، «صلعو ليَّا راسي كولو، وبداو كيضحكو علية صحابي» عقابا له على الشجار مع صديقه. موظفون وأبناء ميسورون يستغلون الخيرية إذا كانت الخيرات في المغرب تخصص لذوي الاحتياجات والذين تخلى عنهم ذووهم، فإن خيرية سيدي بالعباس لا تحترم ولا تنضبط لهذه المعايير المقررة والمتعارف عليها، إذ تؤوي أبناء أسر ميسورة، هؤلاء فضل آباؤهم وذووهم وضعهم في دار الطفل سيدي بالعباس. لكن ما الذي يجعل أبناء عائلات وأسر ميسورة يوجدون بمكان لا يؤوي سوى من ينبذهم الشارع، أو تقطعت بهم أواصر الأسرة الحميمية؟ الجواب بالنسبة إلى أحد أطر الخيرية هو أن بعض الآباء يفضلون أن يكونوا بمنأى عن المشاكل التي يسببها لهم أبناؤهم، ناهيك عن توفير مصاريف كثيرة. هناك فئة أخرى «تحتل» دار الطفل سيدي بالعباس، وهي ثلة من الموظفين الذين تربوا منذ نعومة أظافرهم داخل الخيرية، لكن وبعد أن درسوا واشتغلوا في وظائف معينة رفضوا إخلاء المكان لعدد ممن ينتظرون دورهم. لا يدري العديد من الذين يستغلون الأسرّة والأطباق التي تقدم يوميا للنزلاء... والمسؤولون عن الخيرية، وأولياء العديد من الأطفال الذين ينتمون إلى الأسر الميسورة, أن الإمكانيات التي يستغلونها هناك من هو أحوج إليها من الأطفال الذين لا زالوا في لائحة الانتظار للاستفادة من الإيواء والتأطير بدل التشرد والمعاناة من الحرمان. الحل في نظر مدير دار الطفل سيدي بالعباس هو فتح حوار مع الذين «يحتلون» أماكن داخل الخيرية، وخصوصا الذين لهم القدرة على إيجاد مسكن لهم. كانت الخيرية تعيش نوعا من التسيب وسوء التدبير، ولذلك ظهرت سلوكات سلبية تزيح دار الطفل عن مقصدها، فبالرغم من التنظيم الذي تتميز به شؤون الخيرية، والأجواء المنفتحة التي تطبع العلاقة بين النزلاء والمؤطرين، فإن هذا لم يمنع من ظهور بعض الظواهر والممارسات إلى السطح، خصوصا إذا كان بعض النزلاء وصلوا إلى مرحلة المراهقة والطيش، يعرف محمد (17 سنة) وهو من النزلاء القدامى بالخيرية بعض الفتيات اللواتي يقمن بالخيرية ولهن علاقات عاطفية مع بعض الشباب. ويؤكد صديق لمحمد حالة زميلة له في الفصل الدراسي ومقيمة بدار الطفل سيدي بالعباس تقيم علاقات غرامية مع عدد من الشباب «مصاحبة مع بزاف ديال الدراري»، لكن ما الغرض من هذه العلاقة؟ يجيب صديق محمد «تحصل بالمقابل على المال»، وهو ما يراه مدير دار الطفل مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الدار التي تؤوي 409 نزلاء، وتضم 78 مؤطرا. المدير يرى أن الجهد يجب أن ينصب على التأطير والتربية قبل الاهتمام بالمأكل والمشرب.