لأنهم لم «يسْلقوا» مسلسلهم التاريخي، كما يفعل معظم فنانينا، وخاصة منهم أولئك الذين حولوا شهر رمضان إلى «وْجيبة» فنية، تدفعهم إلى المشاركة في أعمال يتم الاشتغال عليها وفق شروط تقترب من «التسْلاكْ» وتبتعد عن الإبداع، فقد تمكن الإيرانيون من أن يضمنوا درجة متابعة عالية لمسلسل «يوسف الصديق» بين المشاهدين، عبر مختلف بلدان العالم، سواء عند عرضه عبر فضائية «الكوثر» أو عبر فضائية «المنار». ويحكي مسلسل «يوسف الصديق» قصة من قلب التاريخ الإنساني، من وجهة نظر القرآن الكريم، وكيف سرد الأحداث والوقائع التي جرت مع النبي يوسف، منذ قوله إنه رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين، إلى إلقائه في الجب من طرف أخوته، وقصته مع زوليخا، زوجة عزيز مصر، ودخوله السجن وخروجه منه نحو كرسي الحكم، قبل أن تنتهي القصة بلقائه والده، النبي يعقوب. واللافت أن جودة العمل لم تأت من فراغ، بل بناء على جهد مدروس واشتغال مهني تواصل على مدى ثلاث سنوات ونصف، تم خلالها تصوير الحلقات ال45 بطريقة احترافية، واستثمار تكنولوجيا المعلومات عند الاشتغال على بعض المشاهد، من قبيل مشهد سجود الكواكب ليوسف، ومشاهد البقرات السمان والعجاف، والسنابل الخضر واليابسات، مع التوفق في اختيار وإعداد أماكن التصوير، بشكل يراعي الحقائق التاريخية، في زمن الفراعنة، علاوة على ملاءمة كل ذلك بحسن اختيار وتوظيف الأزياء والماكياج والموسيقى التصويرية. ولم تمنع جودة العمل، على المستوى الفني، من ظهور بعض الانتقادات التي وصل بعضها إلى درجة إصدار فتوى ب«تحريم المسلسل»، لأنه «يجسّد صورة نبي الله يوسف وصورة الوحي»، خاصة وأنه «لا خلاف بين الفقهاء على حرمة تمثيل أدوار الأنبياء بأشخاصهم»، مشددين على أن «مُنطلق التحريم هو أنّ تمثيلهم ليس مطابقا للواقع، كما أنه قد يؤدي إلى إيذائهم وإسقاط مكانتهم». وبعيداً عن القيمة الفنية للعمل والآراء المرحبة أو المنتقدة، يبقى من عادتي أن أستمع إلى سورة «يوسف»، بصوت المقرئ سعد الغامدي، وكلما عدت إلى دواوين الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، تلمسْت ما تخفيه سطور قصيدة «أنا يوسف يا أبي»، حيث نقرأ : «أَنا يوسفٌ يا أَبي. يا أَبي، إخوتي لا يحبُّونني، لا يريدونني بينهم يا أَبي. يَعتدُون عليَّ ويرمُونني بالحصى والكلامِ يرِيدونني أَن أَموت لكي يمدحُوني وهم أَوصدُوا باب بيتك دوني وهم طردوني من الحقلِ هم سمَّمُوا عنبي يا أَبي وهم حطَّمُوا لُعبي يا أَبي حين مرَّ النَّسيمُ ولاعب شعرِي غاروا وثارُوا عليَّ وثاروا عليك، فماذا صنعتُ لهم يا أَبي؟ الفراشات حطَّتْ على كتفيَّ، ومالت عليَّ السَّنابلُ، والطَّيْرُ حطَّتْ على راحتيَّ فماذا فعَلْتُ أَنا يا أَبي، ولماذا أَنا؟ أَنتَ سمَّيتني يُوسُفًا، وهُمُو أَوقعُونيَ في الجُبِّ، واتَّهموا الذِّئب؛ والذِّئبُ أَرحمُ من إخوتي.. أبتي! هل جنَيْتُ على أَحد عندما قُلْتُ إنِّي : رأَيتُ أَحدَ عشرَ كوكبًا، والشَّمس والقمرَ، رأيتُهُم لي ساجدين؟». وبين «قصة يوسف»، كما جاءت في القرآن الكريم، و«قصيدة يوسف»، كما أبدعها شاعرنا الراحل، دخلت القصيدة –الأغنية، التي أداها الفنان اللبناني مارسيل خليفة، إلى المحاكم عام 1996، بتهمة «تحقير الشعائر الدينية». ويبقى لاسم «يوسف» سحر كبير، ولذلك اختاره بعض معتنقي الإسلام لقبا، تماما كما حدث مع مغني البوب الشهير كات ستيفنس، الذي سيتعلق، في مرحلة دراسته للقرآن الكريم، بقصة النبي يوسف، التي قال عنها «إنها قصة مذهلة عن ذلك النبي وكل ما واجهه من محن، وقد كان كل ذلك متعلقاً بمعرفة المرء لذاته ومنظور الآخرين له، وكيف أن البعض قد يسيئون فهمك». وفي المغرب، يحتفظ المؤرخون ليوسف بن تاشفين، أمير المرابطين، بأجمل الحكايات، وهي حكايات تصلنا، اليوم، مع كامل الأسف، منقوصة من دفئها، من جهة أن ضريح مؤسس المدينة الحمراء، أمير المسلمين وبطل الزلاقة، متروك لدخان الحافلات ورائحة المازوط، الذي توزعه إحدى محطات البنزين.