وأنا أتجول بين قوائم القنوات الفضائية على اتجاه نايل سات استوقفني برنامج مسار الذي تبثه القناة الثانية حيث تمت استضافة إحدى الفنانات المغربيات، بحضور فنانين وباحثين يتناوبون على البلاطو من أجل الإدلاء بشهاداتهم في حقها. وعلى قدر إعجابي بفكرة البرنامج القائمة على التعريف بمسار الفنانين تباعا وتكريمهم تكريما معنويا في حياتهم، وعلى قدر استمتاعي بفقرات البرنامج الذي تضمن أعمالا فنية مغربية أصيلة، تأكد معه عندي من جديد عبقرية المغاربة وقدرتهم الخلاقة على الإبداع.فإنني في المقابل استأت من الصورة التي تتشكل في ذهن المتلقي- خاصة و أن البرنامج مشاهد عالميا-حول الفنانين المغاربة بأنهم محتاجون و أن أحوالهم الاجتماعية متردية و أنهم على قدر نضالهم من أجل التألق و التميز على قدر نضالهم بعد نجوميتهم ضد شظف العيش و ضيقه. فتذكرت أساتذة المعهد البلدي بالدار البيضاء و الذين تخرجت على أيديهم أجيال من الفنانين الكبار ، و تذكرت منهم خاصة أولئك الذين ليس لهم أي عمل ثان و أنهم خ من منطلق أصالتهم و سمو أخلاقهم و رفعة قدرهم و تقديرهم لرسالتهم التربوية من خلال الفن الذي يلقنونه لطلبتهم- رفضوا أن يذهبوا لتنشيط الليالي الحمراء في الفنادق و الكاباريات حيث من الممكن أن يحصلوا في الليلة الواحدة على أضعاف ما يتقاضونه خلال شهر كامل داخل المعهد، و تذكرت كيف أنهم بدون أدنى شروط العيش الكريم حيث يتقاضون أجرة لا تصل ألفا و خمسمائة درهم في الشهر،و هم ليسوا موظفين تابعين للجماعة الحضرية ،بحكم أن المعهد هو من المرافق التابعة للجماعة الحضرية،و قد جاءت وحدة المدينة بالدار البيضاء لتكون وبالا عليهم وليكونوا هم أول ضحاياها، حيث فرض على كل واحد منهم عدم الاشتغال في أكثر من معهد و فرض عليهم سقف عددي لساعات الاشتغال، بل ـ و أدهى من كل ذلك و أمر خ فإنهم لحد الآن محرومون من الحصول على أجرتهم البئيسة بانتظام، حيث تُؤَخر عنهم لمدة خمسة شهور أو تزيد، و شهدت كيف أنهم خلال هذه السنة على الأقل لم تسلم إليهم أجرتهم عن شهور الصيف و بداية هذا الموسم إلا في وقت متأخر مما زاد من معاناتهم خاصة مع تلاحق عدة استحقاقات اجتماعية مثل الدخول المدرسي وشهر رمضان وعيد الفطر ....وشهدت كيف أن الواحد منهم لا يثنيه فراغ جيبه من الحضور إلى المعهد و تقديم دروسه لطلبته، حتى إن منهم من لم يكن يجد حتى ثلاث دراهم ونصف لركوب طاكسي كبير من الحي المحمدي إلى مركز المدينة فأتى مشيا على الأقدام تلك المسافة كلها،و رأيت كيف كانت معاناتهم ـ التي لا يبوحون بها لأحد ـ مع حلول عيد الأضحى حيث تأخرت عنهم الأجرة -التي تبعد عن الحد الأدنى للأجور بمسافات- شهورا و أنهم عندما ذهبوا ليأخذوا مستحقاتهم لم يجدوا إلا مستحقات شهر واحد !!!! إن الفنانين المغاربة نخبة داخل مجتمعنا ومندمجة في قضاياه و همومه اليومية و يعبرون عنها من خلال إبداعاتهم الفنية، وإن للفن رسالة ثقافية و حضارية هامة و خطيرة، فقديما قيل أعطني مسرحا أعطيك شعبا.و إن ما صرنا نشاهده في أوساط شبابنا من غياب تأطير و تيه فني و هرج و مرج، و تراجع عام في مجال الإبداع الفني المغربي وفق النكهة و الخصوصية المغربية، نتيجة طبيعية لتدهور العناية بالفنانين، و تدهور الاهتمام بالشأن الثقافي و الفني سواء على مستوى الحكومة أو على مستوى الجماعات المحلية، وإن المهرجانات الفنية وحدها لا تصمد أمام المعضلات البنيوية التي يعانيها فنانونا الكبار منهم و الصغار،و إن إدماج التربية الموسيقية والفنية في منظومتنا التعليمية لا يمكن أن يستقيم بدون أن يكون للأساتذة الذين تخرج على أيديهم كبار الفنانني ـ كما أسلفت ـ دور في هذه العملية،و لن يكون لدورهم الحالي في المعاهد البلدية أي أفق مالم يتم إنهاء حالة الاضطراب لوضعيتهم المهنية حيث يجب أن يدمج كل من ليس له أي عمل ثان منهم (وعددهم محدود) في أسلاك الوظيفة العمومية إما بالتبعية للجماعات المحلية و إما لوزارة الثقافة حتى يتم القضاء على حالة اللامساواة بينهم و بين زملائهم العاملين بالمعاهد التابعة لوزارة الثقافة،ثم إن منهم من هو مستعد للاشتغال طيلة أيام الأسبوع من الإثنين إلى السبت في التدريس بالمعهد فلماذا يلزمون لثلاثة أنصاف أيام.؟.. إن النهوض بأوضاع الفنانين المغاربة شرط أساسي لأي إقلاع فني مرتقب وإلا فإننا في المقابل نهدم كياننا الحضاري والثقافي بفسح المجال أما ما تؤزنا به العولمة الثقافية الحابلة بالأذواق المرتبطة بثقافات و خصوصيات حضارية أخرى. في الختام، أريد أن أتقدم بتحية إجلال وإكبار للفنانين المغاربة الذين آمنوا بانتمائهم و كرسوا جهودهم للمساهمة في البناء الثقافي و الحضاري لهذه الأمة، و إني واثق من أن كل ألوان المعاناة التي لاقوها و مازالوا،لن تعيق إصرارهم على المضي قدما من أجل مغرب أصيل ومشع بثقافته و فنه الغني بتنوعه ووفرته وأصالته.